أقوى أسباب تعدد الخطابات وتنوعها هو تعدد القراءات المتنوعة, فكما أن "كلّ يغني على ليلاه" فكل يقرأ بطريقته, ولذلك لا يمكننا التحدث عن خطاب إسلامي واحد بل عن العديد من الخطابات الناتجة عن العديد من القراءات.
المجتهدون والسوفسطائيون سابقاً ولاحقاً
محمود السيد الدغيم الحياة 2004/04/17
أقوى أسباب تعدد الخطابات وتنوعها هو تعدد القراءات المتنوعة, فكما أن "كلّ يغني على ليلاه" فكل يقرأ بطريقته, ولذلك لا يمكننا التحدث عن خطاب إسلامي واحد بل عن العديد من الخطابات الناتجة عن العديد من القراءات. ولدى استقراء الخطاب الإسلامي نستطيع أن نرصد الكثير من أنواعه, ونستطيع تصنيف الخطاب من حيث التزامـه جوهر الإسلام, أو تمسكه بالقشور والبدع وتهاونه بالجوهر, وقد تتداخل أنواع الخطاب شاقولياًّ في عمق التاريخ, وأفقياًّ عَبْرَ الجغرافيا, ولكن يمكننا الفصل بين خطاب وآخر بفواصل افتراضية لكي نستطيع مقاربة تحديد الخطاب المقصود.
ومنذ العصور الاسلامي الأولى تبلورت المواجهة بين اتجاهات وتيارات, وظهر خطاب أهل السنّة والجماعة في مواجهة خطابات أخرى, وبدأ تشكّل المذاهب الإسلامية منذ عهد الخلافة الإسلامية الأموية ثم العباسية, وقدم كل مذهب خطابه الخاص القائم على الاجتهاد المشروع, وشذَّ أهل البدع, وظهرت الفرق.
ووُضِعَت الكتب في تصنيف تلك الفرق وبدعها, ووصلتنا كتابات نقدية لكل خطاب من خطابات تلك الأيام, ومن تلك الكتب: مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين, لأبي الحسن الأشعري, والفرق بين الفرق, لعبد القاهر البغدادي, والملل والنحل, للشهرستاني, والفصل في الملل والأهواء والنحل, لابن حزم, والتنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع, للملطي, والتبصير في أمور الدين, للإسفراييني, وفرق المسلمين والمشركين, للرازي.
ولم تخلُ الساحة الإسلامية من تعادُل الخطابــات, وتعارُضها وتناقُضها أيضاً, ولكن تقييم تلك الخطابات ليس مستحيلاً بل مُمكن حيث أن المصدر الأساس لتقييم الخطاب الشرعي هـــو الــقرآن الكريم, والسنّة النبويــة, واجتهــاد الصحابــة والتابعين ومن تبعهم بإحسان. وقد وضـع علماء المسلمين علم أصول الفقه, وهو ميزان الفقه, ويشبهــه علم المنطق الذي يعتبر ميزاناً للفلسفة.
واستقراء تاريخ الخطاب الإسلامي يكشف لنـا أنه واكب مسيرة الحياة البشرية, وقدم حلولَ القضايا والمسائل الطارئة, واستعمل العلماء عقلانية القياس الشرعي بقياس الفرع على الأصل بعلة جامعة بينهما, وبرز عبْرَ التاريخ مصلحون مسلمون أحْيَوا السنة, وحاربوا البدع, وتداول العلماء مصطلح إحياء السُّنة النبوية والإصلاح منــذ أيام أبي حامد الغزالي 450 حتى 505 هـ / 1058 حتى 1111م, وأُطلقت صفة: محيي السنة علـــى الإمام أبي الحسين محمد بــن الحسين البغــوي (توفي 516هـ/ 1122م). وتكرَّست لدى المسلمين فكــرة تقـول: ما من قرن يمرُّ إلاَّ ويقيِّـض الله خلاله مُصلحاً يحيي السنّة ويقاوم البــدع. وفـــي هذا المجال اعتُبِر شيخ الإسلام ابن تيمية -661 - 728هـ/ 1263 - 1328م - من أعظــم مصلحــي زمانه, وقد وقف في وجه السلطــة, وتحمــل السجن والعذاب جراء وقوفه فــي وجــه أهــل البدع, ومحنته مشابهة لمحنة الإمام أحمد بن حنبل. ومات ابن تيمية في سجن القلعة في مدينة دمشق.
وخلف الشيخ ابن تيمية مدرسة اقتدى شيوخها بالسلف الصالح, وعارضوا بدع الفرق المخالفة كما عارضوا رموز السلطة الذين رجحوا مهادنة الأعداء, وفضلوا المصالح الدنيوية الدُّنيا على المصالح الدينية السامية, وقدم المصلحون خطاباً إسلامياًّ متطوراً واكب تطور الحياة العامة, وقدم خطاباً مناسباً لكل زمان ومكان. ويمكننا الوقوف على سيرة أولئك الأعلام بالعودة إلى كُتُب الطبقات التي تحفل بالكثير من الرؤى المميزة التي قدمها المصلحون المسلمون عبْر القرون.
ولما حل الضعف في أطراف الخلافة الإسلامية العثمانية في القرن التاسع عشر برز أكثر مــن خطــاب في رحاب العالم الإسلامي الممتد من إندونيسيا إلى البوسنة والهرسك. وتجلى الخطاب الإسلامي من خلال ما عُرفَ بالجامعة الإسلامية, وبرز خطاب التغريب التام, وبين الخطابين برز خطاب التوفيقيين أو التلفيقين, وهؤلاء أمسكوا بالعصا من الوسط, وسوَّقوا أنفسهم تحت مُسمى رجال النهضة, وهم غير رجال الإصلاح المنضوين تحت مسمى الجامعة الإسلامية. ومرَّت الحرب العالمية الأولى, وأسفرت عن إلغاء الخلافة الإسلامية, ووقوع بلدان العالم الإسلامي تحت الاحتلال المباشر أو غير المباشر.
وبعد الحرب العالمية الأولى دخلت الماركسية بقوة في العالم الإسلامي, وظهر خطاب إسلامي موالٍ للماركسية الإلحادية, وناقضه خطاب إسلامي موالٍ للرأسماية الغربية المادية, وخالف الخطابين الشاذين خطابُ المسلمين الإصلاحيين الذين رفضوا رأسمالية الغرب وشيوعية الشرق, وتمسكوا بجوهر الإسلام, ولكن هؤلاء خسروا السلطة في العالم الإسلامي حيث أن الأنظمة الحاكمة في البلاد العربية والإسلامية تفرقت في تبعيتها بين تأييد حلف وارسو الشيوعي, وحلف الناتو الرأسمالي, ولذلك قامت أجهزة أمن السلطة بتعذيب وقتل المصلحين المسلمين في معظم البلدان الإسلامية. وتعرض المصلحون للمحنة المشابهة للمحنة التي تعرض لها الإمام أحمد بن حنبل, وظهرت في بلدان العرب والمسلمين فرَقُ مؤيدي السلطات الحاكمة, وهؤلاء يشبهون المعتزلة الذين أيدوا المأمون إلى أبعد الحدود, واستفادوا من مقدَّرات الدول وقدموا خطابهم عبْر وسائل الإعلام الحكومية, ونشروا بين الشعوب الكثير من المذاهب السياسية الوافدة.
لقد قدّم خطاب المسلمين المصلحين رؤيــةً متطــورة في مجال الفكر, وذلك باعتبار الإسلام الصحيح هو المرجع الذي تُقاس عليه الفلسفات والحضارات الأخرى, وليس العكس, فمرجع الخطــــاب الإسلامـــي هــو الكتــاب والســنّة وإجمــاع الصحابة, وقراءة تلك النصوص بقراءات السلف الصالح وليس بقراءات ماركس وإنغلز وروسو وغوبلز ونيتشة وكونفوشيوس وماني وزرادشت.
إن تجديد الخطاب الإسلامي يقتضي العودة إلى منابع الإسلام الصافية القائمة على التسامح والسلام والمحبة, وليس بالعودة إلى الماركسية والنازية والفاشية التي تكرس الإرهاب والكراهية, وتُلبسها لباس الإسلام تمويهاً لها, وتشويهاً للإسلام. ويبقى المطلوب قراء إسلامية للإسلام تنتج خطاباً إسلامياً معاصراً يلبي ما تحتاجه الأمة من إيضاحات تقتضيها المرحلة الراهنة. وبمعنى آخر: المطلوب أسلمة الخطابات الغريبة, وليس مركسة الإسلام أو تهويده.
* باحث سوري مقيم في لندن.
لمشاهدة المقال المنشور : اضغط هنا
للاستماع للقسم الأول من السلسة الذهبية الخاصة بأئمة ببعض علماء الأصول السُّنّة: اضغط هنا
للاستماع للقسم الثاني من السلسة الذهبية الخاصة بأئمة ببعض علماء الأصول السُّنّة: اضغط هنا
للاستماع للقسم الثالث من السلسة الذهبية الخاصة بأئمة ببعض علماء الأصول السُّنّة: اضغط هنا
وللاستماع إلى موجز تاريخ علم أصول الفقه الإسلامي القسم الأول: اضغط هنا
وللاستماع إلى موجز تاريخ علم أصول الفقه الإسلامي القسم الثاني: اضغط هنا
وللاستماع إلى موجز تاريخ علم أصول الفقه الإسلامي القسم الثالث: اضغط هنا
وللاستماع إلى موجز تاريخ علم أصول الفقه الإسلامي القسم الرابع: اضغط هنا
وللاستماع إلى موجز تاريخ علم أصول الفقه الإسلامي القسم الخامس: اضغط هنا
وللاستماع إلى موجز تاريخ علم أصول الفقه الإسلامي القسم السادس: اضغط هنا