المعمار الإسلامي العثماني في الدور الأول المسمى دور بورصة أو بروسة في عهدي مراد الأول وأبايزيد الأول -3
جريدة الحياة؛ 16/9/2007م، الصفحة: 21 . د. محمود السيد الدغيم *اضغط هنا*

باحث أكاديمي سوري مقيم في لندن
اتسعت مساحة البلدان المفتوحة في عهد السلطان العثماني مراد الأول كما ازداد عدد الدول المعترفة بالحماية العثمانية، فقد اعترف الصرب بالسيادة العثمانية على بلادهم، وسيطر العثمانيون على منطقة تساليا، ووصلوا شمالاً حتى نهر الطونة أي: نهر الدانوب، وجنوباً حتى آتيكَا، وغرباً حتى ألبانيا، وفي الجنوب الغربي حتى البوسنة التي سمَّوا عاصمتها سراييفو(بوسنة سراي)، ففي سنة 789 هـ / 1388م، دخلت القوات العثمانية بلاد البوسنة بقيادة  لالا شاهين بيلربيك، وزحف الصدر الأعظم جاندرلي زادة: علي باشا على ضفاف نهر الطونة "الدانوب" فاستولى على ما تبقى من المملكة البلغارية. وواكبت الفتوحات نهضة عمرانية إسلامية شملت البلاد المفتوحة، ومازال بعض تلك المنشآت قائما حتى الآن في البلدان التي بقيت فيها للمسلمين باقية بعدما تعرضوا للقتل والتشريد والمذابح الجماعية والتصفيات العرقية القائمة على التطرف الديني، وتخريب المنشآت المعمارية أو تحويلها إلى غير مقاصدها كتحويل المساجد والزوايا والتكايا والمدارس إلى إسطبلات وثكنات عسكرية، وغير ذلك.

ويشهد المؤرخون والآثار العمرانية الباقية على أن العثمانيين لم يكتفوا بالانتصارات العسكرية بل بدأت مسيرة الإعمار الإسلامي برعاية السلاطين والأمراء والقادة العسكريين ورجال الدين الإسلامي؛ وبمواجهة النهضة العمرانية العثمانية قامت حملات تخريب أوروبية، ومنها الحملة الأوروبية التي دعا إليها البابا، وشارك فيها أمراء المجر وبولونيا ورومانيا أي: الأفلاق ومولدوفيا أي: البغدان؛ وبلغاريا، وقاد تلك الحملة بمباركة البابا كلٌّ من ملك صربيا لازار؛ ومساعده ملك البوسنة تفرتيكو، والتقى الأوروبيون مع الجيش العثماني بقيادة السلطان مراد الأول شخصياًّ في سهل قوصوا أي: كوسوفووذلك في 20 حزيران / يونيوسنة 790 هـ/ 1389 م، وأسفرت المعركة عن انتصارٍ عثماني ساحق على قوات التحالف الأوروبي، وبعد تحقيق النصر اغتال مقاتل صربي السلطان مُراد، فاستشهد في قوصوا، ودفنت أحشائه في كوسوفو في القبر المعروف باسم مشهد (خُداوندكار) وبنيت في ذلك المكان عدة منشآت عثمانية مازالت قائمة حتى الآن، ونُقل جثمانُ السلطان إلى مدينة بورصة الآسيوية التركية فدُفن فيها في ضريح متواضع أعدّه لنفسه قبل مماته، وأوصى بعدم بناء قبة فوق ضريحه تواضعاً منه وتقشفاً والتزاماً بالسنة النبوية المطهرة.

وعند استشهاد السلطان مُراد الأول بلغت مساحة السلطنة العثمانية 500000 كم2 ؛ تقريباً؛ تقع منها في البلقان مساحة 291000 كم2، وتشمل شبه جزيرة غاليبولي الأوروبية وولايات أدرنة و(قرق إيلارإيلي) و(تكرداغ) و(قضاء جطلجة) وكامل أراضي بلغاريا الحالية وتراقيا الغربية ماعدا جزيرة سمندرة، وضمت مدينة سيلانيك في شبه جزيرة هاليكيديكيا اليونانية، ومقدونيا الجنوبية ما عدا جزيرة طاشوت، وضمت تساليا ومقدونيا الشمالية الحالية، وقوصوا أي: كوسوفو، وصربيا الجنوبية بما فيها مدينة نيش، وشرقي البانيا، وشرقي قرة داغ ـ الجبل الأسود ـ ومناطق إمارات صربيا؛ ودوبروجا؛ ودوبروفنيك أصبحت تحت الحماية، وشهدت تلك المناطق نشوء المعمار الإسلامي في شرق أوروبا.

وبعدما استشهد السلطان مراد الأول رحمه الله تعالى خلفه وليُّ عهده ابنه الأكبر أأبا يزيد الأول الملقب يلدريم أي الصاعقة، فازدهرت الفنون المعمارية العثمانية في الدور الأول المعروف بدور بورصة نسبةً إلى الحاضرة العثمانية الآسيوية التي كانت محطّ عناية العثمانيين في الدور المعماري الأول.
ووحَّدَ السلطان أأبا يزيد الأول بلاد الأناضول، وفتح قلعة آلا شهر "فيلادلفيا" وهي آخر القلاع البيزنطية المفتوحة في الأناضول، وفي صيف سنة 793 هـ اجتاز السلطان أبا يزيد الأول؛ وجيشه العثماني نهر الطونة أي: نهر الدانوب شمالاً، واجتاح رومانيا وأخضعها للحماية العثمانية؛ كما اجتاح مدينة سلانيك اليونانية سنة 794 هـ، وأخذ شبه جزيرة هليكديكا من البيزنطيين، وقطع اتصاله مع مقدونيا، ولم تمضِ سوى سنة واحدة حتى أخضع ما تبقى من الجيوب البلغارية، واستعاد من الصرب مدينة اسكوب أي: اسكوبيا عاصمة مقدونيا، وفي 799 هـ دخل السلطان أبايزيد الأول مدينة أثينا عاصمة اليونان فبنى فيها جامعاً، وأخضع بلاد المور بعد انتصاره في نيغوبولي على القوات الأوروبية التي بلغ تعدادها مئة وثلاثين ألف مُقاتل / 130000 بقيادة ملك المجر سيكمُوند، وكانت تتألف من عساكر المجر وفرنسا وإنكلترا وألمانيا وبولونيا والبندقية واسبانيا وأراغون والباباوية ورودس والنرويج واسكوتلندا وجَنَوة، وغير ذلك من الإمارات الأوربية وأسفرت المعركة عن غرق مئة ألف عسكري أوروبي في نر الطونة ـ الدانوب ـ وأُسر عشرة آلاف عسكري، وفَرَّ عشرون ألفاً، وممن هرب من الميدان: ملك المجر سكموند، وأمير انكلترة هنري الرابع، وغيرهما من قادة التحالف الأوروبي.
وبعد ذلك الانتصار على ضفاف نهر الطونة أي ـ الدانوب ـ في نيغوبولي حاصرت القوات العثمانية مدينة اسطنبول للمرة الثالثة سنة 799 هـ وللمرة الرابعة سنة 801 هـ، ولكن هجوم الخبيث تيمور لينك على أنقرة أجبر السلطان أبايزيد الأول  على رفع الحصار عن القسطنطينية والتوجه شرقاً لمقاومة جيوش تيمور لينك، ووقع التصادم في أنقرة وأسفرت المعركة عن وقوع السلطان أبايزيد الأول في الأسر، وهُزمت القوات العثمانية، وبعد سبعة أشهر واثني عشر يوماً توفي السلطان أبا يزيد أسيراً في مدينة اكشهر التركية التي تقع قرب مدينة قونيا، وذلك في الخامس عشر من شعبان سنة 805 هـ، وأرسل جثمانه إلى مدينة بورصة فووري الثرى هناك بعدما بلغت مساحة الأراضي المفتوحة من البلقان في عهده  واحد وأربعين وأربعمئة ألف كيلومتر مربع، / 441000 كم2 /، وقد انتشرت فيها المنشآت المعمارية الإسلامية العثمانية الدينية للعبادة، والدنيوية من المرافق العامة والجسور والحمامات وغير ذلك.
وفي عهد السلطان يلدريم أبايزيد الأول ازداد العمران الإسلامي في المُدن التي ذكرناها آنفاً، وأنشئت مبانٍ إسلامية في مُدنٍ جديدة هي ديموتوقا وغوملجينا في شرقي اليونان، ودراما في شمالي اليونان، وإسكي زغرا ونيغوبولي، وتيرنوفا في بلغاريا، وسليسترا في رومانيا، وفيزي في تركيا الأوربية. وبهذا يُصبح عدد المُدن الأوربية التي حظيت بالمُنشآت الإسلامية حتى نهاية عهد السلطان أبا يزيد الأول إحدى وعشرين مدينة أوربية. أما منشآت السلطان أبايزيد الأول في أسيا فيعتبر الجامع الكبير "أُوْلُو جامع" في مدينة بورصة النموذج المثالي للفنون المعمارية العثمانية في الدور المعماري الأول من حيث قوة البنان واتساعه وفنونه، ومازال حتى الآن شاهداً على رُقي الفنون المعمارية العثمانية في ذلك العهد.

وبعد انتصار الطاغية تيمور لينك، ووقوع يلدريم أبا يزيد الأول في الأسر، ووفاته تعرضت السلطنة العثمانية للخطر، وفرح الأوربيون لوقوع تلك الفتنة بين المسلمين العثمانيين والمغول مما أخّر فتح القسطنطينية التي أوشك أبا يزيد الأول على فتحها، وأضعفت تلك الفتنة السلطنة العثمانية التي انهارت؛ ثم نهضت من كبوتها بقيادة المؤسس الثاني السلطان محمد جلبي الأول الذي أعاد توحيدها وفرض على التيموريين الاعتراف بها، وبعد تحقيق المنجزات العسكرية قاد محمد جلبي مسيرة العمران انطلاقا من مدينة آماسيا في الآناضول التي كانت قاعدة سلطنته قبل إعادة توحيد السلطنة.

****
نشر في جريدة الحياة الصفحة: 21. في الرابع من شهر رمضان المبارك سنة 1428 هـ
 المبارك / 16 أيلول/ سبتمبر 2007
الجريدة ملف بي دي اف
اضغط  icon Ramadan-3.pdf (232.54 KB)  هنا
****

Launch in external player