للتحميل : كتاب بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز
تأليف : مجد الدين الفيروز آبادي محمد بن يعقوب
وُلدَ المجد في ربيع الآخر وقيل: في جمادى الآخرة سنة 729هـ سنة 1329م ولا يعرف من أَخبار أُسرته إِلا أَن أباه كان من علماء اللغة والأَدب في شيراز. وقد توجّه إِلى حفظ القرآن فحفظه وهو ابن سبع سنين. وكان سريع الحفظ، واستمرَّ له ذلك في حياته. وكان يقول: لا أَنام حتى أَحفظ مائتي سطر

المقصد الأَول: فى لطائف تفسير القرآن الكريم.
المقصد الخامس والخمسون: فى علم قوانين الكتابة

رابط تحميل الكتاب

اضغط icon Basaer-FayrouzAbadi.zip (1.33 MB)  هنا

******

مقدمة المؤلف

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذى وقف دون إِدراك كُنْه عظمته العلماء الرّاسخون، وأَصبح العلماء الشُّهَماء عند حقيقة كمال كبريائه وهم متحيّرون. أَبدى شوارق مصنوعاته فى عَنان الظُلْمة، فبها إِلى وحدانيّته يهتدون. العظيم الَّذى لا يحوم حول أَذيال جلاله الأَفكار والظنون، الحىّ القيّوم المنزَّه ساحةُ حياته عن تَطَرُّق رَيْب المَنون.
وأَشهد أَن لا إِله إِلاَّ الله وحده لا شريك له، شهادة تَسُرّ منَّا القلوبَ وتُقِرّ منَّا العيون، وأَشهد أَنَّ محمَّداً عبده (ورسوله) وصفيّه المبشَّر فى (نون) بأَجرٍ غير ممنون. المرفوع إِلى المصعد الأَعلى والملائكة المقرّبون حول ركابه يسيرون. النور الباهر الذى تلاشت عند ظهوره براهينه وآياته المبطلون، وامَّحقَت عند ظهور معجزاته المشبِّهة والمعطِّلون. صلى الله سلَّم عليه وعلى آله وأَحابه الذين أَئمّةُ الهُدَى بهم يهتدون، وأَزِمَّة القُدَى بهم يَقتدون.
وبعد: فهذا كتاب جليل، ومصنَّف حفيل، ايتمَرتْ بتأْليفه الأَوامر الشريفة، العالية المولية الإِماميَّة السُّلطانيَّة العلاَّميَّة الهُمَاميَّة الصَّمصاميَّة الأَعدليَّة الأَفضليَّة السَّعيديَّة الأَجلِّيَّة المَلَكيَّة الأَشرفيةة، ممهِّد الدُّنيا والدِّين، خليفة الله فى العالَمين، أَبو العبَّاس إِسماعيل بن العبَّاس بن على بن داود ابن يوسف بن عمر بن على بن رسول. خلَّد سلطانه، أَنار فى الخافقين برهانه. قصد بذلك - نصره الله - جَمْع أَشْتَاتِ العلوم، وضمّ أَنواعِها، على تباين أَضنافها، فى كتاب مفرد؛ تسهيلا لمن رام سَرْح النَّظر فى أَزاهير أَفنان الفنون، وتيسيراً لمن أَراد الاستمتاع برائع أَزهارها، ويانع ثمارها الغَصِّ المَصُون، وإِعانةً لمن قصد افتراع خرائدِها اللاتى كأَنهنَّ بَيض مكنون. فيستغنى الحائز (له الفائز) به عن حمل الأَسفار، فى الأَسفار حيث يجتمع له خزائن العلوم فى سِفْر مخزون، ومجموعةٍ يتحلَّى من أَغاريد مُسمِعاتها القلبُ المحزون، ويمتلئُ من أَطراق أَطْيَابها الطَّبْع المودون.
فاستعنت بتوفيق الله وتأْييده ورتَّبته على مقدِّمة وستين مقصداً:
المقدمة فى تشويق العالِم إِلى استزادة العلم الَّذى طلبُه فرض، وتمييز العلوم بعضِها من بعض.
المقصد الأَول: فى لطائف تفسير القرآن الكريم.
المقصد الثانى: فى علم الحديث النبوىّ وتوابعه.
المقصد الثالث: فى علوم المعارف والحقائِق.
المقصد الرابع: فى علم الفقه.
المقصد الخامس: فى علم أُصول الفقه.
المقصد السادس: فى علم الجَدَل.
المقصد السابع: فى علم اللغة.
المقصد الثامن: فى علم النحو.
المقصد التَّاسع: فى علم الصّرف.
المقصد العاشر: فى علم المعانى.
المقصد الحادى عشر: فى علم البيان.
المقصد الثانى عشر: فى علم البديع.
المقصد الثالث عشر: (فى علم) العروض.
المقصد الرابع عشر: فى علم القوافى.
المقصد الخامس عشر: فى علم الطبيعيّات.
المقصد السادس عشر: فى علم الطبّ.
المقصد السابع عشر: (فى علم) الفِراسة.
المقصد الثامن عشر: (فى علم) البَيْزرة والبَيْطرة.
المقصد التَّاسع عشر: فى علم تعبير الرؤيا.
المقصد العشرون: فى المحاضرات والمحاورات وما يجرى مَجراها.
المقصد الحادى والعشرون: فى أَحكام النُّجوم.
المقصد الثانى والعشرون: فى علم السِّحْر.
المقصد الثالث والعشرون: فى الطِّلَّسْمات.
المقصد الرابع والعشرون: في السِّيميا.
المقصد الخامس والعشرون: فى الكيمياءِ.
المقصد السادس والعشرون: فى الفلاحة.
المقصد السّابع والعشرون: فى علم التاريخ.
المقصد الثَّامن والعشرون: فى المِلَل والنِّحل والمذاهب المختلفة.
المقصد التاسع والعشرون: فى الهندسة.
المقصد الثلاثون: فى علم عُقود الأَبنية.
المقصد الحادى والثلاثون: فى علم المناظرة.
المقصد الثانى والثلاثون: فى علم المَرَايا المُحْرِقة.
المقصد الثالث والثلاثون: فى علم مراكز الأَثقال.
المقصد الرابع والثلاثون: فى علم البِنكانات.
المقصد الخامس والثلاثون: فى علم الآلات الحربيَّة.
المقصد السادس والثلاثون: فى علم الآلات الروحانيَّة.
المقصد السابع والثلاثون: فى علم الزيجات والتقاويم.
المقصد الثامن والثلاثون: فى علم المواقيت.
المقصد التاسع والثلاثون: فى علم كيفيَّة الأَرصاد.
المقصد الأَربعون: فى علم صطح الكُرَة.
المقصد الحادي والأَربعون: فى علم العَدَد.
المقصد الثاني والأَربعون: فى علم الجبر والمقابلة.
المقصد الثالث والأَربعون: فى علم حساب الخَطأَين.
المقصد الرابع والأَربعون: فى علم الموسيقَى.
المقصد الخامس والأَربعون: فى علم حساب التَخْت والميل.
المقصد السادس والأَربعون: فى علم حساب الدَّور والوَصايا.
المقصد السابع والأَربعون: فى علم الدرهم والدينار.
المقصد الثامن والأَربعون: فى علم السِّياسة.
المقصد التاسع والأَربعون: فى علم تدبير المنزل.
المقصد الخمسون: فى علم الحساب المفتوح.
المقصد الحادى والخمسون: فى علم الأَزمنة والأَمكنة.
المقصد الثانى والخمسون: فى علم المنطق.
وكان مقتضى الترتيب ذكره مع العلوم الآلية، وإِنما أَخَّرناه لاختلاف العلماء.
فمن قائل (بحرمة الاشتغال به، ومن قائل) بإِباحته، ومن قائل بوجوبه، لكونه آلة تعصم مراعاتها الذهن عن الخطأ.
المقصد الثالث والخمسون: فى علم الحشائش والنباتات ومنافعها.
المقصد الرابع والخمسون: فى علم الحروف وخواصها.
المقصد الخامس والخمسون: فى علم قوانين الكتابة.
المقصد السادس والخمسون: فى علم.
بسم الله الرحمن الرحيم
اعلم أَنه لا شىء أَشنع ولا أَقبح بالإنسان، مع ما كرّمه الله وفضّله به: من الاستعدادات (و) القابليّة لقبول الآداب، وتعلّم العلوم والصّنائع، من أَن يغفُل عن نفسه ويُهملها، حتّى تبقى عارية من الفضائل. كيف وهو يشاهد أَنّ الدّوابّ والكلاب والجوارح المعلَّمة ترتفع أَقدارها، ويُتغالى فى أَثمانها.
و (كفى فى العلم) شرفاً أَنَّ الله عزّ شأْنه وَصَف به نفسه، ومنح به أَنبياءَه، وخصّ به أَولياءَه، وجعله وسيلة إِلى الحياة الأَبديّة، والفوز بالسّعادة السّرمديّة، وجعل العلماءَ قُرَناءَ الملائكة المقرَّبين فى الإِقرار بربوبيّته، والاختصاص بمعرفته، وجعلهم وَرَثة أَنبيائه.
فالعلم أَشرف ما وُرِث عن أَشرف موروث. وكفاه فضلا، وحَسْبه نُبْلا قولُه تعالى: (الله الذى خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهنّ يتنزَّل الأمر بينهنّ لتعلموا) فجعل العلم غاية الجميع. وبيّن تعالى بقوله {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ}، وقوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى للَّهَ مِنْ عِبَادِهِ لْعُلَمَاءُ} أَنَّه ليس للجِنَان، ومنازل الرّضوان، أَهلٌ إِلا العالِمون، وأَمر أعلم الخَلْق وأَكملَهم، وأَعرف الأنبياء وأَفضلهم، بطلب الزيادة من العلم فى قوله {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً} وعن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم "طلب العلم فريضة على كلّ مسلم ومسلمة". والأَحاديث والآثار فى فضل العلم وأَهله كثير جدًّا. وقد أَفردنا فى مصنّف، وأَوردنا أَيضا فى شرح صحيح البخارى ما فيه كفاية إِن شاء الله تعالى.
وفى الجملة فالعلم كلّ أحد يؤثره ويحبّه، والجهل كلّ أحد يكرهه ويَنْفِر منه. وكأن الإِنسان (إِنسان) بالقوّة ما لم يعلم ويجهل جهلاًمركّباً، فإِذا حصل له العلم صار إِنساناً بالفعل عارفاً بربّه، أَهلاً لجِواره وقُرْبه. و إِذا جهل جهلاً مركّبا صار حيواناً، بل الحيوان خير منه. قال تعالى (أَم تحسَبُ أَنّ أَكثرهم يسمعون أَو هم يعقلون إِن هم إِلاّ كاأنْعم بل هم أضلُ سبيلاً) خُزَّان المال ماتوا وهم أَحياء، والعلماء باقون ما قى الدّهر، وإِن ماتوا فأعيانهم مفقودة، وأَمثالهم فى القلوب موجودة. وإِذا مات العالِم انثلم بموته ثُلْمة فى الإِسلام.
واعلم أَنّه تَبَيَّن فى علم الأَخلاق أَنّ الفضائل الإِنسانية التى هى الأُمّهات أَربع. وهى العلم، والشجاعة، والعفَّة، والعدل. وما عدا هذه فهى فروع عليها أَو تضاف إِليها. فالعلم فضيلة النَّفس (الناطقة. والشجاعة فضيلة النَّفس الغضبيَّة. والعفَّة فضيلة النَّفس) الشَّهْوانيَّة. والعدل فضيلة عامَّة فى الجميع.
ولا شكَّ أَن النفس الناطقة أَشرف هذه النفوس، ففضيلتها أَشرف هذه الفضائل أَيضا، لأَن تلك لا توجد كاملة إِلاّ بالعلم، والعلم يتمُّ ويوجد كاملاً بدونها. فهو مستغنٍ عنها، وهى مفتقِرة إِليه، فيكون أَشرف. وأَيضا أَنَّ هذه الفضائل الثلاث قد توجد لبعض الحيوانات العَجماوات، والعلم يختصّ بالإِنسان، ويشاركه فيه الملائكة. ومنفعة العلم باقية خالدة أَبدا.
وقد صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (إِذا مات ابن آدم انقطع عنه عمله إِلاّ من ثلاث: صدقةٍ جارية، أَو ولد صالح يدعو له، أَو علم يُنتفع به).
والعلم مع اشتراكها فى الشرف يتفاوت فيه. فمنه ما هو بحسب الموضوع؛ كعلم الطب؛ فإِن موضوعه بدن الإِنسان؛ ولا خفاء بشرفه.
ومنه ما هو بحسب الغاية؛ كعلم الأَخلاق؛ فإِنَّ غايته معرفة الفضائل الإِنسانية، ونعمت الفضيلة.
ومنها ما هو بحسب الحاجة (إِليه كعلم الفقه؛ فإِنَّ الحاجة ماسَّة إِليه.
ومنه ما هو بحسب وَثَاقة الحُجَج. فالعلوم الرياضية؛ فإِنها برهانيَّة يقينية.
ومن العلوم ما يَقْوَى شرفُه باجتماع هذه الاعتبارات فيه أَو أَكثرها. فالعلم الإِلَهىّ المستفاد من كلام الله تعالى بالوحى الجلىِّ والخفىّ؛ فإِن موضوعه شريف، وغايته فاضلة، والحاجة إِليه عظيمة.
واعلم أَنه لا شىء من العلوم - من حيث هو علم - بضارٍّ، بل نافع. ولا شىء من الجهل - من حيث هو جهل - بنافع، بل ضارّ؛ لأَنَّا سنبيِّن عند ذكر كلَّ علم منفعة: إِمَّا فى أَمر المعاد أَو المعاش.
إِنَّما تُوهِّم فى بعض العلوم أَنه ضار أَو غير نافع؛ لعدم اعتبار الشروط التى تجب مراعاتها فى العلم والعلماء. فإِن لكل علم حَدًّا لا يتجاوزه، ولكل عالِم ناموساً لا يُخِلّ به.
فمن الوجوه المغلِّطَة أَن يُظَنَّ فى العلم فوق غايته؛ كما يُظَنّ بالطبّ أَنه يُبرئ جميع الأمراض؛ وليس كذلك، فإِن كثيراً من الأَمراض لا يبرأ بالمعالجة.
ومنها أَن يُظنَّ بالعلم فوق مرتبته فى الشرف؛ كما يُظَنّ بالفقه أَنه أَشرف العلوم على الإِطلاق؛ وليس كذلك؛ فإِنَّ التوحيد والعلم الإِلهى أَشرف منه قطعاً.
ومنها أَن يُقصد بالعلم غيرُ غايته؛ كمن يتعلَّم علماً للمال والجاه؛ فإِن العلوم ليس الغرض منها الاكتساب، بل الغرض منها الاطِّلاع على الحقائق، وتهذيب الخلائق. على أَنَّه مَن تعلَّم علماً للاحتراف لا يكون عالما، بل يكون شبيها بالعلماء.
ولقد كوشف علماء ما وراء النهر بهذا العلم وفظِعوا به، لمّا بلغهم بناءُ المدارس ببغداد، وأَصفهان، وشيرز، أَقاموا مأْتم (العلم وقالوا: كان) العلم يشتغل به أَرباب الهمم العليّة، والأَنفس الزكيّة، الذين كانوا يقصدون العلم لشرفه، ولتحصيل الكمال به، فيصيرون علماء ينتفع بهم، وبعلمِهم وإِذا صار عليه أُجرة تدانى إِليه الأَخِسّاءُ والكسالى، فيكون ذلك سبباً لارتفاعه.
ومن ههنا هُجِرت علوم الحكمة، وإِن كانت شريفة لذاتها؛ قال الله تعالى "ومَن يُؤت الحكمة فقد أُوتى خيرا كثيرا" وفى الحديث (كلمة الحكمة ضالّة كلّ حكيم) وَفى لفظٍ (ضالّة المؤمنين، فاطلب ضالّتك ولو فى أَهل الشرك) أَى المؤمن يلتقطها حيث وجدها، لاستحقاقه إِياها. وفى بعض الآثار (من عرِف بالحِكْمة لاحظته العيون بالوقار).
ومن الأُمور الموجِبة للغلط أَن يُمتَهَن العلم بابتذاله إِلى غير أَهله؛ كما اتّفق فى علم الطبّ؛ فإِنه كان فى الزّمن القديم حكمة موروثة عن النبوّة، فهُزِل حتّى تعاطاه بعضُ سَفلة اليهود، فلم يتشرفوا (به) بل رَذُل بهم.
وقد قال أَفلاطون: إِن الفضيلة تستحيل رذيلة فى النّفس الرَّذْلة؛ كما يستحيل الغِذاء الصَّالح فى البدن السَّقيم إِلى الفساد. والأَصل فى هذا كلمة النبوَّة القديمةُ (لا تُؤْتوا الحكمة غير أهلها فتظلموها، ولا تمنعوها أَهلها فتظلموهم).
ومن هذا القبيل الحال فى علم أَحكام النجوم؛ فإِنه ما كان يتعاطاه إِلاّ العلماء، تُشير به للملوك ونحوهم، فرذُل حتّى صار لا يتعاطاه إِلاَّ جاهل ممخرق يروِّج أكاذيبه بسحت لا يسمن ولا يغنى من جوع.
ومن الوجوه المتعيّنة أَن يكون العلم عزيز المنال رفيع المَرْقَى، قلَّما يتحصّل غايته، فيتعاطاه من ليس من أَكْفائه؛ لينال بتمويهه عَرضاً دنيئا؛ كما اتَّفق فى علم الكيمياء، والسيمياء، والسحر، والطِلَّسمات. وإِنى لأعجب ممَّن يقبل دعوى مَنْ يدَّعى علماً من هذه العلوم لدينه؛ فإِنَّ الفطرة السَّليمة قاضية بأَن مَن يطلع على ذَرَّة من أَسرار هذه العلوم يكتمها عن والده وولده؛ فما الدَّاعى لإِظهارها، وكشفها! أَو الباعثُ (عن) (إِيداعها) ونشرها! فلتعتبر هذه الأُمور وأَمثالها.
(/)
 
النصوص الواردة في ( بصائر ذوي التمييز / الفيروزابادى ) ضمن الموضوع ( شروط التعلم والتعليم )
وهى اثنا عشر شرطاً:-
الأَول: أَن يكون الغرض إِنما هو تحقيق ذلك العلم فى نفسه إِن كان مقصوداً لذاته، أَو التوسّلُ به إلى ما وُضع له إِن كان وسيلة إِلى غيرهـ دون المال والجاه والمبالغة والمكاثرة؛ بل يكون الغرض تلك الغاية وثوابَ الله عزَّ وجلَّ. فكثيرٌ مَن نظر فى علم لِغرض، فلم يحصِّل ذلك العلم ولا ذلك الغرض، ولمَّا لزم الإِمامُ أَبو حامد الغزالىُّ الخلوة أَربعين يوماً رجاء لظهور ينابيع الحكمة من قلبه عملا بما بلغه من الخبر النَّبوىِّ (مَنْ أَخلص لله أَربعين صباحا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه) ولم ير ذلك، تعجب من حاله فرأَى فى منامه أَنه قيل (له): إِنك لم تُخلص لله إِنَّما أَخلصت لطلب الحكمة.
الثانى: أَن يقصد العلم الَّذى تقبله نفسه، ويميل إِليه طِباعه، ولا يتكلَّف غيره؛ فليس كلُّ الناس يصلحون لتعلّم العلم، (ولا كل صالح لتعلُّم العلم) يصلح لتعلُّم جميع العلوم. وكلٌّ ميسَّر لما خُلِق له.
الثالث: أَن يعلم أَوَّلاً مَرْتبة العلم الذى أَزمع عليه، وما غايته، والمقصود منه؛ ليكون على بيِّنةٍ من أَمره.
الرابع: أَن يأْتى على ذلك مستوعِباً لمسائله من مبادئه إِلى غايته، سالكاً فيه الطَّريق الأَلْيق به، من تصور وتفهُّم واستثبات بالحُجَج.
الخامس: أَن يقصد فيه الكتب المنتقاة المختارة؛ فإِن الكتب المصنَّفة على قسمين: علوم وغير علوم.
وهذه - أَعنى الثانية - إِمَّا أَوصاف حسنة، وأَمثال سائرة، قيَّدَتْها التقفِية والوزن؛ وهى دواوين الشعراء - وهى طبقات - وإِمَّا عارية عن هذا القيد؛ وهى التواريخ وأَخبار الماضين وحوادث الحِدْثان، فيما تقدَّم من الأَزمان.
(1/1)
 
وأَمَّا كتب العلوم فإِنها لا تحصى كثرة؛ لكثرة العلوم وتفنُّنها، واختلاف أَغراض العلماء فى الوضع والتأْليف. ولكن تنحصر من جهة المقدار فى ثلاثة أَصناف:
مختصرة لفظُها أَوجزُ من معناها. وهذه تُجعل تَذكِرة لرءوس المسائل ينتِفع بها المنتِهى للاستحضار؛ وربَّما أَفادت بعض المبتدئين من الأَذكياء الشُّهماء؛ لسرعة هجومهم على المعانى من العبارات الدقيقة.
ومبسوطة تقابل المختصرة؛ وينتفع بها للمطالعة.
ومتوسِّطة لفظها بإِراء معناها؛ ونفعها عامّ.
وسنذكر من هذه الأَقسام عند كلّ علم ما هو مشهور ومعتَر عند أَهله من ذلك.
والمصنِّفون المعتبرة تصانيفهم فريقان:
الأَول: من له فى العلم ملكة تامَّة، ودرْبة كافية، وتجارب وثيقة، وحدْس ثاقب صائب، واستحضار قريب، وتصانيفهم عن قوَّة تبصرة، ونفاذ فِكر، وسَدَاد رأى، تَجمع الى تحرير المعانى وتهذيب الأَلفاظ. وهذه لا يستغنى عنها أَحد من العلماء؛ فإِن نتائج الأَفكار لا تقف عند حَدّ، بل لِكلّ عالم ومتعلِّم منها حظّ. وهؤلاء أَحسنوا إِلى الناس، كما أَحسن الله إِليهم، زكاة لعلومهم، وإِبقاءً للذِّكر الجميل فى الدُّنيا، والأَجر الجزيل فى الأُخرى.
الثانى: مَن له ذهن ثاقب، وعبارة طَلْقة، ووقعت إِليه كتب جيِّدة جَمة الفوائد، لكنها غير رائقة فى التأْليف، والنّظم، فاستخرج دُررها (وأَحسن) نضْدها ونظمها، وهذه ينتفع بها المبتدئون، والمتوسطونه. وهؤلاء مشكورون على ذلك محمودون.
الشرط السادس: أَن يقرأَ على شيخ مرشِد أَمين ناصح، ولا يستبِدّ طالب بنفسه؛ اتكالا على ذهنه، والعلم فى الصّدور لا فى السطور. وهذا أَبو على بن سينا - مع ثقابة ذهنه، وما كان عليه من الذكاء المفرط والحذق البالغ - لما اتَّكل على نفسه، وثوقاً بذهنه، لم يسلم من التصحيفات.
(1/2)
 
ومن شأْن الأُستاذ أَن يرتِّب الطالب الترتيب الخاصّ بذلك العلم، ويؤدبه بآدابه، وأَن يقصد إِفهام المبتدئ تصوّر المسائل، وأَحكامها فقط، وأَن يُثبتها بالأَدلَّة إِن كان العلم مما يحتجُّ إِليه عند من يستحضر المقدمات. وأَما إِيراد الشبه إِن كانت، وحَلُّها، فإِلى المتوسِّطين المحقِّقين.
الشرط السَّابع: أَن يذاكر به الأَقران والنُّظراء؛ طلباً للتحقيق والمعاونة، لا المغالبة والمكابرة، بل لغرض الاستفادة (والإِفادة).
الشرط الثامن: أَنه إِذا حَصَّل علماً ما، وصار أَمانة فى عنقه، لا يُضيعه بإِهماله وكتمانه عن مستحقِّيه؛ فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (مَنْ عَلِم علماً نافعاً وكتمه أَلجمه الله يوم القيامة بلجام من نار)، وأَلاَّ يُهينَه بإِدلائه إلى غير مستحقِّه؛ فقد ورد فى كلام النبوَّة الأولى (لا تعلِّقوا الدُّرر فى أَعناق الخنازير) أَى لا تؤتوا العلم غير أَهلها، وأَن يُثبت فى الكتب لمن يأتى بعده ما عَثَر عليه بفكره، واستنبطه بممارسته وتجاربه، مما لم يُسبق إليه، كما فعله مَن قبله، فمواهبالله لا تقف عند حدٍّ، وألاَّ يسئ الظَّن بالعلم وأَهله، ففعله ممَّا لا يليق بالعلماء.
الشرط التاسع: أَلاَّ يعتقد فى علم أَنَّه حَصَل منه على مقدار لا تمكن الزِّيادة عليه، فذلك جهل يوجب الحرمان - نَعوذ بالله منه - فقد قال سيِّد العلماء وخاتم الأَنبياء: "لا بورك لى فى صبيحة لا أَزداد فيها علماً".
الشرط العاشر: أن يعلم أَن لكلِّ علم حدًّا لا يتعدَّاه، فلا يتجاوز ذلك الحدّ، كما يقصد إِقامة البراهين على علم النحو، ولا يقصر بنفسه عن حدِّه، فلا يقنع بالجَدَل فى الهيئة.
الشرط الحادى عشر: أَلاَّ يُدخل علماً فى علم، لا فى تعليم ولا فى مناظرة؛ فإِن ذلك مشوّش. وكثيراً ما خلَّط الأَفاضل بهذا السبب؛ كجالينوس وغيره.
(1/3)
 
الشرط الثانى عشر: أن يراعى حَقّ أُستاذ التعليم؛ فإِنَّه أَب. سئل الإِسكندر عن تعظيمه معلِّمه أكثر من تعظيمه والده، فقال: هذا أَخرجنى إِلى العناءِ والفناء، ومعلِّمى دلَّنى على دار الهناء والبقاء. والرَّفيق فى التعلُّم أَخ، والتلميذ ولد، ولكلٍّ حقٌّ يجب القيام به.
واعلم أَن على كل خير مانعا. فعلى العلم موانع، وعن الاشتغال به عوائق.
منها الوثوق بالزَّمان المتَّصل، وانفساح الأَبد فى ذلك. [أ] وَلا يعلم الإِنسان أَنه إِن انتهز الفرصة، وإِلاَّ فاتت: وليس لفواتها قضاءٌ البتَّة. فإِن أَسباب الدُّنيا تكاد تزيد على الخُطَّاب من ضروريات وغيرها، وكلّها شواغل، والأمور التى بمجموعها يتم التحصيل إِنما تقع على سبيل الحثِّ، وإِذا تولَّت فهيهات عَوْدُ مثلها.
ومنها الوثوق بالذكاء، وأَنَّه سيحصِّل الكثير من العلم فى القليل من الزمان متى شاء، فيحرمه الشواغلُ والموانع. وكثير من الأَذكياءِ فاتهم العلم بهذا السبب.
ومنها الانتقال من علم إلى علم آخر قبل أَن يحصّل منه قدرا يُعتَدّ به، أَو من كتاب إلى كتاب قبل خَتمه. فذلك هدم لما بنى (ويعزّ مثلُه).
(ومنها) طلب المال والجاه، أَو الركون إلى اللذَّات البهيمية والعلم أَعزُّ أن يُنال مع غيره، أَو على سبيل التبعيَّة. بل إِذا أَعْطَيت العلم كلّلك أَعطاك العلمُ بعضه.
ومنها ضيق الحال، وعدك المعونة على الاشتغال.
ومنها إِقبال الدُّنيا، وتقلُّد الأَعمال، وولاية المناصب، وهذا من أَعظم الموانع.
ثم العم أَنَّ للعمل عَرْفاً ينُمُّ على صاحبه، ونوراً يُرشد إِليه، وضياء يشرق عليه؛ فحامل المسك لا تخفى روائحه: معظَّم عند النفوس الخيِّرة، محبّب إلى العقلاء، وجيه عند وذى الوجوه، تتلقَّى القلوبُ أَقواله وأَفعاله بالقبول. ومن لم يظهر أَمارات علمه فهو ذو بطانة، لا صاحب إِخلاص.

النصوص الواردة في ( بصائر ذوي التمييز / الفيروزابادى ) ضمن الموضوع ( القول في حصر العلوم )
(1/4)
 
كل علم فإِمّا أَن يكون مقصوداً لذاته أَو لا.
والأَوَّل العلوم الحِكْميّة الإِلهية. والمراد بالحكمة ههنا استكمال النَّفش الناطقة قوَّتيْها: النظريّة، والعلميّة بحسب الطَّاقة الإِنسانيّة. والأَوَّل يكون بحصول الاعتقادات اليقينيّة فى معرفة الموجودات وأَحوالها. والثانى يكون بتزكية النفس باقتنائها الفضائل، واجتنابها الرَّذائل.
وأَمَّا الثانى - وَهو ما لا يكون مقصوداً لذاته، بل يكون آلة لغيره فإِمَّا للمعانى - وَهو علم المنطق - وإِمَّا لما يتوصَّل به إِلى المعانى، وهو اللفظ والخَطّ: وهو علم الأَدب.
والعلوم الحِكْميّة النظريَّة تنقسم إلى أَعلى - وهو علم الإِلهى - وأَدنى - وَهو علم الطَّبيعىِّ - وأَوسط وهو العلم الرياضىّ.
ومن المعلوم أَن إِرسال الرُّسل عليهم السلام إِنما هو لُطْف من الله تعالى بخَلْقه، ورحمة لهم، ليتمّ لهم معاشُهم، ويتبيَّن لهم حالُ مَعادهم. فتشتمل الشريعة ضرورةً على المعتقَدات الصَّحيحة الَّتى يَجب التصديق بها، والعباداتِ المقرِّبة إلى الله - عزَّ شأْنه (ممَّا يجب القيام به، والمواظبة عليه. والأَمر بالفضائل والنهى - عن الرذائل - مما يجب قبوله، فينتظم من ذلك ثمانية علوم شرعيَّة: علم تفسير الكتاب المنزل على النبى المرسل، علم القرآن، علم رواية الحديث، علم دراية الحديث؛ علم أَصول الدِّين، علم أَصول الفقه، علم الجَدَل، علم الفقه.

******