للقراءة والتحميل : المعمار العثماني في عهد السلطان محمد الثاني الفاتح؛ مظهر تنوع ثقافي - 7

جريدة الحياة؛21/9/2007م، الصفحة: 21 . د. محمود السيد الدغيم *اضغط هنا

المعمار الإسلامي العثماني في الدور الأول المسمى دور بورصة أوبروسة في عهد السلطان محمد الثاني الفاتح -7
محمود السيد الدغيم
باحث أكاديمي سوري مقيم في لندن

تعددت أسماء مدينة إستانبول، فقد كانت تسمى بيزطة نسبة إلى القرصان اليوناني بيزانس، وإلى بيزنطة نُسب الروم البيزنطيون الذين سيطروا على الدولة الرومانية الشرقية التي كانت تحتل شرقي ليبيا ومصر وبلاد الشام والآناضول، وقد نسبت المدينة إلى قسطنطين الأول الذي حكم من سنة 306 حتى سنة 337م، وشيد القسطنطينية على أنقاض بيزنطة في بدايات القرن الرابع الميلادي فسُمِّيت القسطنطينية، وسَمّاها معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما باسم البخراء جراء روائح المياه المحيطة بها من الشمال والشرق والجنوب، وبعدما فتحها السلطان العثماني محمد الثاني سَمّاها إسلامبول، ومن أسمائها الإسلامية: الآستانة، ودار السعادة، وفروق، وأم المآذن، ودار الخلافة، ودار الإسلام. وأخيراً صار اسمها استانبول، وهي رائدة العمارة الإسلامية العصرية المتطورة خلال مدة 470 سنة منذ الفتح سنة 857 هـ/ 1453م حتى إلغاء السلطنة سنة 1923م.

 تعرضت المنشآت العمرانية التي أنشأها السلطان محمد الفاتح للدمار والتخريب جرّاء عوامل الطبيعة والفتن والحروب التي اجتاحت البلدان العثمانية، وكان للزلازل نصيب من وافر من التخريب بسبب الموقع الجغرافي في نطاق خطّ الزلازل الممتدّ من مصر جنوبا إلى روسيا شمالا مرورا بمدينة إستانبول.

ولكن المنشأة المعمارية التي حيّرَت المهندسين هي القبَّة المبنية فوق ضريح الصحابي الجليل أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، وهى من أقدم منشآت السلطان الفاتح هي وجامع أبي أيوب، ولكن الجامع انهار جراء الزلازل، وبناؤه الحالي هو من تجديد السلطان محمود الثاني، أما القبَّة التي فوق الضريح فمازالت قائمة منذ زمن الفاتح حتى الآن لم تتأثر بمئات الزلازل المدمرة، وقد أضاف السلطان محمود الثاني للقبة ممرّ الزيارة المسقوف الذي يدور نصف دورة من ناحية القبلة المجاورة لصحن الجامع، وفصَل بين الجامع وممر الزيارة بأسبلة المياه الأربعة التي مازالت صدقة جارية تروي العطشى.
وأضاف السلطان محمود الثاني غرفة الاعتكاف لابنته الأميرة عادلة، وتقع هذه الغرفة في نهاية ممر الزيارة من الناحية الشرقية الشمالية، وتفصل بين قبة الضريح، ومدخل السرداب المؤدي إلى بئر الشفاء التي مازالت مياهها صالحة للشرب منذ أن طواها المسلمون حينما حاصروا القسطنطينية في خلافة معاوية بن أبى سفيان رضي الله عنهما (41 - 60 هـ/ 661- 679م ) ، وأروع ما في غرفة الأميرة عادلة زخرفة سقفها وجدرانها، وفيها من الناحية القبلية لوحة سيراميك عليها صورة الكعبة المشرفة وما حولها من المشاعر المقدسة، علما أن صور الكعبة على السيراميك نادرة، ووجد منها واحدة في متحف طوب قابي، وواحدة في ورواق جامع رستم باشا الذي بني سنة 1560 م، وواحدة داخل الجامع الجديد (يني جامع) الذي بُنِيَ مابين سنتيّ 1597 و1663م. وربما تكون هنالك بعض صور الكعبة المشرفة على السيراميك ولم نطلع عليها.

ولقد اهتم الأتراك بجامع وضريح أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قديما وحديثا، حيث جرت العادة في مراسم ترسيم الخلفاء والسلاطين العثمانيين على أن يتسلموا سيف عثمان الأول في حضرة أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، ومنذ الفتح حتى الآن لم تتوقف تلاوة القرآن الكريم في قبة الضريح حيث يتناوب الْحُفّاظ على قراءة القرآن باستمرار شأنهم في ذلك كشأن نُظرائهم في دائرة الأمانات المباركة التي تضم الآثار النبوية وآثار الخلفاء الراشدين في متحف قصر طوب قابي، وهذه سُنة سنَّها السلطان محمد الفاتح منذ فتحه مدينة إسلامبول.

ميزات المعمار العثماني في عهد السلطان الفاتح
امتازت الأبنية في عهد السلطان محمد الفاتح بالقوة والكثرة والتنوع، فمزج البناؤون بين الطراز الإسلامي والبيزنطي، وجرت تعديلات معمارية إسلامية على الأبنية البيزنطية أثناء الترميم، ومما لاحظناه من الناحية الفنية والثقافية هو كثرة الكتابات باللغة العربية على المباني التي شُيّدت أو رُمّمت في عهد السلطان محمد الفاتح، ومن الإشارات النادرة الإشارة إلى وصف السلطان محمد الفاتح بالخليفة، وهذه الإشارة موجودة بجامع جشينكير بمدينة مانيسا قرب بازار ظهير، فقد كُتبت فوق باب الجامع عبارة مكونة من سطرين ورد فيها: "بنى هذا المسجد المبارك صاحب الخيرات سنان بك بن عبد الله؛ عتيقي. سلطان محمد خان بن مراد خان في زمان خلافته في أواسط رجب من سنة تسع وسبعين وثمانماية" وذلك يوافق تشرين الثاني سنة 1474م.

وقد تضمنت الكتابات العربية الموجودة على أبنية عهد السلطان محمد الفاتح التأريخ بحساب الْجُمّل الذي استخدمه المسلمون العرب والعجم قبل الفترة العثمانية وأثناءها وهذه بعض النماذج على سبيل الذِّكر لاعلى سبيل الحصر:

بُني حّمام محمود باشا بعد بناء جامعه بأربع سنوات في عهد السلطان الفاتح سنة 871 هـ/ 1466م، ورقمه 26 في مشارع محمد باشا مابين السوق المسقوف وجامع نور عثمانية في إستانبول، ويضمُّ حمامين منفصلين أحدهما للسيدات وثانيهما للرجال، ويسمّى هذا الطرز: الحمام المزدوج "جفت حمام"، ويبلغ ارتغاع القبة الوسطى للحمام 27 م مما يؤمِّن تهوية ومناخا صحيا فريداً من نوعه، ومنقوش فوق بوابة حمام محمود باشا النصّ التالي:
هي بقعةٌ مشحونةٌ بِمِلاحِ
ورُخامُها في الضوءِ كالْمِصباحِ
جَنَّاتُ عَدنٍ فجّرتْ أنْهارها
تاريْخُها: هي راحةُ الأرواحِ
يُستخلَص من الشطر الأخير تاريخ إنشاء الحمام سنة 871 للهجرة.
ومحمود باشا هذا كان من قادة الجيش البيزنطي، وقد أسلم بعد الفتح ونال من السلطان رتبة باشا، وخدم كقائد في الجيش العثماني، وله الكثير من الأوقاف الإسلامية، وبناء جامعه في إستانبول فريد من نوعه من حيث الهندسة المعمارية وسعة المساحة وعدد القناطر وهو من أقدم الجوامع العثمانية التي مازالت قائمة منذ أيام الفتح العثماني.

وبنى السلطان أبا يزيد الأول قلعة "آناضول حصاري" على الساحل الشرقي الآسيوي لمضيق البوسفور في شمال شرق القسطنطينية، وقبل الفتح بني السلطان محمد الثاني قلعة "روملي حصاري" وسميت بوغاز كيسين، أي: قاطعة مضيق البوسفور؛ لأن نيران المدفعية المنطلقة من القلعتين قطعت الطريق على البحرية المعادية للعثمانيين ومنعتها من التنقل بين بحر مرمرة جنوبا، والبحر الأسود شمالا، وبذلك سُمي السلطان الفاتح بمبتكر حروب المضائق البحرية، وتوجد كتابات تأريخية عربية في قلعة روملي حصاري، ومنها:
بنى السلطانُ هذا الحصن قصدًا
لوجهِ المالكِ الأعلى الرَّفيعِ
فصَارَ ببدءِ يومِ السّبتِ خَمْساً
وعشرينا منَ الشَّهرِ الرّبيعِ
تكَمَّلَ وَسْطَ شعبان المؤرخْ
بعونِ الواهِبِ الْمُبْقِي السَّريع
يستخلص من هذه الأبيات أن بناء القلعة قد ابتدأ في يوم السبت 25 ربيع الأول، وتمّ في 15 شعبان سنة 856هـ، وذلك يعني أن البناء ابتدأ في 15 نيسان/ إبريل، وتمّ في 31 آب/ أغسطس سنة 1452م، وبذلك يكون بناء القلعة قد استغرق 139 يوماً فقط لاغير رغم ضخامة القلعة وعلوّ أبراجها.
وقد نقل أولياء جلبي في كتابه الموسوعي سياحت نامه نصا من النصوص المكتوبة في قلعة روملي جاء فيه:
للدين بهِ عِزٌّ، لِلكُفرِ بهِ نُقصان
تاريخ مبانيهِ: بُنيان مُحَمَّد خان
وتوجد في القلعة كتابة عربية على برج زاغنوس باشا الكبير نصًّها: " أمر ببناء هذه القلعة المنيفة، والقلة الرفيعة السلطان الأعظم والخاقان المعظم السلطان محمد بن مراد خان. خلدت مملكته لعبده المكرم ووزيره المنظم زغنوس باشا بن عبد الله، وفرغ منها لتمام شهرين من شهور سنة ست وخمسين وثمانماية".
وتوجد في القلعة كتابة عربية على برج زاغنوس باشا الكبير نصًّها: " أمر ببناء هذه القلعة العلية، والقلّة الجلية السلطان ابن السلطان محمد بن مراد خان خلّد ملكه. العبد الوزير زغنوس باشا، وفرغ منها لتمام شهرين من شهور سنة ست وخمسين وثمانماية هجرية.

وأُرّخ بناء القلعة باللغة الفارسية أيضا ببيت جاء فيه:
ابتدا اش بست وبنجم كشت از ربيع
انتها هم بود در شعبان هر دو "ماه خير"
مجموع حروف الكلمتين الأخيرتين بحساب الجمّل هو 856 هـ
ويوجد تاريخ آخر بالفارسية نصّه:
كشت تاريخ اين حصار عيان
شاه فرخ نمود جون رخ نو
مجموع حروف الكلمتين الأخيرتين بحساب الجمّل هو 856 هـ

ويوجد تاريخ آخر باللغة التركية العثمانية جاء فيه:
آدن بوغاز كسن وروبن خان قلعنك
تاريخك اتدى واقعه اسطنبول استنه 856 هـ.
وتوجد في قلعة روملي نصوص أخرى وأشعار باللغات العربية والعثمانية التركية والفارسية، وهذا دليل على التنوع الثقافي، وعدم التعصب في السلطنة  العثمانية، وكان العلماء والمثقفون حينذاك يتقنون اللغات الثلاث قراءةً وكتابة وكان السلطان محمد الفاتح يتقن اللغات الثلاث، ومازال كتاب سفينة الراغب يشهد على ذلك حيث كتبه راغب باشا باللغات الثلاث العربية والعثمانية والفارسية.
******
نشر هذا الموضوع في جريدة الحياة يوم الجمعة 9 رمضان المبارك سنة 1428 هـ/ 21 أيلول / سبتمبر سنة 2007م
لقراءة الموضوع كما هو في الجريدة بصيغة بي دي اف
اضغط icon Ramadan- 9. 21-9-2007P21-Fatih.pdf (275.39 KB)  هنا
*****

Launch in external player