واحة الكتابة

أبو العباس القلقشندي

وكتابه صبح الأعشى في صناعة الإنشا

 

 

واحة الكتابة

د . محمود السيد الدغيم 

 1

أبو العباس القلقشندي

 

المؤرخ الأديب البحاثة القاضي شهاب الدين أحمد بن علي بن أحمد الفزاري القلقشندى منسوب إلى قلقشندة إحدى قرى مدينة قليوب سنة 756 هـ / 1355م ودرس في القاهرة والإسكندرية على شيوخ عصره، وتخصَّص في الأدب و الفقه الشافعي، وبرع في علوم اللغة العربية، وعمل في ديوان الإنشاء سنة 791 هـ في عهد السلطان الظاهر برقوق، واستمر فيه إلى أخر عهد الظاهر برقوق سنة 801 هـ ، وتوفي سنة 821 هـ / 1418م .

وكتب القلقشندي العديد من الكتب، مثل كتاب " نهاية الأرب في معرفة قبائل العرب " ، وكتاب " قلائد الجمان في قبائل العربان " وهما يتعلقان بأنساب العرب ، كما وضع مختصرا لكتابه " صبح الأعشى " عنوانه " ضوء الصبح المسفر وجني الدوح المثمر " ، كما وضع كتابا في الفقه الشافعي عنوانه " الغيوث الهوامع في شرح جامع المختصرات، ومختصرات الجوامع " .


2

صبح الأعشى في صناعة الإنشا

 

ومن أهم مؤلفات القلقشندي كتاب " صبح الأعشى في صناعة الإنشا " الذي فرغ من تأليفه سنة 814هـ/1411م، واستمر في تأليف ما يقرب من عشرين سنة، وقسمه إلى عشر مقالات ، وقد بدأ كتابه بمقدمة بالحديث عن فضل القلم والكتابة، وصفات الكُتَّاب وآدابهم، وتاريخ ديوان الإنشاء وأصله في الإسلام، وقوانين الديوان ومرتبة صاحبه، والتعريف بوظائف الديوان ، وانتهي بالمقالة العاشرة وهي خاتمة الكتاب التي تناول فيها نماذج من المديح والفخر والصيد، وما يتعلق بديوان الإنشاء بغير شؤون الكتابة مثل: البريد وتاريخه في مصر والشام والحمام الزاجل وما يتعلق به .

وجاء في "الفصل الأول - من الباب الثاني من صبح الأعشى - في ذكر مدلول الكتابة لغة واصطلاحا ، وبيان معنى الإنشاء، وإضافتها إليه ومرادفه التوقيع لكتابة الإنشاء في عرف الزمان والتعبير عنها بصناعة الترسل.

 

3

الكتابة

 

الكتابة - في اللغة - مصدر كتب، يقال‏:‏ كتب يكتب كتباً وكتاباً وكتابة ومكتبة، وكتبة فهو كاتب، ومعناها: الجمع، يقال: تكتَّب القوم، إذا اجتمعوا، ومنه قيل لجماعة الخيل: كتيبة وكتبتن.. ومن ثَمَّ سُمي الخطّ: كتابة لجمع الحروف بعضها إلى بعض، كما سمي خرز القربة: كتابة لضم بعض الخرز إلى بعض‏.

 

قال ابن الأعرابي‏:‏ وقد تطلق الكتابة على العلم، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ أم عندهم الغيب فهم يكتبون ‏"‏ (سورة الطور، الآية: 41، وسورة القلم، الآية: 47) أي: يعلمون.

 

وعلى حَدِّ ذلك قوله صلى الله عليه وسلم - في كتابه لأهل اليمن حين بعث إليهم معاذاً وغيني بعثت إليكم كاتباً ‏"‏قال ابن الأثير في كتاب غريب الحديث: أراد عالما، سُمِّي بذلك لأن الغالب على من كان يعلم الكتابة أن عنده علماً ومعرفة، وكان الكاتب عندهم قليلاً، وفيهم عزيزاً‏.

 

أما في الاصطلاح: فقد عرَّفها صاحب مواد البيان‏:‏ بأنها صناعة روحانية تظهر بآلة جثمانية دالة على المراد بتوسط نظمها‏، ولم يُبَيِّنْ مقاصد الحدّ، ولا ما دخل فيه، ولا ما خرج عنه، غير أنه فسَّر في موضع آخر معنى الروحانية فيها بالألفاظ التي يتخيلها الكاتب في هامه، ويصور من ضمِّ بعضها إلى بعض صورةً باطنة قائمة في نفسه‏.

 

والجثمانية: بالخط الذي يخطه القلم، وتُقيَّد به تلك الصورة، وتصير بعد أن كانت صورة معقولة باطنة صورة محسوسة ظاهرة‏.

وفسر الآلة بالقلم، وبذلك يظهر معنى الحدّ، وما يدخل فيه، ويخرج عنه، ولا شك أن هذا التحديد يشمل جميع ما يسطّره القلم مما يتصوّره الذهن، ويتخيله الوهم، فيدخل تحته مطلق الكتابة كما هو المستفاد من المعنى اللغوي‏، على أن الكتابة وإن كثرت أقسامها، وتعددت أنواع هالا تخرج عن أصلين هما‏:

 

كتابة الإنشاء، وكتابة الأموال، وما في معناهما، إلا أن العُرف - فيما تقدَّم من الزمان - قد خصَّ لفظ الكتابة بصناعة الإنشاء حتى كانت الكتابة إذا أُطلِقت لا يراد بها غير كتابة الإنشاء، والكاتب إذا أُطلِق لا يُراد به غير كاتبها حتى سَمَّى أبو هلال العسكري كتابه: الصناعتين الشعر والكتابة، يريد كتابة الإنشاء، وسَمَّى ابن الأثير كتابه: المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر‏، ‏يريد كاتب الإنشاء، إذ هُما موضوعان لما يتعلق بصناعة الإنشاء من علم البلاغة وغيرها ثم غلب في زماننا بالديار المصرية اسم الكاتب على كاتب المال حتى صار الكاتب إذا أطلق لا يراد به غيره، وصار لصناعة الإنشاء اسمان‏:

 

خاص يستعمله أهل الديوان، ويتلفظون به وهو: كتابة الإنشاء.

وعام يتلفظ به عامة الناس، وهو التوقيع، فأما تسميتها بكتابة الإنشاء، فتخصيصًا بالإضافة إلى الإنشاء الذي هو أصل موضوعها، وهو مصدر أنشأ من لاشيء إذا ابتدأه، أو اخترعه على غير مثال يحتذيه، بمعنى: أن الكاتب يخترع ما يؤلفه من الكلام، ويبتكره من المعاني فيما يكتبه من المكاتبات والولايات وغيرهما، أو أن المكاتبات والولايات ونحوها تنشأ عنه‏.

 

4

التوقيع

وأما تسميتها بالتوقيع: فأصله من التوقيع على حواشي القصص وظهورها، كالتوقيع بخط الخليفة، أو السلطان، أو الوزير، أو صاحب ديوان الإنشاء، أو كتاب الدست، ومن جرى مجراهم بما يعتمد في القضية التي رفعت القصة بسببها، ثم أُطلِق على كتابه الإنشاء جُملة‏.قال ابن حاجب النعمان في كتاب ذخيرة الكتاب‏:‏ ومعناه في كلام العرب: التأثير القليل الخفيف، يقال‏:‏ جَنْبُ هذه الناقة موقع، إذا أثَّرت فيه حِبالُ الأحمال تأثيراً خفيفا، وحُكي أن أعرابية قالت لجارتها: حديثك ترويع، وزيارتك توقيع‏، تريد أن زيارتها خفيفة‏، ويحتمل أن يكون من قولهم‏:‏ وقع الأمر، إذا حقَّ ولزم، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ووقع القول عليهم بما ظلموا ‏"‏ (سورة النمل، الآية:85)  أي حَقَّ، أو من قولهم‏:‏ وقَّع الصَّيقل السيف، إذا أقبل عليه بميقعته يجلوه، لأنه بتوقيعه في الرقعة يجلو اللبس بالإرشاد إلى ما يعتمد في الواقعة، أو من موقعة الطائر‏، وهي المكان الذي يألفه من حيث إن الموقِّع على الرّقعة يألف مكاناً منها يوقِّع فيه كحاشية القصة ونحوها، أو من الموقعة بالتسكين‏:‏ وهو المكان المرتفع في الجبل لارتفاع مكان الموقّع في الناس وعلوِّ شأنه، أو غير ذلك‏.

 

ووجه إطلاقه على كتابة الإنشاء: أن التوقيع في الأصل اسم لما يُكتب على القصص ونحوها، وأن ما يكتب من ديوان الإنشاء من المكاتبات والولايات ونحوها إنما يبنى على ما يخرج من الديوان من التوقيع بخط صاحب ديوان الإنشاء، أو كتاب الدست، ومن في معناهم، وحينئذ فيكون التوقيع: هو الأصل الذي يَبْنِيْ عليه الْمُنشئ.

 

وقد يكون سُمِّي بأصله الذي نشأ عنه مجازاً، وقد يُعَبَّر عنها بصناعة الترسُّل تسميةً للشيء بأعمِّ أجزائه، إذ الترسُّل، والمكاتبات أعظم كتابة الإنشاء، وأعمّها من حيث إنه لا يستغني عنها ملك، ولا سُوقة، بخلاف الولايات فإنها مختصة بأرباب المناصب العلية دون غيرهم، وعلى ذلك بنى الشيخ شهاب الدين محمود بن سليمان بن فهد الحنبلي الحلبي رحمه الله ( وفاته في دمشق سنة 725هـ/1325م) تسمية كتابه: حسن التوسل إلى صناعة الترسل‏.



 

5

خواتم المخطوطات الإسلامية

 

لقد رسخ مفهوم الالتزام العلمي والثقافي في وجدان الكتاب والخطاطين المسلمين ، ودليل ذلك ما نجده من عبارات مدونة على المخطوطات، ولا سيما في أول مخطوطة وآخرها، ومن ذلك ختم المؤلف كتابه بطلب الدعاء من القرَّاء ، واعتدادها مما يدَّخره ليوم القيامة.. وكثيرا ما ختم النساخ كتاباتهم بطلب الدعاء من القارئ أو بطلب إصلاح الخلل، أو عدّ النسخ من الأعمال التي يحاسب عليها الإنسان، فالمسلم الملتزم الذي يرى نفسه محاسبا على أعماله ، لا يُتحف أمَّته إلا بما يثقل ميزان حسناته غدا ، مما ينفع الناس من الكتب القيمة.

 

 وقد قال الخطاط المشهور ابن البواب الكاتب ( 423 هـ / 1032م) في رائيته في علم الخط:

 

وارغبْ بنفسِك أنَّ يخطّ بنانها

خبرًا تُخلِّفه بِدارِ غُرورِ

فجميعُ فِعْلِ المرء يلقاهُ غداً

عند التِقاءِ كتابهِ الْمَنشورِ

 

وهنالك بيت شعر اختتمت به آلاف المخطوطات، وهو قول القائل:

وإنْ تَجِدْ عَيباً فَسُدّ الْخَلَلاْ

جَلَّ مَنْ لا عيب فيهِ وَعَلاْ

 

ومن الأبيات السائرة الدائرة في خواتيم المخطوطات قول القائل:

 

فما من كاتبٍ إلا سيفنى

ويُبقي الدهرُ ما كتبت يداهُ

فلا تكتبْ بخطِّك غير شيء

يُسِرُّكَ في القِيامة أن تراهُ

 

وقد ذكر الإمام أبو حامد الغزالي أحد البيتين في كتاب ذكر الموت وما بعده، وهو الكتاب العاشر من ربع المنجيات وبه اختتام كتاب إحياء علوم الدين، وقد تضمن الكتاب العاشر فصلا بعنوان: بيان منامات المشايخ رحمة الله عليهم أجمعين، وقال الغزالي: "ورؤى الجاحظ في المنام، فقيل له ما فعل الله بك؟فقال:

 

ولا تكتب بخطك غير شيء

يسرك في القيامة أن تراه"

 

وقال أبو بكر الرشيدي: رأيت محمدا الطوسي المعلم في النوم، فقال لي: قل لأبي سعيد الصفار المؤدب:

وكنا على أن لا نحول عن الهوى

فقد وحياة الحبِّ حلتم وما حلنا

قال: فانتبهت، فذكرت ذلك له، فقال: كنت أزور قبره كل جمعة، فلم أزره هذه الجمعة.والحمد لله حمد الشاكرين".

 

 


thumb qr1 
 
thumb qr2
 

إحصاءات

عدد الزيارات
16445874
مواقع التواصل الاجتماعية
FacebookTwitterLinkedinRSS Feed

صور متنوعة