ولاية الْمَوْصِل العراقية صلة الوصل التاريخية والجغرافية بين الشام والعراق
د. محمود السَّيِّد الدّغيم

شكلت مدينة الموصل حصناً حصيناً من حصون المسلمين السنة عبر التاريخ، وقد كتبت هذا البحث الموجز عنها أثناء العدوان الإمبريالي الأميركي الذي دعمه أبناء وبنات حرف الشين من الصفويين وبعض الأكراد والدخلاء على العروبة والإسلام

وأنا أنشر البحث تلبيةً لطلبات زوار الموقع من أبناء وبنات الموصل الهاشميين والعباسيين أعزّهم الله تعالى، وأذلَّ أعداءهم

الحدباء


تمهيد
مدينة الموصل مركز الجزيرة وبوابة العالم القديم، وقد حدد موقعها بطليموس فقال: "طولها تسع وستون درجة، وعرضها أربع وثلاثون درجة وعشرون دقيقة، وطالعها بيت حياتها عشرون درجة من الجدي، تحت اثنتي عشرة درجة من السرطان، يقابلها مثلها من الجدي، وبيت ملكها مثلها من الحمل، وبيت عاقبتها مثلها من الميزان في الإقليم الرابع".
 والموِصل كما قال ياقوت الحموي في معجم البلدان: "محطّ رحال الركبان، ومنها يقصد إلى جميع البلدان، فهي باب العراق، ومفتاح خُراسان، ومنها يقصد إلى أذربيجان، وبينها وبين بغداد 74 فرسخاً، وكثيراً ما سمعت أن بلدان الدنيا العِظام ثلاثة: نيسابور لأنها باب الشرق، ودمشق لأنها باب الغرب، والموصل لأن القاصد إلى الجهتين قلَّ ما لا يمرّ بها، وقالوا: سُميت الموصل لأنها وصلت بين الجزيرة والعراق، وقيل لأنها وصلت بين دجلة والفرات، وقيل لأنها وصلت بين بلد سنجار والحديثة، وقيل بل الملك الذي أحدثها كان يُسمى الموصل، وفي وسط الموصل قبر جرجيس النبي، وقال أهل السِّيَر: إن أول مَن استحدث الموصل راوند بن بيوراسف الازدهاق، وقال القدماء: من أعمال الموصل الطبرهان والسنّ والحديثة والمرج وجهينة وحِبتون وكَرْمَليس والمعلّة ورامين وباجَرْمَى ودقوقا وخانيجار، والموصلان: الجزيرة والموصل كما قيل البصرتان والمروان، قال الشاعر:
وبصرةُ الأزد منّا والعراق لنا
والموصلان، ومنّا الْحِلُّ والحرمُ
وذكر العلماء القدماء: إن الغريب إذا أقام في الموصل سنة تبيّن في بدنه فَضلُ قوّة، وإن أقام في بغداد سنة تبين في عقله زيادة، وإن أقام في الأهواز سنة تبين في بدنه وعقله نقص، وإن أقام في التُّبَّتِ سنة دام سروره واتصل فرحه، وما نعلم لذلك سبباً إلا صحة هواء الموصل وعذوبة مائها، ورداءة نسيم الأهواز وتكدّر جوّها، وطيبة هواء بغداد ورقّته ولُطفه، فأما التُّبّت فقد خفي علينا سبيه.
وقال السريّ الرفاء الشاعر الموصلي يتشوق إلى بلده:
سقى رُبى الموصل الحدباء من بلدٍ
جَودٌ منَ الْمُزنِ يحكي جُودَ أهليها
أَأندُبُ العيش فيه أمْ أنوحُ على
أيامها أمْ أُعزى في لياليها
أرضٌ يحنُّ إليها مَنْ يُفارقُها
ويحمدُ العيشَ فيها مَن يُدانيها
وتشتمل بلاد الجزيرة المحيطة بالموصل على ديار بكر، وديار مضر، وديار ربيعة، وانما سميت جزيرة لأنها بين دجلة والفرات وما يجاورهما، وهما نهران ينبعان من تركيا وينحطان متسامتين حتى يصبا في الخليج العرببي، وقصبتها الموصل، وقالوا قديماً‏:‏ إنّ من خاصية بلاد الجزيرة كثرة الدماميل‏، وفي ذلك قال ابن همام السلولي‏:‏
ابداً اذا يمشي يحيك كانّما
به من دماميل الجزيرة ناخس
=-=-=
ولاية الْمَوْصِل العراقية صلة الوصل التاريخية والجغرافية
د. محمود السَّيِّد الدّغيم

استوطن البشر أرض العراق منذ قديم الزمن، وشيّدوا الكثير من المدن التي بادَ بعضها وساد بعضها الآخر، وأقيمت مدن عديدة على أنقاض مدن سبقتها، وآلت إلى الدمار بسبب النيازك والصواعق والفيضانات والزلازل والحروب، واستفاد اللاحقون من خبرات السابقين في شتى مجالات الحضارة الإنسانية، وخلفوا للذين بعدهم الكثير من العلوم والمعارف النقلية والعقلية، وقد تعاقبت على أرض العراق دول تنوعت سِماتُها ما بين الديني والدنيوي، وما بين التوحيد والشرك وعبادة الأصنام، وطوى الزمن تلك الدول وبقيت آثارها، وتكرر إنشاء المدن فوق أنقاض بعضها البعض في العديد من المواقع العمرانية، ومنها مدينة الموصل العراقية.
موقع الموصل في الجغرافية والتاريخ
تقع مدينة الموصل في شمال العراق على مسافة 396 كيلومتر من بغداد، وتتوزع أحياؤها على ضفتي نهر دجلة، ومدينة الموصل الحالية مبنية على معظم أنقاض مدينة نينوى الآشورية التاريخية، وتعتبر الموصل أهم مدينة عراقية بعد العاصمة بغداد من حيث الشهرة والموقع الاستراتيجي.
وقد سميت الموصل بالحدباء، واختلف المؤرخون والجغرافيون واللغويون في سبب التسمية، فقال الزمخشري في أساس البلاغة: حدب ظهره واحدودب وفي ظهره حدبة‏، ومن المجاز‏:‏ نزلوا في حدب من الأرض وحدبة: وهو النشز وما أشرف منها‏، وناقة حدباء حدبار‏:‏ بدت حراقفها مـن الهـزال، وسنة حدباء‏:‏ شديدة باردة، وحملـوه على الآلة الحدباء وهي النعش‏.، وفي ذلك قال كعب بن زهير‏:‏
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته
يومـاً علـى آلـةٍ حدباء محمولُ
وأمر أحدب‏:‏ شاقّ المركب، وخطة حدباء وأمور حدب‏.‏
قال الراعي‏ النُّميري:‏
مروان أحزَمُها إذا نزلتْ بهِ
حدبُ الأمور وخيرُها مسؤولا
وذكر الرحالة الشهير ابن بطوطة: أن الموصل سميت بالحدباء نسبة إلى قلعتها الحدباء، وذكر محمد أمين العمري في كتابه "منهل الأولياء ومشرب الأصفياء من سادات الموصل الحدباء" إن سبب تسميتها بالحدباء هو انحداب أرضها لأن البيوت والمحال فيها ليست على مستوى واحد من أرضها، بل بعضها نشز وقلاع ، وبعضها في واد منخفض، وأطلق عليها الفُرس اسم "نو أردشير " نسبة إلى ملكهم أردشير، وأما الآراميون فكانوا يسمونها "حصن عبورايا" أي الحصن الغربي، وسمّاها العرب "خولان" والحِصنين.
إنشاء الموصل القديمة وتطورها
يعود تاريخ إنشاء الموصل القديمة إلى سنة 1080 قبل الميلاد ، وقد سمّاها الآشوريون نينوى وأقاموا حولها القلاع، ومنها القلعة التي تقع غرب دجلة فوق "تل قليعات" الذي شكل نواة مدينة الموصل على الطريق الرئيسية التي تصل بين طرفي الهلال الخصيب، وقد دُمّرت نينوى جراء الاجتياح الميديّ الفارسي المجوسي، وبعدما هدأت الأحوال عاد بعض السكان إلى نينوى، وشيدوا حصنا على"تل التوبة" في نينوى، وعاد قسم منهم إلى الحصن الغربي فوق "تل قليعات".
وفي زمن حُكم كِسرى الأول أنوشروان 521 - 579 م كانت الحرب سجالا بين الروم والفرس فأغار الروم وخربوا الموصل، ولما تسلّط كِسرى أبرويز بن هرمز 579 - 590 م اهتم بتعزيز موقع الموصل. فبنى فيها عدة دور وحصنها، وأتى ببعض الفرس وأسكنهم فيها، فتوسعت المدينة وكانت من معاقل الفُرس القوية التي تصدّ زحف الروم عنهم، ثم فتح المسلمون الموصل سنة 16هـ / 637 م، وشاركت في فتحها القبائل العربية من تغلب وأياد والنمر بقيادة ربعي بن الأفكل العنزي، وكانت تلك القبائل منتشرة بين تكريت والموصل منذ أيام الجاهلية، واستقر الكثير من أبناء تلك القبائل في الموصل بعد الفتح الإسلامي، و تابع قسم منهم الزحف على البلاد الممتدة مابين الجزيرة السورية وأذربيجان وأرمينيا، ففتحوها واستقروا فيها، ومازال أحفادهم وجود في تلك البلاد حتى الآن رغم أن الكثير منهم قد استتركوا أو استكردوا.
الموصل والفتح الإسلامي
بعدما فتح المسلمون مدينة الموصل سنة 17هـ / 638 م عَيَّن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه عُتبةَ بن فرقد السلمي واليًا على الموصل، وهو الذي بنى المسجد الجامع فيها، وإلى جانبه دار الإمارة، وكان بها أحد الأجناد الستة التي جندها الفاروق، وجعلها تابعة لديوان الجُند في الكوفة.
ولما آلت الخلافة الراشدة إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه كثرت هجرة القبائل العربية إلى الموصل، وأول القبائل التي استوطنتها هي: الأزد وطي وكندة وعبد قيس، وكان أميرها في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه "عرفجة بن هرثمة البارقي" الذي سعى  في توسيع الموصل وتعميرها، وهو الذي اختطّ منازل العرب فيها، ووسّع جامعها، وفي عهد الخليفة الراشد الرابع علي ابن أبي طالب رضي الله عنه ازدادت الهجرة إلى الموصل من أبناء القبائل العربية التي كانت في الكوفة و البصرة ، وصارت الموصل دار إقامة العرب المفضلة في منطقة الجزيرة.
التطور في ظل الخلافة الإسلامية الأموية
ازدهرت الموصل في ظل الخلافة الإسلامية الأموية، وصارت من أمهات الأمصار، وبلغ خراجها في خلافة معاوية ابن أبي سفيان رضي الله عنهما أربعة ملايين درهم، واهتم الأمويون بالموصل لأهميتها الحربية والتجارية، فكانوا يولُّون عليها أقدر الولاة وأحزمهم، وقد سكن الموصل من الخلفاء الأمويين هشام بن عبد الملك قبل توليه الخلافة، فبنى له قصرا في ربطها الأسفل، وزرع النخيل والأشجار المثمرة حوله.
وساهم ولاةُ الموصل في إعمارها، فأحاطها سعيد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم الأموي بسور ورصف طرقها بالحجارة، وبنى بها مسجداً سُمّي "مسجد عُبيدة" نسبة إلى مؤذِّنه، كما بنى فيها سوق سعيد.
ولما ولي أمارة الموصل محمد بن مروان بن الحكم قام بتجديد سورها، وإتمام ما بدأه ابن أخيه سعيد، وفي سنة  106-113هـ / 724 –731م تولى أمارة الموصل الْحُرُّ بن يوسف الأموي الذي شق نهراً من قرب دير مار ميخائيل، وسيَّره محاذياً للتلال التي تطلّ على الكنيسة، وأجراه في مجرى دجلة الحالي، وسُمي نهر الْحُرّ، ورصف شارعاً محاذياً لمجراه، وغرس على جانبيه الأشجار، وبنى الحر قصره المعروف بالمنقوشة، ثم تولاها آخر الخلفاء الأمويين مروان بن محمد مرتين الأولى سنة 102- 104هـ / 720 – 722م، والثانية 126- 127هـ / 743 - 744م، وهو أول من طوّر الموصل وألحقها بالأمصار العظام، وجعل لها ديواناً يرأسه، ونصب عليها جسراً، ورصف طرقاتها، وبنى عليها سوراً، ووسّع المسجد الجامع، وبنى له منارةً شاهقةً، وأحاطه بالأسواق، وصارت الموصل قاعدة بلاد الجزيرة بعد أن كانت مدينةً تابعةً للكوفة.
الموصل في العهد العباسي
نُكبت الموصل في بداية العصر العباسي الأول بعدما ثار أهلها على الوالي العباسي محمد بن صول سنة 133هـ / 750 م، واجتاحها العباسيون بقيادة يحيى بن محمد أخي السفاح، ثم ولي عليها إسماعيل بن علي بن عبد الله بن العباس رضي الله عنه، فوجدها بحالة يرثى لها، وكتب إلى المنصور يعلمه بسوء حال البلد وخرابه، فأجابه المنصور: أن أرفق بالناس وتألفهم، وتمّ تنفيذ أوامر المنصور، فأخذت المدينة تستعيد مركزها الاقتصادي حتى بلغت جبايتها في خلافة هارون الرشيد (24.000.000) درهم و(20.000) رطل عسل.
وفي أواخر القرن الثالث للهجرة / التاسع الميلادي استولى على الموصل بنو حمدان ، وخلفهم العقيليون  في حكمها سنة 368- 486هـ / 979 – 1093م، ثم حكمها السلاجقة، وخلفهم عماد الدين زنكي الذي دخل الموصل في رمضان سنة 521هـ / 1127 م، وبدأ العهد الأتابكي الذي أعاد لها مجدها، وشكلت عاصمة إمارته، وقاعدة انطلاق جيوشه لمقاومة الفرنجة في بلاد الشام، بعدما وصلوا إلى أسوار مدينة حلب الشهباء التي حررها عماد الدين، ثم توجّه إلى حماة فحررها سنة 524هـ / 1130 م، وأصبح أعظم قائد في بلاد الهلال الخصيب، وامتدّ ملكه من شهرزور شرقاً، إلى قرب سواحل سورية غرباً، ومن آمد وديار بكر وجبال الأكراد الهكارية والحميدية شمالاً، إلى الحديثة جنوباً.
وفي عهد العثمانيين أصبحت الموصل إحدى الولايات العراقية الثلاث التابعة للخلافة العثمانية في اسطنبول، وبقيت هكذا حتى احتلها الفرنسيون في نهاية الحرب العالمية الأولى، ثم تبعت للحكم الملكي العراقي، ومازالت من المدن العراقية الهامّة التي تحظى بمكانة سامية.
المعالم الحضارية في الموصل
توجد في الموصل معالم حضارية وعمرانية شيدها سكان الموصل وعلماؤها وأثرياؤها وحكامها، ومن تلك المعالم نذكر التالي:
جامع النبي يونس الذي يقع في الجهة الشمالية الشرقية من نهر دجلة فوق تل النبي يونس، والجامع النوري(الكبير) الذي يقع وسط مدينة الموصل، وقد أُنشئ سنة 566- للهجرة 568/ 1170 – 1172م، وأبرز أثر باق في الجامع منارته التي يبلغ ارتفاعها 54 متراً، وهي مائلة، ولذلك تسمى الحدباء، مما جعل بعض الناس يظنون أن تسمية الموصل بالحدباء منسوبة إلى المنارة الحدباء، وما هذا بسديد، فقد سميت الموصل باسم الحدباء قبل بناء المنارة، والحدب هو الجامع المشترك بين المنارة وأراضي مدينة الموصل، والجامع الأموي  الذي يقع في الجهة الشمالية الشرقية من مدينة الموصل القديمة، وقد بني في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة 16هـ/ 637م، ثم جدّده الأمويون ووسّعوه.
ونظراً للدور العسكري الذي لعبته مدينة الموصل، فقد شُيّدت فيها المنشآت العسكرية، وأهمها سور الموصل الذي يبلغ طول محيطه 12كم، وهو مستطيل الشكل، ومبني بالحلان الأسمر، وفيه أبراج حجرية، وينتهي السور من الأعلى بشرفات، وتليها أبراج مرتفعة من اللبن تشكّل الخط الدفاعي الثاني، وللسور عدد من الأبواب التي يُعرفُ منها: باب العمادي ،والجصاصين، والميدان، وكندة، والسر، والعراق، ولكش، والقصابين، والمشرعة، والجسر،وباب القلعة، وتوجد في الموصل قلعة "باش طابيا"، أي: القلعة الكبرى، أو الرئيسية، ومعنى باش: رأس، وطابيا: القلعة، و يرجع تاريخها إلى القرن السادس الهجري، وقد لعبت دوراً أساسياً في حصار الموصل سنة1156هـ/ 1743م من قبل نار شاه الفارسي، وللقلعة بابان أحدهما يؤدي إلى النهر ويسمى (باب السر) والآخر يؤدي إلى الميدان ويسمى باب القلعة.
المكانة العلمية
امتازت الموصل بمكانة علمية، وانتشرت فيها المدارس والمكتبات العامة منذ القديم،  واستوطن فيها كثير من العلماء وإليها نُسبوا، وإذا افتخرت الكوفة والبصرة وبغداد بمدارسها العلمية فمن حق الموصل الافتخار بمدرستها اللغوية التي ترأسها أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي المعتزلي الذي توفى سنة 392هـ/ 1002م، وخلّف ثروة من الكتب التي طبع منها:
كتاب الألفاظ المهموزة وعقود الهمز، وكتاب التصريف الملوكي، والمبهج، وعقود اللمع في النحو، وسر صناعة الإعراب، والعروض، والمقتضب من كلام العرب، وما يحتاج إليه الكاتب، وعقود وخواص أمثلة الفعل، ومختصر القوافي، وشرح كتاب التصريف، والفتح الوهبي على مشكلات المتنبي، والمذكر والمؤنث، وعلل التثنية، وشرح ديوان المتنبي، والمنصف في شرح كتاب التصريف، والمقتضب من اسم المفعول الثلاثي المعتل العين.
ومن جلائل كتبه كتاب الخصائص الذي يعدّ موسوعة لغوية متكاملة، حيث تناول ابن جني مسائل لغوية متعددة استفاض في شرحها وإيضاحها، واستهل كتابه ببيان ماهية اللغة والنحو والإعراب والبناء، وأتبع ذلك بتوضيح لأصل اللغة، أَ اصطلاح هي أم إلهام؟ ثم تناول مواضيع تحليل اللغة العربية، وهل هي فقهية أم ثلاثية؟ ودرس الاطراد والشذوذ وتقاود السماع وتقارع الانتزاع، ومقاييس اللغة العربية، وتعارض السماع والقياس، وغير ذلك من مواضيع لغوية تخصصية عالجها ابن جني في كتابه، وكشف عن الدلالة الفنية للأصوات بدراسة الدلالة الصوتية للكلمة من حيث النظر في صفات الأصوات مثل: الجهر والهمس، والرخاوة والشدة، والانطباق والانفتاح، وما يصاحب الكلمة عند النطق بها من ظواهر صوتية كالنبر والتنغيم، ثم من حيث النظر في مخارجها المختلفة، وبحث العلاقة بين تلك السمات الصوتية للتشكيل الصوتي للكلمة ومناسباتها لسياقها ونسقها الدلالي، وقدم لدارسي اللغة العربية نظرية في علم اللغة وفقهها قبل أن يتحدث الغربيون في هذا الموضوع بمئات السنين.
ومن مدارسها المشهورة: المدرسة النظامية التي بناها سنة 485هـ/1092م الوزير السلجوقي نظام الملك الذي اغتاله الحشاشون في أصبهان، وكانت المدرسة النظامية في الموصل على غرار المدارس النظامية في بغداد ونيسابور، وأصفهان ومرو وغيرها، وقد درس في نظامية الموصل من العلماء أبو حامد الشهرزوري، وأبو العباس الأنباري المعروف بالشمس الدنبلي، ومن الآثار الباقية لهذه المدرسة محراب نفيس من المرمر الأزرق الْمُطَعَّم بمرمر أبيض.
ومن مدارس الموصل المدرسة الطغرائية 513 هـ/ 1119م.
 المدرسة الأتابكية العتيقة التي بناها سيف الدين غازي بن عماد الدين زنكي الشهيد بن آق سنقر سنة 544 هـ/ 1149م، وجعلها وقفاً على الفقهاء الشافعية والحنفية نصفين، والمدرسة الزينية التي تسمى مدرسة ابن يونس النحوي، وقد بناها زين الدين أبو الحسن علي بن بكتكين الذي توفي سنة 563 هـ/ 1168م. وبناية المدرسة في الوقت الحاضر تسمى جامع شيخ الشط، وتقع في محلة الشهوان جنوبي شطّ المكاوي.
ومدرسة القاضي كمال الدين محمد بن أبي محمد عبد الله بن أبي أحمد القاسم الشهرزوري الشافعي  الذي ولد في الموصل سنة 492 هـ/ 1099م، وتوفي سنة 572 هـ/ 1176م في مدينة دمشق، والمدرسة العزية التي بناها الأتابك عز الدين مسعود بن مودود زنكي المتوفى سنة 589 هـ/ 1193م، ومدرسة مجاهد الدين التي بناها قايماز بن عبد الله الزيني الذي توفي سنة 595 هـ/ 1199م في قلعة الموصل.
ومدرسة الجامع النوري التي بناها الملك العادل نور الدين محمود بن عز الدين مسعود بن قطب الدين مودود بن عماد الدين زنكي آق سنقر المتوفى سنة 607 هـ/ 1210م، وهي مدرسة شافعية وجامع في نفس الوقت، وكانت فيها خزانة الكتب التي أوقفها السيد محمد بن الملا جرجيس القادري النوري الذي سعى في ترميم الجامع، واتخذ له فيه تكية سنة 1281هـ / 1864 م. وضمت إليها بعض الكتب الأخرى التي أوقفتها عائشة خاتون بنت أحمد باشا الجليلي، ولم يبق لها أثر في الوقت الحاضر.
والمدرسة القاهرية التي بناها عز الدين مسعود بن أرسلان شاه زنكي المتوفى سنة 615 هـ/ 1218م، والمدرسة العلائية، والمدرسة البدرية، والمدرسة النفيسية، وغير ذلك من المدارس.
علماء الموصل
أشهر العلماء الذين ينتسبون إلى الموصل ابن جني، ويوسف بن رافع الأسدي المعروف بابن شداد الموصلي، المتوفى سنة 632 هـ/ وهو مؤلف كتاب تاريخ حلب، وكتاب ملجأ الحكام عند التباس الأحكام، وتلميذه ، أبو البركات عبد الله بن الحسين المعروف بابن الشيرجي. والأديب الشاعر الكاتب الموسوعي المبارك بن الشعار الموصلي صاحب كتاب عُقود الْجُمان في شعراء هذا الزمان في 8 مجلدات توجد سبعة منها في المكتبة السليمانية في اسطنبول، وأبو الحسن الهروي الرحالة الشهير مؤلف كتاب الإشارات إلى معرفة الزيارات، والفخر الموصلي  البصير بعلل القراءات وله كتاب في مخارج الحروف.
وأبو عبد الله محمد بن الحنبلي الموصلي المعروف بشعلة شيخ القراء والنحويين في الموصل، وله كتاب كنز المعاني في حرز الأماني.
والمحدث أبو زكريا يحيى بن سالم بن مفلح البغدادي الموصلي الحنبلي، والحافظ زين الدين عمر بن سعيد الحنفي الموصلي مؤلف كتاب المغني في علم الحديث،والفقيه أبو المحاسن المجمعي الموصلي الحنبلي الذي كتابا اشتمل على طبقات الفقهاء من أصحاب الإمام أحمد بن حنبل الشيباني.
والطبيب أبو الحسن علي ابن أبي الفتح بن يحيى كمال الدين الكباري الموصلي، والمهذب علي بن أحمد بن مقيل الموصلي.
وسكن في الموصل ابن المستوفي الأربلي، وياقوت الحموي الرومي، و عبد اللطيف البغدادي ، والسمعاني صاحب الأنساب . والعز ابن عبد السلام، وابن الصلاح الشهرزوري الشافعي وغيرهم.
مكتبات الموصل
أُنشئت في الموصل عدّة مكتبات، واشتهرت منها المكتبة التي أنشأها أبو القاسم جعفر بن محمد بن حمدان الموصلي السّحام في نهاية القرن الثالث الهجري، وبداية القرن الرابع الهجري، وتعتبر تلك المكتبة أول مكتبة عامة توقف لهذا الغرض وحده،وكانت فيها كتب لجميع فروع المعرفة البشرية حينذاك، وكانت وقفاً على كل طالب علم لا يمنع أحد من دخولها، وإذا جاءها غريب يطلب العلم وكان مُعسرا، قُدّم له المال والورق، ومكان المبيت، وكانت تفتح للمطالعة في كل يوم من أيام الأسبوع.
و أقدم من حاول فهرسة المخطوطات في الموصل في القرن العشرين هو الدكتور داود الجلبي الذي كتب كتاب مخطوطات الموصل ونشرته مطبعة الفرات في بغداد سنة 1346هـ/ 1927م، وفي سنة 1979م أصدرت مؤسسة دار الكتب في جامعة الموصل نشرة تقع في 48 صفحة، وتصف مختارات من معرض مخطوطات الموصل، وتعتبر الموصل من أغنى المدن العراقية بالمخطوطات المسيحية التي تحتفظ بها مكتباتها وأديرتها، وكانت أكثر المخطوطات الإسلامية في مكتبة المتحف، ومكتبة الأوقاف الإسلامية في الموصل التي افتتحت سنة 1974م، وطبعت فهارسها في 9 مجلدات صدر أولها سنة 1395هـ/ 1975م، وآخرها سنة 1400هـ/ 1980م، وقدمت الفهارس معلومات حول 8539 مخطوطة، حصلت المكتبة على 4336 مخطوطة منها كهدايا من أهالي الموصل بدون مقابل، وأخيراً تعرضت مكتبات الموصل للسلب والنهب في ظل التسيب الأمني جراء الاحتلال الأنغلو - أميركي الذي يدعمه أعداء العروبة والإسلام والإنسانية

.
ملاحظة : نشر هذا البحث في مجلة الوسط التي كانت تصدر ملحقة بجريدة الحياة

*****************


thumb qr1 
 
thumb qr2
 

إحصاءات

عدد الزيارات
16427286
مواقع التواصل الاجتماعية
FacebookTwitterLinkedinRSS Feed

صور متنوعة