أميركا وسوريا وإيران ومتاهة رمال العراق
صراع الديكة الشمولية
لندن – الدكتور محمود السيد الدغيم

 

شهدت الخمسون سنة الماضية صراعاً ثلاثياًّ عنيفا في منطقة الشرق الأوسط، وشاركت في ذلك الصراع ثلاث دول هي إيران وسوريا والعراق، وأدى ذلك الصراع إلى ضعف عام جعل المنطقة مكشوفةً للطامعين، وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأميركية، ورغم أن الأنظمة الحاكمة في الدول الثلاث تتقاسم العداء، فإن كل نظام منها يقدم مبررات عداوته غير المشروعة، ويتظاهر بأنه يقوم بالعدوان من أجل المصلحة الوطنية، وهذا افتراء صارخ مارسته الأنظمة الحاكمة في الدول الثلاث ضاربة عرض الحائط بمصالح شعوبها التي تقتضي التعاون من أجل تأمين حياة أفضل.

والأنظمة الثلاثة تشترك في الديكتاتورية والقمع وكمّ الأفواه، والقتل بدون محاكمات، واستباحة الدماء والأموال والأعراض، والأمثلة كثيرة يمكن الحصول عليها من قوى المعارضة الشريفة غير العميلة التي نجا بعض أفرادها من مجازر الأنظمة الجماعية، واغتيالات المساجين العزّل والموقوفين السياسيين وغير السياسيين.

يمكن الحصول على الكثير من المعلومات الخطيرة مِمّن نجا وخرج خارج جمهوريات بلاد قمعستان الثلاث التي تفننت أنظمتها الشمولية، وصنعت أعداءً من شعوبها إضافة إلى عدائها من غير شعوبها، وبررت تدخل القوى الخارجية لحماية حقوق الإنسان في ظل أنظمة هي أولى بحماية حقوق مواطنيها من الدول الخارجية، ولكن الظاهر أن إراقة الدماء تعمي القلوب والأبصار، وحب الكراسي واستساغة سرقة المال العام تخدر حتى المحنكين طمعاً باقتناص الفرص إلى آخر لحظة لسرقة المزيد المزيد.

وأغرب ما في الصراع الثلاثي التناحري هو الصراع السوري العراقي، فسوريا والعراق جمهوريتان عربيتان، يحكمهما حزب البعث العربي الإشتراكي، ذو "الثالوث غير الْمُقدس: وحدة. حرية. إشتراكية" فقد وصل الحزب إلى الحكم في العراق في 8 شباط سنة 1963م، ووصل إلى الحكم في سوريا في 8 آذار سنة 1963م، وسيطرت منظمة الحرس القومي على الشارعين السوري والعراقي، وسادت في البلدين صرعةُ تربية الشنب الطويل الأهدل على شكل ثمانية، واختلفت تسمية تلك الشوارب، فبينما أطلق العراقيون على شواربهم شارب 8 شباط، تباهى السوريون بشنب 8 آذار، ولكن "الحركات التصحيحية" في البلدين أطاحت بالشوارب التي كانت على شكل 8، وآل مصير أصحابها إلى القتل بدون محاكمات، أو السجن المؤبد في سجون مجهولة الأماكن والأبواب، وقد تم ذلك بعد انقلابات دموية سُميت زوراً حركات تصحيحية،و كان الأولى بهم أن يسمّوها: حركات تذبيحية.

ومع تنامي العداء السوري العراقي صار الحزب حزبين، البعث السوري بقيادته القومية، وقياداته القطرية في دمشق، والبعث العراقي بقيادته القومية وقياداته القطرية في العراق، وبدأت بين الحزبين حروب "داحس والغبراء" ولم يتوفر رجل مثل هرم بن سنان للإصلاح بين قبيلتي عَبْسٍ وذُبيان، فظلت السجون السورية والعراقية مملوءة بالرفاق البعثيين المتهمين بالهوى العراقي الممنوع في دمشق، أو المتهمين بالهوى الشامي الممنوع في العراق، ولعل آخر ذيول المأساة قد تجلت بهجوم العراقيين الجدد على بيوت السوريين الذين كانوا في العراق، ولم يخلُ الهجوم من عدوانٍ على الأرواح والممتلكات والأعراض، ولم يجد آلاف السوريين سوى التوجه نحو سوريا، وعلى رأسهم رئيس سوريا السابق وعضو مجلس قيادة ثورة الثامن من آذار أمين الحافظ، مما أدى إلى وقوفهم في منزلة بين المنزلتين تقع بين طريق العودة المحفوفة بالمخاطر، وطريق الوصول إلى سوريا المغلق بقرار من القيادتين القومية والقطرية في دمشق، واستمر قرار منعهم من دخول وطنهم سوريا عدة شهور عجاف، وهذا يوضح أن الحرمان من حقِّ العودة ليس مقصوراً على فلسطينيي الأراضي المحتلة، بل كلنا في الهوى سوى.

 لم يقتصر الصراع بين جناحي البعث على سوريا والعراق، وإنما امتدّ الأذى إلى الدول العربية من موريتانيا غرباً إلى الأحواز شرقاً فما من بلدٍ إلا وفيه تمثيل حزبي للحزبين يتراوح بين قيادة قطرية وفُرقةٍ حزبيةٍ، ويتبادلان الاغتيالات والتصفيات حرصاً على نقاء الحزب كما يدعي كل طرف من جناحي الحزب، وهكذا أفلح حزب البعث بإحلال التجزئة العربية محلّ الوحدة العربية، وساهم بتهيئة المناخ الملائم لخريطة جديدة للمنطقة هي أسوأ من خريطة سايكس- بيكو، وتقتضي حلول الولايات العربية غير المتحدة محلّ الدول العربية الحالية التي لم تعُدْ مرغوبةً في ظلّ النظام العالمي الجديد الرائج في القرن الحادي والعشرين لكثرة ما نفذ حكامها من مجازر بحق الشعوب البريئة بدم بارد لا يقل برودة عن دم شارون.

وأغرب الغرائب أن حزبي البعث في سوريا والعراق تمسّكا بدستور الحزب الذي ظلّ حياًّ ومُهمّشاً في البلدين، وما يتبعهما من تنظيمات حزبية، وذلك لأن الدستور رمز الشرعية المقدسة عند الرفاق البعثيين على اختلاف مشاربهم.

ولعل مظاهر تشفي البعثيين السوريين بما آلت إليه أوضاع رفاقهم في العراق هي دليل على عدم وجود بعثيين في البلدين لأن وجودهم يقتضي حزنهم على بعضهم البعض، وليس التشفي كما هو واضح لكل المراقبين، وتشفي إيران بالعراق ليس بمستغرب بفضل التشفي البعثي السوري المرتبط مع إيران باطنياًّ رغم ادعاءه العلمانية ظاهرياًّ، وبانتظار النظام الذي سيسقط من النظامين الباطنيين بعد نظام العراق تبقى كفّة ميزان التشفي السوري الإيراني متذبذبة بانتظار ساعة الصفر، وكلما سقط نظام تشفى به الآخرون ، ورغم مظاهر التعاون فإن كل نظام يحاول أن يحوّل النظام الآخر إلى ورقة من أوراقه المستخدمة في لعبة المصالح على طاولة القمار الإقليمي والعالمي، وهكذا تضيع البلاد والعباد، ويستمر صراع ديكة سوريا والعراق وإيران قبل السقوط وبعده، وتدفع شعوب البلدان الثلاث ثمن الصراع المرير. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
thumb qr1 
 
thumb qr2
 

إحصاءات

عدد الزيارات
17251729
مواقع التواصل الاجتماعية
FacebookTwitterLinkedinRSS Feed

صور متنوعة