مفهوم التخوين بين الشعوب المقهورة والأنظمة العسكرية المحتلة
مفهوم التخوين بين الشعوب المقهورة والأنظمة العسكرية المحتلة
د . محمود السيد الدغيم
أغرب الغرائب في العالم المعاصر أن القوات العسكرية تستبح حقوق الوطن والمواطن، وتُلحِق الأذى بالجيران، وتطلب مِن مواطنيها تَحمّلَ تَبِعات النظام القمعي حِرصاً على جيش الوطن، وحتّى الجيران تَطلُبُ منهم أن يتحمّلوا الجورَ أسوةً بمواطنيها باعتبارهم قدوة حسنة في شؤون السَّمْع والطّاعة، والْهُتافات: بالروح؛ بالدم؛ بالمال؛ نفديك يا جيشنا القائد، ورئيسنا الخالد.
والباحث المحايد يرى بوضوح أنَّ أكثريّة الدول العربية مازالت ترزح تحت نير الاحتلال العسكريّ المحليّ الذي يتفوَّق على الاحتلال الخارجيّ بعدَّةِ نِقاطٍ تُطلِقُ أيدي جلاوزته دون وازعٍ داخلي أو خارجي، ومن هذه النقاط التالي.
1 : تتفاوت نسبة أعداد القوات العسكرية بين دولة وأخرى ارتفاعاً وانخفاضاً إلى نسبة السكان، فقد تتراوح أعداد الجيش وملحقاته الأمنية ما بين واحد في المائة إلى خمسة في المائة، وكلما ارتفعت نسبة الجيوش ترتفع حصتها من الميزانية العامة للدولة، فإذا كان عدد سكان الدولة عشرة ملايين، ونسبة الجيش واحد في المائة يكون مجموع الجيش مائة ألف، وهؤلاء يستولون على نصيب الأسد من الميزانية العامة، وعندما ترتفع نسبة الجيش إلى خمسة في المائة يصبح عدد الجيش نصف مليون، وهذه النسبة تستولي على أكثر من نصف ميزانية الدولة مما يؤدي إلى فقر 95 في المائة من الشعب، وبهذه الطريقة تتشكَّل الرأسمالية العسكرية المحميَّة بالدبابات "الوطنية" غير المعنية بحماية الحدود، فإذا استولى العدو على جزء من الوطن فذلك غيرُ مُهمٍّ، والمهمّ أن يبقى النظام باعتبار حمايته هي المهمَّة الأولى للقوات المسلحة لكونها المستفيدة الوحيدة من النظام العسكري، وبذلك تتطابق أهداف الغايات والوسائل، ولا يحصل "التناقض بين المبدأ والتطبيق" حسب المصطلح الثوري المشهور.
2 : قوات الاحتلال الخارجية غريبة عن الوطن المحتل، وليس لها امتدادات ثوروية شعبية تمكِّنُها من الفتك بالمقاومة الوطنية مما يفوَّت عليها الكثير من معلومات الأمن العسكري الذي يتوفر لقوات الاحتلال العسكرية الداخلية، ويساعدها على الهيمنة المطلقة، واستشعار الخطر قبل وقوعه، وضربه بأيدٍ وطنيةٍ تحمل أسلحةً أجنبية.
3 : قوات الاحتلال الخارجي مُلزمة بقوانين بلادِها إلى حدٍّ ما، ومن الأمور الطبيعية أن تستفيد الدولُ الواقعة تحت الاحتلال من صراع المعارضة والسلطة في بلد منشأ القوات المحتلة، ومثال ذلك الصراع الفرنسي في الحرب العالمية الثانية، والذي أسفر عن رحيل القوات الفرنسية من سوريا ولبنان نتيجة الضغوطات الفرنسية الداخلية المعارضة للاحتال، وليس نتيجة بطولاتنا الدونكيشوتية التي يتغنى بها تلاميذ المدارس الذين يجهلون مغزى لعبة المفاوضات التآمرية التي أسفرت عن رحيل القوات الغازية الأجنبية بطريقة تحفظ لها ماء الوجه، وسمح أن تحلَّ محلها قوات عسكرية محلية تنوب منابها، وهي أسوأ من غيرها بكل المقاييس السياسية والفكرية والاقتصادية والاجتماعية والإنسانية.
4 : قوات الاحتلال الداخلي والخارجي تستند على الباطل، "وما بُني على الباطل فهو باطل" وإزالته واجبة ومشروعة بكل القوانين الدينية والدنيوية، ولا فائدة من نفاق المتفيهقين الذي يبتدعون قاعدة واهية تقول: "والأحوط اجتنابه" وحقيقة الأمر تقول: الأحوط عدم الإصغاء إلى مُثبطي العزائم، ومُسببي الهزائم، فالاحتلال العسكري مرفوض لو كان داخلياًّ أوخارجياًّ، وخارج على القوانين بشكل عام، ومنافٍ للديموقراطية الإنسانية، فمُهمَّة العسكر هي حماية حدود الوطن، ولا يجوز إهمال الحدود، والتدخل بالشؤون الداخلية التي يجب أن تخضع لسلطة تشريعية منتخبة، تُنتِجُ سلطةً تنفيذية نزيهة، وقضاءً مُستقلاً يمثل العدالة بعيداً عن التسلط العسكري والقهر الحزبي، وما يحيط به من جبهات وطنية تقدمية مشبوهة ومتآمرة.
5 : قوات الاحتلال العسكري الداخلي تستولي على السلطة على ظهور الدبابات "الوطنية"، وبتواطؤ إعلامي داخلي وخارجي، وبعد الاستيلاء على السلطة تبدأ مسرحية قوانين الطوارئ والمحاكم العُرفية التي تحلُّ محلَّ "المحاكم الصورية الأجنبية" ولا فارق بين العُرفي والصُّوري إلاّ بتغيير الأسماء، أما الأحكام الجائرة فهي الجامع المشترك بين تلك المحاكم القمعية غير القانونية.
6 : حينما يوجَّه النقد إلى الاحتلال العسكري الداخلي، فالردُّ يضمنه الدستور الْخُلَّبِيُّ، فالْمَساس بالجيش والقوات المسلحة خرقٌ للدستور، وإهانةٌ للوطن تستوجب الإعدام الثوريّ الفوريّ في حقول الرمي العسكرية بحكم يَصدرُ عن قاضي الفرد العسكري غير القابل للتمييز أو الاستئناف، وإذا كان الناقد محسوباً على أحد الضباط الكبار طائفياًّ أو مذهبياًّ أو حزبياًّ أو عائلياًّ أو بلدياًّ، فيمكن تخفيف الحكم إدارياًّ إلى المؤبد أو أقلّ منه، وربما يسجن في منزله، أو يُكلَّف بمهمَّة اغتيالٍ لأحد أقطاب المعارضة بسيارة مفخَّخة مَسروقة، وتتفاوت مراتب السُّجناء بين الخمسة نجوم، والظلام الدامس، وذلك حسب قُربِ الْمَجني عليه وبُعدِهِ عن مراكز القيادة العامة للجيش والقوات المسلحة، ومجلس الأمن القومي العتيد الذي يسهر على حماية النظام العسكري الانقلابي الشمولي داخل الوطن وخارجه.
7 : حينما يتحدث مُعارض في موضوع حقوق الإنسان تتَّهِمه جوقة الثوريين بالتآمر على سلامة الوطن، والتحدُّث عن قضية مواطن فاسد يعارض الاحتلال الداخلي، وتُلحِقُ الجوقة الثورية هذه التهمة بتهمة قبض الأموال الحرام من جهات أجنبية يعاقب عليها القانون، وينسَون ما يسرقونه من قُوت الشعب تحت مُسميَّات: بَدَل تفرُّغ، ومُهمَّة خارجية، وإِذْن سفر، ودَوام مسائي، ومُهمة عسكرية، وبَدَل طعام، وبَدَل علف، ونفقات مَستورة، وإلى آخر ما هنالك من أبواب النَّهب الثوري المشروع في عُرف الأنظمة العسكرية الديكتاتورية.
8 : أما إذا انتقد ناقد "أنظمة الاحتلال العسكرية الوطنية" فقاموس التُّهَمِ يعجُّ بمصطلحات هزيلة مُختَلَقة لا تتناسب مع مقاييس الأخلاق، ولا قِياس اللغة مَعْنىً أو اصطلاحاً جرَّاء الجهل الْمُطلَق الذي يسود طَوْطَمَ الثُّكنات العسكرية حيث تَحِلُّ الغرائزُ البهيميّة مَحَلَّ العقلِ والْحِكمة والمنطق، وحقوق الإنسان والحيوان والنبات والطبيعة.
وعند النظر في قاموس التُّهَم الجاهزة نَجِدُ أول تهمة تتكرَّر للمعارضة الداخلية والخارجية: أنها تستعين بالخارج الأجنبي على الداخل الوطني، وتستغل الهجمات الخارجية للنيل من الصمود والتصدي الداخلي في ظروف دولية توحي بالاستقواء بالأجنبي على الوطني، وإذا كان الناقد من دولة شقيقة مجاورة واقعة تحت احتلال الأشقاء، فإنه يُتَّهَمُ بالاستعانة بالعدو على الرفيق الشقيق، وفي ذلك خيانة واضحة لِلْخُبْزِ والْمِلح الذي سرقه العسكر من شقيقهم، وهربوه عبر طرقات غير خاضعة للرقابة الجمركية في البلدين المتجاورين.
وثاني تهمة: يقول المتسلطون: هذا الناقد يفكر أن يأتي على دبابة أميركية، والغريب أنهم ينسون أن جميع الأنظمة العسكرية قد جاءت على دبابات سوفيتية مستورَدة، ولا فارق بين حكم الدبابات لأن لغتها التدميرية واحدة من حيث المعنى، لا من حيث المبنى، والأنظمة العسكرية لم تصنع دبابة وطنية لأنها تنهب ميزانيات الوطن وتهرِّبها خارج الحدود حيث المصارف العملاقة، وسِريَّة الحسابات والأرصدة المشبوهة، وغسيل الأموال اللازمة بعد الإحالة على التقاعد، أو قيام انقلاب مناوئ.
وثالث تهمة يوجهها العسكر للمعارضة: إن طموحات المعارضة تتطابق مع أهداف العدو الخارجي الذي يعادي الاحتلال العسكري الوطني الداخلي. وهذه المطابقة بحدِّ ذاتها خيانة حسب قاموس الحكام العسكريين الذين يأمرون بالمعروف وينسون أنفسهم. وهنالك تُهم فرعية تتفرَّع عن هذه الأصول الوهميَّة الشاذة التي لم تَحْظَ بشرعية إجماعٍ اجتماعي مُعْتَبَرٍ.
لعل علة العلل مع الأنظمة الديكتاتورية العسكرية أنها مُصابة بِعَمَى الألوان السياسية، فهي لا تقبل التعدُّدِية، ولا تنظر حولها، وإنما تنظر في مرآتها هي وترى خيالها بنرجسية مفرطة، فكأنها نسيج وحدها، ولم ترَ مثلَ نفسها، والأدلَّة على ذلك كثيرة: فهنالك خنق الأصوات المعارضة، والقضاء على المثقفين، والاستعانة عليهم بطبول وزمور ثقافية تضمُّها اتحادات ونقابات خشبية تردِّد ما تُؤْمَرُ به كالببغاوات، والأنكى من ذلك أنها صنعت أكاديميين عسكريين حصلوا على شهادات الدكتوراه المزورة بأطروحات لم يقرؤوها، ولم يكتبوها، وإنما كُتبت لهم، وعلى هذا المنوال المزري تَمَّت صياغة وزارات الثقافة والإعلام والتربية والتعليم، فأنتج الاحتلال العسكري الداخلي قهراً وجهلاً وتزويراً وتخلُّفاً عجزت عن إنتاجه الاحتلالات العسكرية الأجنبية.
وأعجب العجائب في الأنظمة العسكرية، أنها تتَّهم الأنظمة الأخرى بالخيانة والتعامل مع العدو، ثم نجدها تفوِّض تلك الأنظمة الْمُتَّهَمة بالعمالة كي تُفاوِضَ العدو نيابةً عنها، وهي بذلك تُشبِهُ مَن يكذب على الآخرين، ويصدِّق كذبته، ولكنّ حبل الكذب قصير في ظل عولمة الإعلام والأقنية الفضائية، ووجود عدد لا بأس به من أصحاب الضمير المدني الحرِّ في هذا العالم مِمّا يُبَشِّرُ بمستقبل مُشرق رغم كلِّ ما يفتعله الديكتاتوريون من إحباط.
000
ملاحظة : ينشر في جريدة الحياة يوم الأحد 13 / 2/ 2005م
على الرابط : هنا