العنوان: المصالح المرسلة: من ادلة الفقه المختلف فيها
الكاتب: محمود السيد الدغيم
جريدة الحياة، العدد: 12576، الصفحة: 14
تاريخ النشر: 2 ربيع الثاني 1418 هـ/ 5 آب/ أغسطس 1997م


 ان من يدرس الشريعة الاسلامية يجد فيها كل ما يصلح حياة الناس، ويدفع المفاسد، حين حفظت المصالح الفطرية للانسان، ويتضح ذلك من الحدود - جمع حد - التي وضعت لحفظ الأموال، والأنفس، والأعراض، والدين. واقامة الحدود الشرعية هي الكفيلة بتأمين الأمن والسلام، وهي الكفيلة بوضع حد للارهاب بكل انواعه من ارهاب الدول التي تحتل دولاً ضعيفة، الى ارهاب الحكومات التي تقمع شعوبها وتسلب المجتمع حريته، وتخضعه لمزاج النُّخبة المستبدة في غياب الشورى، كما ان اقامة الحدود تضبط سلوك الأفراد، وتكبحُ جِماح العدوان، وتضع حداً للجرائم المنظمة والفوضوية. لذلك لا اصلاح الا بمراعاة المصالح الانسانية التي راعتها الشريعة، التي تنسجم مع فطرة الانسان السوي.
يأتي تعريف المصلحة، على مستويين احدهما لغوي، والآخر اصطلاحي، وهما قريبان من بعضهما.
 - المصلحة - في اللغة - من قولك: »صَلَحَ الشيء صُلُوحاً، وصلاحاً. وصَلُحَ - بالضم - وهو خلافُ: فَسَدَ. وأصلحتُهُ، فَصَلَحَ. وأصلح: أتى بالصلاح، وهو الخيرُ والصوابُ، وفي الأمر مَصْلَحَةٌ، أيْ: خيرٌ.
والجمعُ: المصالحُ...«(١) »ورأى الامام المصلحةَ في كذا - واحدة المصالح - أي: الصَّلاحَ. ونَظَرَ في مصالح الناس. وَهُمْ من أهلِ المصالحِ لا المفاسِدِ. واستصلح: نقيض استفسد...«(٢) »والمصلحة: الصلاح. والمصلحة: واحدةُ المصالح، والاستصلاح: نقيض الاستفساد«.(٣)
المصلحة - في الاصطلاح - على نوعين، احداهما: المصلحة العامة وهذه لا خلاف على اعتبارها دليلاً شرعياً، لان المصلحة العامة معتبرة في الكتاب والسُّنَّة واجماع الأمة. وثانيهما: المصلحة المرسلة وهي موضع خلاف، وتعريفها في الاصطلاح هو: انها مصلحة »لم يشهد الشرعُ لها باعتبارٍ ولا إلغاء (...) فالمصالح منقسمةٌ الى ما عُهِدَ من الشارع اعتبارها، والى ما عُهِدَ منه الغاؤها، وهذا القسم (المصالح المرسلة) مُتَرَدِّدٌ بين ذينك القسمين، ولس الحاقه بأحدهما أولى من الآخر، فامتنع الاحتجاج به دون شاهدٍ بالاعتبار، يُعرف انه من قبيل المُعْتَبَر دون المُلغى...«.(٤) وتُطلق على المصالح المرسلة تسمية: الاستدلال المرسل »ولهذا سُميت: مُرسلة، أي: لم تُعْتَبْر، ولم تُلْغَ...«.(٥) وهذا يعني: ان المصلحة المرسلة هي: المصلحة المطْلَقة غير المُقيَّدَة بقيدٍ خاصٍّ يستثنيها من المصالح العامة، ويجعلها مستقلة، وهي ايضاً غير مَنْصوصة، أي غير منصوصٍ عليها بنصٍّ سلبيٍّ يُلغيها أو بنصٍّ ايجابيٍّ يعتبرُها، ولذلك فهي متروكة لتقدير المجتهدين بالرأي في كافَّة العصور، وليست مخصصة لعصر دون عصر، واعتبارُ المصلحة المرسلة - شرعاً - مرتبطٌ بما تُحقِّقُهُ من منافع للناس، وما تدفعه عنهم من الاضرار، وتَثْبُتُ مشروعيةُ المصالح المرسلة اذا شَهِدَ لها أصلٌ شرعيٌّ عامٌّ تستندُ عليه، - كمبدأ دفع الحرج، أو نفي مشروعية الضرر - ويكون الأصلُ العامُّ لفظياً أو معنوياً، ويسري مفعوله ما لم تَرِدْ أصلٌ خاصٌ يقضي باعتبار المصلحة المرسلة، أو بالغائها.

وبذلك يكون اعتبار المصلحة المرسلة استناداً الى أصل قطعي عام، ورأي المجتهد حينما ينعدمُ وجودُ نصٍّ من الكتاب والسنة، أو اجماع أو قياس. واعتبار المصلحة استناداً الى رأي المجتهد دليلٌ على معاضدة العقل للشرع، وبناءً على هذا نستطيع القول: ان القياس الخاص والمصلحة المرسلة يُشكلان، (قاعدة الاجتهاد بالرأي) لكن القياس أقوى مُستنداً من المصلحة المرسلة، والحكم الناتج عن الاجتهاد بالرأي - استناداً على المصالح المرسلة - هو دليل على حيوية أصول الفقه الاسلامي، وعدم جموده، لانه يقوم على تحقيق المصالح الانسانية، ودفع المفاسد بتطبيق العدالة التي تَصُوْنُ الحقوقَ المشروعة، وتُحَقِّقُ المصالح العامة بالحِفاظ على الكليات الخمس وهي

حفظ الدين بالذود عنه والدعوة اليه

وحفظ النفس من التلف المادي والمعنوي

وحفظ العقل بالتثقيف والعلم

وحفظ النسل باستمراره وعدم منعه وصيانة الانساب عن الاختلاط الناتج عن الزنا

وحفظ المالِ بقَصْرِهِ على الحلال دون الحرام وصيانته من العدوان.
ويذكر ان اقرار المصالح المرسلة مرتبطٌ بالحفاظ على الكليات الخمس، وبمعنى آخر ان المصالح المرسلة تشمل ما هو ضروري - من الضرورة - أو حاجتي - من الحاجة - أو تحسيني - من المحسنات أي: الكماليات - وتحقيق هذه المطالب الانسانية هو هدف الشريعة كما انه هدف القوانين الوضعية الراقية التي ترمي الى تحقيق انسانية الانسان.
مثال المصالح المرسلة التي تقع في مرتبة الضروريات: »ايجابُ حدِّ الزنا حفظاً للنسل والانساب، وايجاب زجر السارق حفظاً للأموال«(٦)
مثال المصالح المرسلة التي تقع في مرتبة الحاجات: »تسليط الولي على تزويج الصغيرة، فذلك لا ضرورة اليه لكنه محتاج اليه لتحصيل الكفؤ خيفةً من الفوات، واستقبالاً للصلاح المنتظر في المآل«.(٧)
مثال المصالح المرسلة التي تقع في مرتبة »التحسين والتزيين ورعاية حُسْنِ المناهج في العبادات والمعاملات، كاعتبار الولي في النكاح صيانةً للمرأة عن مباشرة العقد لكونه مُشعراً بتوقان نفسها الى الرجال، فلا يليق ذلك بالمروءة، ففوض ذلك الى الولي حملاً لِلْخُلُقِ على أحسن المناهجِ

ولو أمكن تعليل ذلك بقصورِ رأي المرأة في انتقاد الازواج، وسُرعة الاغترار بالظاهر، لكان من الضرب الأول (أي: من الحاجات) ولكن لا يصحُّ ذلك في سلب عبادتها«.(٨)
حُجية المصالح المرسلة: اختلفت الآراء باعتبار المصالح المرسلة دليلاً شرعياً وذهب العلماء في حُجية المصالح المرسلة ثلاثة مذاهب.
الطائفة المؤيدة بشكل مطلق: هم المالكية، الذين يأخذون بالمصالح المرسلة »ولو لم يكن في الشريعة أصل يشهدُ لها بالاعتبار. غير انهم يقفون بها موقف المعارضة للنصوص ويخصصون بها النصوص التي لا تكون قطعيّة سواءً في دلالتها. كتخصيص العالم في القرآن الكريم احياناً بالمصلحة المرسلة. أو في ثبوتها، كتخصيص اخبار الآحاد بالمصلحة المرسلة. اما النصوص القطعية في دلالتها وثبوتها فلا يمكن ان تقف المصالح معارضة لها، وقد اخذ بذلك المالكية«.(٩) وسببُ ذلك ان الامام مالك اخذ بعمل اهل المدينة المنوَّرة في عدد من الفتاوى التي تستند على تحقيق المصلحة المرسلة »كجواز شهادة الصبيان على بعضهم في الجراح«(10) بينما اشترطت بقية المذاهب عدالة الشاهد بتوافر شروط العدالة ومنها شرط البلوغ والعقل.
الطائفة المؤيدة بشكل مشروط مقيد: هم الحنابلة، فقد عَمِلَ الإمام أحمد بن حنبل بقولِ الصحابة، وعَمِل الصحابةُ بالمصالح، ودليل ذلك جمعهم للقرآن الكريم لأن المصلحة اقتضت جمعه في كتاب واحد بعدما كان مُتفرّقاً. وقد أكد ابن دقيق العيد »ان للامام مالك ترجيحاً على غيره من الفقهاء في هذا النوع، ويليه أحمد بن حنبل، ولا يكاد يخلو غيرهما عن اعتباره في الجملة ولكن لهذين ترجيح في الاستعمال لها على غيرهما«.(١١) واعتبر الحنابلة المصلحة المرسلة، وقسموها الى ثلاثة أقسام:
»قِسْمٌ شَهِدَ الشرع باعتبارها، فهذا هو القياس. وهو: اقتباس الحكم من معقول النص أو الاجماع.
قِسم شَهِدَ بِبُطلانِهِ الشرعُ، كايجاب الصوم بالوقاع - الجماع - في رمضان، على المَلِكِ، اذ العتقُ سهلٌ عليه فلا ينزجرُ، والكفَّارةُ وُضعت للزجر. فهذا لا خِلاف في بُطلانِهِ، لِمُخالفتِهِ النَّصَّ. وفتح هذا الباب يؤدي الى تغيير حدود الشرع.
قِسم لم يشهد الشرعُ له بإبطالٍ، ولا اعتبارٍ مُعيَّنٍ، وهذا على ثلاثة ضروب:
أ - ما يقعُ في مرتبة الحاجات (...) (ولا خلاف في جوازِ التمسُّكِ به بشرط: (ان يشهد له أصل).

ب - ما يقع موقع التحسين والتزيين ورعايةِ حُسْنِ المناهجِ في العبادات والمعاملات (...) (ولا خلاف في جوازِ التمسُّكِ به بشرط: ان يشهد له أصل من جنسه).

 ج - ما يقع في رُتبة الضروريات. وهو ما عُرِف مِنَ الشارع الالتفات اليها، وهي خمسة: ان يحفظ عليهم دينهم وأنْفُسَهم وعُقولهم وانسابهم واموالهم (...) وتفويتُ هذه الاصول الخمسة والزجرُ عنها يستحيل«.(12) وهذا النصُّ يدلُّ على تأييد الحنابلة لاعتبار المصلحة المرسلة دليلاً شرعياً عند توفر شروطٍ مُعينةٍ. »فاذا اشكل على الناظر، أو السالك حكم شيء، هل هو على الاباحة، أو على التحريم؟ فلينظر الى مفسدته وثمرته وغايته، فان كان مشتملاً على مفسدة راجحة ظاهرة، فانه يستحيلُ على الشارع الأمر به، أو اباحته، بل يقطع ان الشرع يُحرِّمه، لا سيما اذا كان مُفضياً الى ما يبغضه الله ورسلوه«.(13)

وتتعاضد النصوص في كتب الحنابلة(14) لتفيدنا انهم يعتبرون المصلحة المرسلة دليلاً شرعياً اذا كانت مقيدة بشروط اشترطوها، ولم يشترطها الشافعية، ومن تلك الشروط رفع الضرر الأكبر بالضرر الأصغر، ومثاله رفع الضرر الحاصل بالشراكة بمشروعية الشفعة، لأن شفعة الخلطة في الملك ترفع الضرر »ورفعه مصلحةٌ للشريك من غير مضرةٍ على البائع ولا على المشتري (...) فهذا المذهب أوسط المذاهب وأجمعها للأدلة، وأقربها الى العدل«.(15) لأن الشُّفعة - في الشرع - »هي: تَملُّكُ البُقعةِ جبراً بما قام على المشتري بالشراكة والجوار«.(16) لأن الشريك أحقُّ بشراء حُصة شريكه من الآخرين دفعاً للضرر الذي يحصل ببيع حصة الشريك الى آخر. فشرعت الشُّفْعة لدفع الضرر عن الشريك الذي لا يريدُ ان يبيع حصته.
الطائفة غير المؤيدة: وهي الطائفة التي ترى عدم حُجيَّةِ المصالح المرسلة، لأنهم اعتبروها اعتداداً بمحصلة لا شاهد لها شأنها كشأن الاستحسان الذي رفضوه ايضاً استناداً على رأي الشافعي الذي قال: »والقولُ بالاستحسان: قولٌ بأن الله تعالى ترك بعض مصالح خلقه فلم يشرع من الاحكام ما يُحققهُ لهم أو يحفظه عليهم...«(17) وتابعه الآمدي الذي منع الاحتجاج بالمصالح المرسلة.(18)

نتخلص مما سبق ان هنالك ثلاثة آراء خاصة بالمصالح المرسلة هي: الجواز المطلق، والمنع المطلق، والجواز المشروط وهو نوعان:
أ - نوع ملائم لأصل كُليٍّ من الأصول الشرعية أو لأصل جزئي. وبناء على الأصل تُبنى الاحكام.

ب - نوع تتطلبه ضرورةٌ قطعيةٌ كلية معتبرة. وقد قال بهذا النوع بعض الشافعية.(19) وقد ذُكرت في الابهاج باسم: »المناسب المرسل، ان كانت المصلحة ضرورية قطعية كُليَّة...« »وقد يُعبَّرُ عنه بالمصالح، المرسلة، وبالاستصحاب، وفيه مذاهب...«.(20) وأطلقت عدة اسماء على المصلحة المرسلة، هي: المناسب، والمراسل، والعلة، والحكمة، والسبب

وابرزُ هذه التسميات هي: المصالح والمرسلة، أو الاستصلاح

.
خلاصة الكلام: ان المصلحة المرسلة معتبرة في أصول الفقه الاسلامي طالما انها تدفع ضرراً أكبر ولو بضرر أصغر. شرط ان لا تُعارض نصاً من القرآن الكريم أو الحديث النبوي. أو الاجماع. ولهذا فان »القول بتخصيص النصوص بالمصالح المرسلة باطلاقٍ بالمعنى المصطلح عليه للتخصيص، والمعنى المصطلح عليه للمصالح المرسلة المبنية في ادراكها على الاجتهاد، والنظر في آحاد الجزئيات، فهو قولٌ يؤدي الى اضعاف الثقة بالنصوص، ويجعلها عُرْضَةً لحاكمية المصالح عليها«.(21

مصادر البحث

١ - المصباح المنير، ص 345.

 ٢ - تاج العروس، ٤/125.

 ٣ - لسان العرب، ٧/384.

٤ - الاحكام، الآمدي، ج٤/ 139 - 140.

 ٥ - البحر المحيط، ج٦/ ص 76.

 ٦ - نزهة الخاطر، ج١/ ص ٤١٤.

 ٧ - نزهة الخاطر، ج١/ ص 413.

 ٨- نزهة الخاطر، ج١/ ص 413.

 ٩ - المدخل، الدواليبي، ص 207.

٠١ - الموطأ، الامام مالك، ص ١١١.

 ١١ - ارشاد الفحول، الشوكاني، ص 225.

12 - نزهة الخاطر، ج١/ 411 - 415.

 13 - الفتاوى، ابن تيمية، ج٣/ 294.

 14 - اعلام الموقعين، ج٢/ ص 85 - 97.

 15 - اعلام الموقعين، ج٢/ ص 96.

 16 - التعريفات، الجرجاني، ص 127.

 17 - الأم، الامام الشافعي، ج٥/ ص 270.

 18 - الاحكام، الآمدي، ج٤/ ص 140.

 19 - المستصفى، الغزالي، ج١/ ص 294. والابهاج، السبكي، ج٣/ ص 190.

20 - الابهاج، ج٣/ ص 190.

21 - تخصيص النصوص، ص 162.


25560 (الحياة)...........عام (العنوان: المصالح المرسلة : من ادلة الفقه المختلف فيها )


thumb qr1 
 
thumb qr2
 

إحصاءات

عدد الزيارات
16438969
مواقع التواصل الاجتماعية
FacebookTwitterLinkedinRSS Feed

صور متنوعة