الأنظمة الثورية العربية تتقمَّص الفاشية وتستنسخها، ثم تتبرَّأ منها

د. محمود السيد الدغيم

الْحَيرةُ هي سيِّدة الموقف في الشارع العربي، وهذه الحيرة وليدة فراغ فكري أنتجته الأنظمة القمعية التي عطلت العقول جراء اغتيال الحرية، ومن المعلوم أن لا حيرة مع الحريَّة حيث أن الحريَّة تتيح للعقول المنتجة فرصة إنتاج الفكر الذي يُعتبر مصدرا أساسياًّ لإنارة طُرُق الحياة المتشعبة.

 

وجراء هذا الواقع العربي المضطرب تتكاثر الأسئلة، وتغيب الأجوبة، ويعيش الناس في دوَّامة الضياع الذي لم يأتِ من فراغ، وإنما نَتَجَ عن واقع سياسي مُستورَد يتناسب مع الأنظمة القمعية المستبِدَّة.

 

إن رَصْدَ الساحات السياسيَّة العربية يُسفِرُ عن تشخيص تقريبي لما يدور على مسارحها من علاقات شاذَّة بين الحكام والمحكومين، وتَتَّسم هذه العلاقات بالسمات التالية:

1: الدعوة إلى الجمع والاتحاد تحت سيطرة النخبة، وسلطة الصفوة، والأقلية المبدعة المختارة الإيجابية التي تقود عامة الشعب السلبية حسْب تصوُّر قادة المسيرات الثورية المتسلطة.

 

2: إباحة الاستبداد، واعتبار أجهزةِ السلطة عادلةً؛ ولو جارت لأن في جورها مصلحة عليا للأمة، ولتطبيق ذلك تعتمد النزعة العسكرية لتأمين الهيمنة الشاملة، وذلك بعسكرة المجتمع، ومن ظواهر ذلك اللباس الموحد على أمل فرض الفكر الموحد تحت سيطرة الفاشية المنقذة حسْب تصوُّر وسائل الإعلام المأجورة الموالية للسلطة.

 

3: نفي وجود الصراع رغم وجوده، واعتبار مصالح السلطة المتسلطة فوق مصالح كافة الطبقات الاجتماعية، ولا بأس بالتضحية بكلٍّ من الوطن والمواطن من أجل المحافظة على القائد وبطانته النخبوية المنافقة.

 

4: إلغاء التعددية والخصوصيات من أجل تكريس الحزبية الأحادية الشمولية.

 

5: إعلاء أهمية شؤون الصراع القومي، وتحويلها إلى سيوف مسلطة على رقاب قُوى المعارَضة السياسية، واستباحة دمائها في سبيل انتصار المتسلطين في صراعهم مع من يعارضهم.

 

6: إحلال عبادة السلطة محل عبادة الأصنام، وتأليه الديكتاتور المتسلط باعتباره مخلص الوطن والمواطنين من الأعداء الداخليين والخارجيين، وباعتباره المعصوم الذي لاينطق عن الهوى، والديكتاتور القائد هو الوطن، وخطاباته قوانين للدولة والمجتمع، وخسارة الوطن تعوَّض أما خسارة القائد الخالد فلا تعوض، ولذلك تجوز التضحية بالوطن، ولا تجوز التضحية بالقائد الفاسد، والأمثلة شاهدة على ذلك في مُعظم الدول التي يحكمها الثوريون المتسلطون.

7: رفض أي شكل من أشكال الرفاه الاقتصادي لأفراد الشعب، والادِّعاء بأن الرَّفاه إياه يحوِّل الشعوب إلى قطط سمينة لا هَمَّ لها سوى التغذية مما يُفسدها، ويشغلها عن واجباتها في طاعة القائد الضرورة، وفي نفس الوقت يتمُّ التغاضي عن ثراء القائد وبطانته النخبوية وترفها غير المحدود، وتحوُّل أتباعها من فقراء مُعدمين إلى أثرياء عالميين.

 

8: مُعاداة الدين باسم العلمنة، وإحلال مفاهيم وهمية تتَّكِئ على مفاهيم الشرف، والإخلاص والتضحية، وتعتبرها واجبةً على العامة نحو القائد الملهم والبطل المنقذ الذي لا بديل عنه سوى أبنائه ثم مُريديه في حال موته.

 

9: معاداة العلم، واستغلال الدين والمذهبية حين الضرورة لخدمة القائد الضرورة بطُرُقٍ انتهازيَّة مُلتوية مُموّهة قائمة على التضليل.

 

10: إعاقة الثقافة، وفرض العزلة على المجتمع، وتبرير العيش الغريزي في كهوف الفاشية المظلمة بشكل صوفي يفرض على القطيع طاعةَ  الراعي طاعةً عمياء.

11: تنمية الفوضى في مجال النزاعات الأدبية، وتزوير التاريخ بحجة إعادة كتابة التاريخ، وإحياء التراث بطرقة انتقائية مبتذلة مبتورة تحيي ما يناسبها، وتلغي ما يُعارضها، ومثال ذلك تمجيد الحركات الهدَّمة المتمردة، وإحياء ذكرها تحت مسمَّى إحياء التراث القومي.

11: منع التلاقح الحضاري، والتواصل الفكري الإنساني، وتكريس التقوقع الإقليمي الداخلي، والاكتفاء بما يخدم النخبة المتسلِّطة، وسبب ذلك الخوف هو من الهواء الصحي النقي الذي يقضي على الجراثيم التي تنتعش في الأجواء الملوّثة.

 

12: السيطرة على مجالات التربية والتعليم لتشويه أفكار الأجيال الشابة، وحصرها ضِمن بوتقة محدودة مُجدبة، وزجّها في تنظيمات عسكرية تتطلَّب الطاعةَ العمياء عملاً بمقولة: "بما أنَّ قوة الجيش في نظامه فقد اقتضى أنْ يحوز الرئيسُ على طاعة مرؤوسيه التامَّة وخضوعهم له في كل الأوقات". ومقولة : "نفذ ثم اعترض".

 

لو نظرنا إلى سِمَات الواقع السياسي العربي التي ذكرناها لوجدنا أنَّها تنطبق تماماً على سِماتِ الفاشيّة التي دمرتْ أوروبا، وبعدما طرَدَها الأوروبيون؛ وأَحَلُّوْا مَحَلَّها ما هو أفضل منها؛ رُحِّلَت الفاشيةُ من أوروبا، وحَلَّتْ ضيفةً ثقيلة على الشعوب العربية، وعزّزتها وكرَّمتها النخبة الثورية في معظم البلاد العربية، ولكن النُّخب التي تقمَّصت الفاشيَّةَ واستنسختْها زَوَّرَتْ اسْمَها، وبمعنى آخر: احتفظت بالمعنى وغيَّرت القافية، أي: بدَّلت القميصَ الخارجي واحتفظت بالجوهر الفاشيِّ المقيت، وبلغ بها التَّنَكُّرُ حدَّ إنزال أقسى العقوبات بمن يصف الأنظمة الثورية العربية بصفة الفاشية، وشأنهم بذلك شأن اللصِّ الذي لا يتورَّع عن قتل الشاهد الذي يراه مُتلبساً بجريمته، وذلك بهدف إخفاء الجريمة التي تقتضي عَدَمَ وُجود ما يكشفها من أدلَّةٍ وبَيِّنَات، ولو أدى ذلك إلى التزوير وإزهاق الأرواح.

ويجدر بنا أن ننوِّه بأن الفاشية القومية قد ظهرت في إيطاليا سنة 1922م، وأَوْكَلَ موسوليني مهمَّة بناء أفكارها إلى الفيلسوف الهيغلي الجديد جيوفاني جنتيلي، وبعد ذلك ظهرت تحت ستار: الإشتراكية القومية في ألمانيا سنة 1933م، كرد فعل على الهزيمة الألمانية في الحرب العالمية الأولى، واعتمدت فلسفة السوبرمان التي ابتدعها نيتشه الذي اعتبره النازيون نبيَّ القومية الإشتراكية، ولكنهم حصدوا هزيمة مُنكرة في الحرب العالمية الثانية بعدما ألحقوا بالعالم دماراً لم يسبق له مثيل.

 

ولذلك فإننا نرى أن الأنظمة الثورية العربية التي تتقمَّصُ الفاشية وتستنسخها ما هي إلا أنظمة دمار على الصعيدين الداخلي والخارجي، ولا علاج لها سوى رميها في مكانها الطبيعي على مزابل التاريخ إلى جانب الفاشية الإيطالية والنازية الألمانية، وإلا فإن أذاها سيستمرّ في التدمير على كلِّ صعيد داخل بؤر السيطرة الفاشية وخارجها مما يجرُّ على البلاد والعباد نكبات ونكسات وهزائم تؤدي إلى تدمير على المستوى الحضاريٍّ لا يُعوَّض بثمن.

thumb qr1 
 
thumb qr2
 

إحصاءات

عدد الزيارات
16436757
مواقع التواصل الاجتماعية
FacebookTwitterLinkedinRSS Feed

صور متنوعة