بحث : تداعيات السياسة الإقليمية، وتأثيرها على مستقبل الإنسانية
د. محمود السيد الدغيم
المؤتمر العالمي الثامن عشر لمنتدى الفكر المعاصر حول: الأنسنة والمعرفة ومستقبل الإنسانية في القرن الحادي والعشرين
مؤسسة التميمي في تونس
مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات واللجنة العالمية للدراسات الموريسكية
وسـفـــارة هـــولانــــدا تنظمان
المؤتمر العالمي الثامن عشر لمنتدى الفكر المعاصر حول:
الأنسنة والمعرفة ومستقبل الإنسانية في القرن الحادي والعشرين
العاصمة التونسية: عمارة الامتياز، المنطقة العمرانية الشمالية، هاتف 0021671231444
7-8-9 ديسمبر/كانون الأول 2005
تداعيات السياسة الإقليمية، وتأثيرها على مستقبل الإنسانية
د. محمود السيد الدغيم
باحث أكاديمي سوري في مركز الدراسات الإسلامية
كلية الدراسات الشرقية والإفريقية
جامعة لندن
SOAS
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
السيد رئيس الجلسة
السيدات والسادة الحضور
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد
فإن تطور الحضارات الإنسانية الخلاّقة مرهون بتوفر ثلاثة عناصر أساسية هي: المكان، والزمان، والإنسان الْمُنتِج الواعي؛ الذي تحدِّد درجةُ وعيه دورَه في إغناء الحضارات وإعمارِها، أو إفقارها وتدميرها، واستقراءُ خريطة الحضارات الإنسانية يفيدُنا أن كافة الحضارات الإنسانية ارتبطت بنضوج الوعي الإنساني جرَّاء الاستنارة بنور الله، ثم بنور العقل، وهذا هو أساس الحضارات الإنسانية الدينية العالمية التي سادت العالم، ومازالت مؤثرة في أنحاء المعمورة رغم مرور آلاف السنين على نشوئها، أما الحضاراتُ الأخرى غير الدينية، فلم تشكل سوى طفرات سادت مدَّةً قصيرة، ثم بادت، وخلَّفت وراءَها دماراً شمل كافَّة الأصعدة، ومثالُ ذلك حضارةُ الاتحاد السوفييتي الماركسية اللينينية الإلحادية التي عمّرت أقلَّ من قرنٍ، وخلَّفت وراءها العديد من الدول المتخلِّفة على كل صعيد، وتحوّل أنصارُها إلى معسكر أعدائها بعدما انقلبوا عليها، وتصوَّروا أن انقلابَهم على أفكارهم يشكِّلُ صحوةً حداثية تقدُّمية ثورية تنسجمُ مع ميلان موازين القُوى لغير صالح ما نادوا به خلال مدّة تجاوزت القرن من الزمن.
ومن الْمُسلّم به إنَّ الحضارات تسود ثم تبيد في إطاريِّ المكان والزمان، وإنَّ الزمانَ يتوزّع بين الماضي والمستقبل، ويفصِل بين الظرفين خطُّ الحاضر الوهمي المتحرِّك بين الماضي والمستقبل، حيث أن الماضيَ يزدادُ بما يُضاف إليه من المستقبل، وسَيرُ حركة الزمان مستمرٌ لا يتوقف، ونظراً إلى العلاقة بين الماضي والمستقبل، فقد اقتضت قراءةُ المستقبل قراءةَ الماضي لأنه مفتاحُ المستقبل، ولا يمكننا أن نقرأَ المستقبلَ دون معرفةِ الماضي لأن الماضيَ مَخزَنُ الخبرات الإنسانية المتراكمة عبر القرون. ومعنى هذا أنَّ قراءةَ المستقبل دون قراءةِ الماضي هي ضربٌ مِنَ الوهم، وقفزٌ في عالم المجهول.
ونستنتج من ذلك: أن مَن لا يُحْسِنُ قراءةَ الماضي لا يمكنه أن يُحْسِنَ معرفةَ قراءةِ تباشير المستقبل المنظور وما وراءه.
وبما أن الهدفَ من هذا المؤتمر هو استشرافُ المستقبل، فقد اقتضت المصلحةُ استقراءَ الماضي بُغيةَ الاستفادةِ مِمَّا سلَفَ ، وأخْذِ العِبَرِ مِمَّا غَبَر للاستفادة منها في المستقبل الإنساني عاجلاً أو آجلاً.
وقراءةُ الماضي تختلِف باختلافِ القارئ المتأثِّرِ بظرفَيِّ الزمان والمكان جرّاءَ التأثير الجغرافي الإقليمي، والتأثيرِ المعرفي المتراكم، وهذا ما عَبَّرَ عنه العربُ بقولهم: "لكلِّ مَقامٍ مَقال، ولكلِّ زمانٍ دولةٌ ورجال(1)"، وتنوُّعُ القراءات أنتجَ اختلاف وِجْهاتِ النظر بين الشعوب والأحزاب والأشخاص، وأنتجَ اختلافُ وجهاتِ النظر صِراعاً بين الفِئات الإقليمية الْمُتصارعة مما أدَّى، ويؤدي إلى تدهورِ الأوضاع والحقوق الإنسانية بين القُوى الإقليمية المتصارعةِ بصورةٍ تتناسبُ مع حِدّة الصِّراع ومُقوماته البشرية المعنوية، ووسائله الصناعية المادية، وأسلحته الفتاكة.
استقراء الماضي
إنّ استقراءَ ما تيسَّرَ لنا استقراءهُ من رواياتٍ الماضي ونُصُوصِهِ يدلُّنا على أن الإنسانية قد تعرَّضت لموجاتٍ من التخلُّفِ المتوحِّش، وموجاتٍ من التحضُّر الإنساني، وقد ارتبط التوحُّشُ بالظلم والعدوانِ وإلغاءِ الآخر، وحَظْرِ الْخَيارات، وارتبطَ التحضُّرُ بالعَدْلِ والإحسانِ وقَبول الآخَرِ، وإتاحةِ فُرَصِ الاختيار. ودلُيلنا على ذلك هو الحضارةُ الإسلامية التي لم تُلْغِ هويات الشعوبِ غير العربية بل استوعبت النافعَ من الحضارات الأخرى، وأتاحت حريّةَ الاختيار للذين وقعوا تحت سيطرة الدولة الإسلامية، فلم تَفْرِضْ عليهم دِيناً ولا لغةً، بل خَيَّرَتْمُ ْبين الإسلامِ، أو الجزيةِ مع البقاء على دينهم، أو الهجرةِ من دار الإسلام إلى حيثُ يرغبون مع حمايتهم أثناء رحيلهم إلى حيث يرغبون الرحيل، وهذا النمط الإنساني لم تستفدْ منه الكاثوليكية التي اجتاحتْ إسبانيا وشمالَ إفريقيا بعد سقوط غرناطة سنة 1492 للميلاد، وإقامةِ محاكمِ التفتيش التي ناقضت التجربةَ الحضارية الإسلامية التي سبقتها، إذ أنها لم تُعطِ للمغلوبين خيارات بل فرضت عليهم الكاثوليكية أو القتل.
ورغم قسوة محاكم التفتيش فإنَّ السلطنة العثمانية استمرت بمعاملة بطريركِ القُسطنطينيةِ كمعاملة الوزراء حسب البروتوكول الذي وضعه السلطان محمد الفاتح بعد فتح القسطنطينية، وطيِّ صفحة القرون الوسطى المظلمة سنة 857 للهجرة/ 1453 للميلاد. ولم تُقِم السلطنةُ العثمانية محاكمَ تفتيشٍ لأسبابٍ قومية أو دينية أو عنصرية نكايةً بكاثوليك أوروبا، ورُغم تلك الدروسِ الحضارية الإنسانية، فإنّ القُوى العدوانية لم تتوقف عن الظلم وإلغاء الآخر.
والأمثلةُ كثيرةٌ، ومنها: إبادةُ الهنود الْحُمر، وكثلكةُ الفلبين، ونهبُ إفريقيا، وتجويعُ سكانِ العالم الثالث، ومازالت المآسي مُستمرَّةً جرّاء التعصُّب والأنانية التي تتحكَّمُ بالقوى الإقليميةِ الجبَّارةِ في العالم التي تعتمد على القوة المفرطة لتحقيق سياساتها الإقليمية غير الإنسانية.
استقراء المستقبل
إنَّ الإنسانيةَ الفاضِلة هي الإطارُ العالميُّ العامُّ الذي تُناط به مهامُّ تحقيق مصالحِ البشرية على أُسِسِ العدل والمساواة، فكُلَّما سادتْ روحُ الإنسانية، رَجَحَت حظوظُ السعادةِ البشرية، وكلَّما سيطرتْ نزعاتُ التَّعَصُّبِ الجغرافي أو القومي أو الإثني أو الحزبي يحتدِمُ الصراعُ بين القُوى الإقليمية المتصارعة، ويُلقي مُستقبلَ الإنسانية في مَهَبِّ عواصِفِ النِّزاعِ الذي يُنتِجُ ظُلْمَ الأقوياءِ للضعفاءِ مما يؤدي إلى تراجُعِ العَقلانية والفِكر، وقطعِ حِبالِ التواصُلِ الإنساني، جرّاءَ تنامي التوحُّشِ الغريزي الذي يُورِثُ البشريةَ المزيدَ من القهرِ والظُّلْمِ والانحطاط، ويردّ بني البشر إلى أسفل سافلين تصديقاً لقوله تعالى: " لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلاّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6)" سورة التين .
مفهوم الإقليمية
لابُدَّ لنا من إيضاحِ مفهومِ الإقليمية ولو بشكلٍ تقريبيٍّ لكي نستطيعَ رَصْدَ آثاره السلبية على مستقبل الإنسانية، رغم أن مفهومَ الإقليمية لم يتبلور بشكل دقيق ينال إجماع المفكرين، ومازال موضعَ خِلافٍ بين دُعاةِ الإقليمية، وذلك لأنه مفهومٌ متفاوتُ المغزى بحسب الجهة التي تستعمِلُهُ، فمفهومُ الإقليميةِ عند اللغويين غيرُ هذا المفهوم عند الجغرافيين، والسياسيين والاقتصاديين، ولذلك سنعرض نماذج من صِيَغِ مفهومِ الإقليميةِ عند بعض العلماء الذين قدّموا رؤىً بهذا الخصوص.
المفهوم اللغوي: قال ابن منظور(2) في مادة: (قلم) من لسان العرب: "الإِقْلِيمُ في العُرف: قِسم من الأرض يختصُّ باسمٍ، ويتميَّز بِهِ عن غيرهِ، فمِصْرُ إقليمٌ، والشامُ إقليمٌ، واليمنُ إقليمٌ.
والإِقْلِيمُ: يونانيٌّ معرَّب، وقيلَ: عربيٌّ مأْخوذٌ من قُلامة الظُفر، لأنهُ قُطعةٌ من الأرض. وقال الجواليقيُّ: ليس بعربيٍّ محضٍ، والجمع: أقاليم.
والإقليمُ: عند القدماءِ من أهل الهيئَة: واحِدُ الأقاليم السبعة، لأنَّهم قسَّموا المعمور سَبْعَ قِطاعٍ دقيقةً مُستطيلةً على مُوازاة خَطِّ الاستواءِ، ليكونَ كُلُّ قِسْمٍ منها تحتَ مَدارٍ واحدٍ حُكْمًا، فتتشابَهُ أحوالُ البِقاعِ الواقعة في ذلك القِسم، وسَمَّوْا تلك الأقسامَ بالأقاليمِ. وقولُهُم في الصَّوم: العِبْرَةُ باتحادِ الإقليم، مَحْمُولٌ على المعنى الْعُرْفِيّ".
أما صاحب القاموس المحيط(3)، فقال: "الإقْليمُ : قِسم من الأَرْض يتميَّز بخصائِصَ معيَّنةٍ، طبيعيةٍ أو مُناخيةٍ أو سياسيةٍ؛ وقد ضَمَّتِ الخلافةُ العباسِيةُ أقاليمَ عديدةً.
والإقْليمُ: منطقةٌ تتَّصفُ بوحدة الْمُناخ، أو وحدة النظام الاقتصاديّ والاجتماعي؛ كالإقليم الْمِصري، وإقليمِ اليمن.
والإقْليمِيَّةُ: نظامٌ سياسيٌّ يتّصِفُ باللامركزية السياسية والإدارية.
والإقْليمِيَّةُ: نزعةُ التَّعصُّب لإقليمٍ معيَّن؛ والإقليميةُ تتنافى والقومية".
ويمكننا أن نُضيفَ: هي نزعة تتنافى مع العالمية الإنسانية.
المفهوم الجغرافي: ذكر ابن خلدون(4) في مقدمته التقسيم الجغرافي للأقاليم السبعة، وبَيَّنَ أن الحكماء قسَّموا الأرض على سبعة أقاليم من الشمال إلى الجنوب، وكلُّ واحدٍ منها آخذٌ من الشرق إلى الغرب، وقسَّموا كلَّ إقليم أجزاءً، وذكر أن أكثرَ هذه الأقاليم اعتدالاً هي الأقاليم الثلاثةُ المتوسطة، وهي تضمُّ المغربَ والشامَ والحجاز واليمن والهند والسندَ والصين والأندلسَ وما حولَهَا، وهذه الأقاليمُ هي التي استقبلت الأديانَ والرُّسُلَ، وأثبتَ التاريخ تسامُحَها في وقتِ قوَّتِها وسيطرتها لأنَّ الإصلاحَ ينسجمُ مع طبيعة أهلِ هذه الأقاليم، وذلك لأنهم يأخذون الْحَسَنَ فيُطورونه إذا تسَنَّى لهم ذلك، كما يردُّونَ القبيحَ ويستبدلونه بالْحَسَنِ.
ومع تطوُّرِ العلوم والمعارف أبدعَ العلماءُ ما يُسمّى: الجغرافيا الإقليمية، وهي عِلمٌ جغرافي يتكوّن من الجغرافيا البشرية، والجغرافية الطبيعية، ويدرُسُ مناطقَ العالم على أشكالٍ مقسَّمةٍ حسْبَ خصائصَ مُعيَّنةٍ.
و كَمِثال على الأقاليم فإننا نستطيعُ أن نقولَ: إن دُبيَّ جزءٌ من إقليم أكبر هو إقليمُ دولةِ الإمارات العربية المتحدة، و هي بدورها ضمن إقليم مجلس التعاون لدول الخليج العربية، و دولُ المجلسِ هي ضِمن إقليمِ قارة آسيا.
وقد اتفق العلماءُ على تقسيم علم الجغرافيا عبر العصور إلى ثلاثة أقسام رئيسة
وهي:
1ـ الجغرافية الفلكية: وتهتم بدراسة شكل الأرض وحجمها وحركتها وكرويتها وعلاقتها بالكواكب الأخرى.
2ـ الجغرافية الطبيعية: وتهتم بدراسة طبيعة الأرض من حيث البنية الجيولوجية، والظواهر الميترولوجية، والمحاصيل النباتية والحيوانية الطبيعية.
3ـ الجغرافية السياسية: وتبحث في أقطار الأرض وأقاليمها، وحدودها السياسية، وقضايا سكانها.
المفهوم الأممي: لم تتقيَّد منظمةُ الصحَّة العالمية بتقسيم العالم إلى سبعة أقاليم كما هو معروف عند القدماء، ولكنها قسَّمتْ مكاتبَها إلى ستةِ مكاتبَ إقليميةٍ تُشرِفُ
على الدول الأعضاء في المنظمة، وتخصِّصُ لكلِّ إقليمٍ مكتباً إقليميًّا، وهذه المكاتب الإقليمية هي:
1 - المكتب الإقليمي لأفريقيا في الكونغو برازافيل، وتتبعه من البلدان العربية الجزائر وإريتريا.
2 - المكتب الإقليمي لشرق المتوسط في القاهرة، والبلدان التابعة له هي: الأردن، وأفغانستان، والإمارات العربية المتحدة، وباكستان، والبحرين، وتونس، وليبيا، وإيران، وسوريا، وجيبوتي، والسودان، والصومال، والعراق، وعمان، وقطر، والكويت، ولبنان، ومصر، والمغرب، والمملكة العربية السعودية، واليمن.
3 - المكتب الإقليمي لجنوب شرق آسيا في نيودلهي.
4 - المكتب الإقليمي لغرب المحيط الهادئ في مانيلا في الفلبين، ويضم اليابان والصين وأستراليا، وبعض بلدان جنوب شرق آسيا.
5 - المكتب الإقليمي لأوروبا في كوبنهاغن في الدانمارك.
6 - المكتب الإقليمي للأمريكيتين في واشنطن.
المفهوم السياسي: لم يتقيد السياسيون بمفاهيم الإقليمية اللغوية أو الجغرافية أو الأممية، وإنما بنَوا مفاهيمَ الإقليمية انطلاقاً من مفاهيمهم الأيديولوجية القائمة على المصالح الخاصة، وبناءً على ذلك خضعت الأقاليم الجغرافية لمراكز القوى المسيطرة التي تمخَّضت عن الأحلاف العسكرية، وأشهرُها في القرن الماضي حلف وارسو الشيوعي، والحلف الأطلسي الرأسمالي "ناتو".
المفهوم الاقتصادي: ساهم الاقتصاديون بصياغة الإقليمية وِفقَ مصالِحِهم الرأسمالية، ومن هنا نشأت مقولة: الاقتصاد يجرُّ السياسة، ومقولةُ السياسة تجرُّ الاقتصاد، وفي هذا الإطار نشأت التجمعاتُ الاقتصادية، وفي مقدِّمَتِها السوقُ الأوروبية التي تمخَّضت عن الاتحادِ الأوروبي الذي يرمي إلى توحيدِ قارة أوروبا عسكرياًّ وسياسيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا، وعلى هذا المنوال نشأ الاتحاد الإفريقي الذي مازال يحبو، والاتحاد السوفييتي الذي سقط مع سقوط الأيديولوجيا الشيوعية.
وهكذا تبرزُ ملامحُ الانتقالِ من سياسة الأحلاف الإقليمية الجغرافية إلى سياسة الأحلافِ الاقتصادية الرأسمالية التي تقوم بفرضِ مبادئها عن طريقِ الإخضاع الاقتصادي، وفرضِ التبعية الفكرية والثقافية على رعايا الأقاليم الفقيرة، وتصويرِ التبعيةِ بصورةِ مكافحةِ الجهل والأمية، ونشرِ العلم والحضارة المتطورة مع أن الجميع يعلمون أنّ الأقاليم الرأسمالية تمتازُ بسياسة الاحتكار الاقتصادي، والعلمي الصناعي إلى درجة حظرِ نقلِ العلوم التكنولوجية المتطورةِ ناهيك عن صناعة الأسلحة التقليدية والتكتيكية.
تداعيات السياسة الإقليمية
بناءً على ما سبق يمكننا أن نتناول في هذا البحث تداعيات السياسة الإقليمية على مستقبل الإنسانية، وذلك من خلال عرضٍ لما تنتجه القوى الإقليمية والقطرية من إشكاليات تؤدي إلى التزامِ جانبِ الباطل، وتجاهُلِ الحقوق الداخلية والخارجية التي لا سبيل إلى حلِّها في ظلِّ النمطِ الإقليمي غيرِ الإنساني العالمي.
ولذلك فإننا نرى أنَّ المحافظة على المصالح الإنسانية تتطلَّبُ تحقيقَ العدل والمساواة على الصعيد الإنساني العالمي، بعيداً عن التعصُّبِ الإقليمي، وضِيقِ الأفق بكلِّ أنواعِه، وتحقيقُ ذلك يتطلَّّبُ التخليَّ عن التعصُّب الإقليمي الرامي إلى إلغاءِ خصوصياتِ الآخرين واستبدالِها بخصوصياتٍ دخيلةٍ مستوردة، وذلك لأنَّ التعصبَ يُنتجُ السياسةَ الخرقاء التي تفضي إلى صِدام الحضارات، وصِدام الديانات، وصِدام المذاهب، وصِدام الجغرافيا، وصِدام الأحزاب والمنظمات، وصدام الأفراد، وتحويل العالم إلى غابة مسعورة يتحكم أقوياؤها بضعفائها.
آليات العلاقات الإنسانية
يتضح لنا من استقراء الأوضاع السياسية العالمية أنها تقوم على العلاقات بين ثلاثة أنماطٍ:
تتقدَّمُها السياسةُ الإقليمية القُطرية.
وتليها السياسةُ التكامُلية الاتحادية، ومثالُها: (جامعةُ الدول العربية، ومنظمةُ المؤتمر الإسلامي، والاتحادُ الإفريقي).
وتليها السياسةُ الدَّوليةُ العالمية، ونمطُها ضعيفُ التأثير، وليست له صفةُ الإلزامِ الوطني نظراً لما يتمتَّعُ به النمَط الإقليميُّ والنمطُ التكامليُّ من قوّةٍ تفوقُ قوّة النمط الإنساني العالمي.
مظاهر أخطار السياسة الإقليمية
الْحَيرةُ هي سيِّدة الموقف في معظم أنحاء العالم، وهذه الحيرة هي وليدةُ فراغٍ فكري أنتجته الأنظمةُ القمعية الإقليميةُ "القطرية" التي عطَّلت العقولَ جراءَ اغتيالِ العدالة والحرية، وفَرْضِ الْحَجْرِ اللاَّ صِحِّي على الطابع الإنساني، وإعاقةِ العقول الْمُنتجةِ عن إنتاج الفِكر الإنساني الذي يُعتبر مصدراً أساسياًّ لإنارةِ طُرُق الحياة البشرية المتشعبة.
و جرَّاءَ هذا الواقع الإقليمي المضطربِ الذي يجتاحُ العالَم تتكاثرُ الأسئلةُ، وتغيبُ الأجوبةُ، ويعيشُ الناسُ في دوَّامة الضَّياع الذي لم يأتِ من فراغ، وإنَّما نَتَجَ عن واقعٍ إقليميٍّ أنانيٍّ سياسياًّ واقتصادياًّ وعسكرياًّ، وصاغته الأنظمةُ الإقليمية المتسلِّطةُ المستبِدَّة.
وإنَّ رَصْدَ الساحات الإقليمية في العالم يُسفِرُ عن تشخيصٍ تقريبي لما يدور على مسارحها من علاقات شاذَّة بين الأقاليم داخلياًّ وخارجياًّ، وتَتَّسم هذه العلاقات بالسِّمات التالية:
1: إن القوى الإقليميةَ تدعو إلى الجمع والاتِّحاد تحت سيطرة النُّخبة الإقليمية، وسلطة الصفوة، والأقليَّة المبدعة المختارة (الإيجابيَّة) التي تقود عامَّة الشَّعب (السِّلبية) حسْب تصوُّر قادة المسيرات الإقليمية المتسلِّطة.
2: إن القوى الإقليميةَ تُقرُّ إباحةَ الاستبداد، وتعتبرُ أجهزةَ السُّلطة عادلةً؛ ولو جارت لأنَّ في جورها مصلحةً عُليا للإقليم، ولتطبيق ذلك تُعتَمَدُ النزعةُ العسكرية لتأمين الهيمنة الشاملة، وذلك بعسكرة المجتمع، ومن ظواهر ذلك: اللباس الموحَّد على أمل فرض الفكر الموحَّد تحت سيطرة السلطة الإقليمية المركزية.
3: إن القوى الإقليميةَ تنفي وجودَ الصراع الإقليمي رُغم وجودِه، وتعتبرُ المصالِحَ الإقليميةَ فوقَ المصالح الإنسانية، ولو أدَّي ذلك إلى إلحاقِ الأذى بالأقاليم الأخرى.
4: إن القوى الإقليميةَ تعملُ على إعلاءِ أهمية شؤون الصراع الإقليمي القومي والديني والمذهبي والحزبي، وتحويلِها إلى سيوفٍ مسلطةٍ على رقابِ القُوى التي تُعارضُ التعصُّبَ والتوجُّهاتِ الإقليمية.
5: إن القوى الإقليميةَ تُكرِّسُ تأليهَ الإقليم، وإحلالَ عبادته محلَّ عبادة الأصنام، وتفرضُ التضحيةَ على أبناء الإقليم فداءً للإقليم، ولو أدَّى ذلك إلى تدمير بقية أقاليم الكُرة الأرضية بمَن فيها، وما فيها. والأمثلةُ شاهدةٌ على ذلك في مُعظم الدول التي تسودُها الأيديولوجيا الإقليمية.
6: إن بعض القوى الإقليميةَ تتجاهَلُ أهميةَ الرفاه لمواطني الإقليم، وتدَّعي بأنَّ الرَّفاه يُحوِّل الشعوبَ إلى قططٍ سمينة لا هَمَّ لها سوى التغذية مما يُفسدها، وتقوم القوى الإقليمية بالترويجُ للمفاهيم الوهمية التي تتَّكِئ على مفاهيمِ الشرف الإقليمي، والإخلاصِ للإقليم، والتضحيةِ في سبيل توسُّعِهِ، ولو كان ذلك على حساب بقية الأقاليم الإنسانية التي تتعرض للظلم والاضطهاد.
7: تتجاهلُ القوى الإقليمية مُعطياتِ العلم، وتستغلُّ الدينَ والمذهبية حين الضرورة لخدمةِ الأيديولوجيا الإقليميّةِ بطُرُقٍ انتهازيَّة مُلتوية مُموّهة قائمةٍ على التضليل الإقليمي الذي يمسّ مساًّ سلبياًّ بحقوق الإنسان المشروعة.
8:تعمل القوى الإقليميةُ على إعاقةِ الثقافة الإنسانية، وفرضِ العزلة الإقليمية على المجتمع، وتُبرِّرُ العيشَ الغريزي في كهوف التقوقُعِ الإقليمي بشكلٍ صوفي يَفْرِضُ على القطيعِ طاعةَ الراعي الإقليميّ طاعةً عمياء، ولو أدى ذلك إلى الهلاك.
9: وتنمِّي القوى الإقليميةُ الفوضى في مجالات المنازعات الإقليمية، وتزوِّرُ التاريخ بِحُجَّة إعادةِ كتابة التاريخ، وتبعثُ التراثَ بطريقةٍ انتقائية مُبتذَلةٍ مَبتورةِ تُحيي ما يُناسبُ النعراتِ الإقليميةَ، ويُلغي ما يُعارضُها، وفي ذلك عدوان على حقوق الإنسان في معرفة الحقيقة دون تضليل.
10: إن بعض القُوى الإقليميةَ تعتدي على حقوق الإنسان حيث تمنعُ التلاقُحَ الحضاريَّ العالمي، والتواصُلَ الفكري الإنساني، وتكرِّسُ التقوقعَ الإقليميَّ الداخلي، وتكتفي بما يخدمُ النخبةَ الإقليميةَ المتسلِّطة، وسببُ ذلك هو الخوفُ من الهواء الصِّحِّي الإنساني النقيِّ الذي يقضي على الجراثيم الإقليمية التي تنتعشُ في الأجواء الملوّثة.
11: إن تعصُّبَ القوى الإقليميةَ يفرضُ السيطرةَ على مجالات التربية والتعليم لتشويه أفكار الأجيال الشابة، وحَصْرِها ضِمن بوتقةٍ إقليميةٍ محدودة مُجدبة، وزجِّها في تنظيمات عسكرية إقليمية تتطلَّب الطاعةَ العمياء عملاً بمقولة: "بما أنَّ قوةَ الجيش في نظامهِ فقد اقتضى أنْ يحوزَ الرئيسُ على طاعةِ مرؤوسيه التامَّة، وخضوعهم له في كل الأوقات". ومقولةِ : "نفِّذْ ثم اعترِضْ" وفي هذا الأسلوب إلغاءٌ لإنسانية الإنسان، وسلبٌ لحريته وإرادته.
سمات السياسة الإقليمية
لو نظرنا إلى سِمَات الواقع الإقليمي سياسياًّ واقتصادياًّ لوجدنا أنَّها تنطبق تماماً على سِماتِ الفاشيّة(5) الإقليمية التي دمرتْ أوروبا، ولكن أوروبا تجاوزت النعرة الإقليمية الضيقة، واستَبدلَتها باتحاد أوروبي جغرافي غيرِ قومي، وتَمَّ تصديرُ الفاشيّة الإقليمية من أوروبا إلى خارجِها، وحَلَّتْ الفاشيةُ الإقليمية الضيقةُ ضيفةً ثقيلةً في أقاليمَ أُخرى، ولكن النُّخبَ الإقليمية التي تقمَّصت الفاشيَّةَ واستنسختْها زَوَّرَتْ اسْمَها.
وبمعنى آخر: احتفظتْ بالمعنى وغيَّرت القافية، أي: بدَّلت القميصَ الخارجي واحتفظت بالجوهر الفاشيِّ المقيت، وبلغ بها التَّنَكُّرُ حدَّ إنزالِ أقسى العقوبات بِمَنْ يصِفُ الأنظمةَ الإقليمية بصفةِ الفاشية.
ولذلك فإننا نرى أنَّ الأنظمةَ الإقليمية التي تتقمَّصُ الفاشيةَ وتستنسخُها، ما هي إلا أنظمة دمارٍ تدمِّرُ الإنسانية على الصعيدين الداخلي والخارجي، ولا عِلاج لها سوى رمْيِهَا في مكانها الطبيعي على مزابل التاريخ إلى جانب الفاشية الإيطالية والنازية الألمانية، وإلاَّ فإنَّ أذاها سيستمرّ في التدمير على كلِّ صعيد داخل بؤر السيطرة الإقليمية وخارجها، مما يجرُّ على البلاد والعباد نكباتٍ ونكساتٍ وهزائمَ تؤدي إلى تدميرٍ على المستوى الحضاريٍّ لا يُعوَّض بثمن.
وأغرب الغرائب في العالم المعاصر أنّ القوى الإقليمية المتسلطة تستبيحُ حقوقَ الإنسان، وحقوق الجيران والوطن والمواطن، وتُلحِقُ الأذى بإقليمها وأقاليم الجيران، وتطلبُ مِن مواطنيها تَحَمُّلَ تَبِعاتِ النظام الإقليمي بدعوى الحِرص على مصالح الإقليم، كما تطلُب من الجيران أن يتحمّلوا الجورَ أسوةً بمواطنيها لأنهم قدوةٌ حسنة في شؤون السَّمْع والطّاعة العمياء، والاستهتار بالحقوق الخاصّة والعامّة.
وإذا انتقد ناقد "أنظمة الاحتلال الوطنية الإقليمية الداخلية" فقاموسُ التُّهَمِ يعجُّ بمصطلحاتٍ هزيلة مُختَلَقة لا تتناسبُ مع مقاييس الأخلاق، ولا قِياس اللغة مَعْنىً أو اصطلاحاً جرَّاء الجهل الْمُطلَق الذي يسود طَوْطَمَ التَّجمعاتِ الإقليمية حيثُ تَحِلُّ الغرائزُ البهيميّةُ مَحَلَّ العقلِ والْحِكمة والمنطق، وتَضيعُ حقوقُ الإنسان والحيوان والنبات والطبيعة، ويسود البؤس والقهر والحزن والاكتئاب.
وعند النظر في قاموس التُّهَم الإقليمية الجاهزة؛ التي تُوجّه لِمَن يطالب بحقوقه الإنسانية، فإننا نَجِدُ أوّل تُهمتين تُلصَقان بِمَن يطالبُ بحقوقه، هما:
1 : اتهامُه بأنه من أطياف المعارضة التي تستعينُ بالخارج الأجنبي على الداخل الوطني الإقليمي.
2 : اتهام كافة أطياف المعارضة بأنها تستغِلُّ الهجمات الخارجية للنيل من الصمود والتصدي الإقليمي الداخلي في ظروف دولية توحي بالاستقواء بالأجنبي على الوطني الإقليمي.
وبناء على هاتين التهمتين، وما يتبعهما من تُهمٍ يمكن وصم المعارض بوصمة الخيانة العُظمى التي تؤدي إلى السجن المؤبد مع الأعمال الشاقة أو الإعدام غير المشروع.
وإذا كان الناقد من دولة شقيقة مجاورة واقعة تحت احتلال الأشقاء، فإنه يُتَّهَمُ بالاستعانة بالعدو على الرفيق الشقيق، وفي ذلك خيانة واضحة لِلْخُبْزِ والْمِلح الذي سرَقه الإقليميون من شقيقهم، وهربوه عَبْرَ طرُقات غَيرِ خاضعةٍ للرقابة الجمركية في البلدين المتجاورين.
وربَّما يُتَّهمُ ناقدُ المتسلطين في إقليمه بأنه يفكر أن يجتاح الإقليم على مَتنِ دبابةٍ أجنبية، والغريبُ أنهم ينسَوْنَ أن مُعظمَ الأنظمة الإقليمية قد جاءت على دبابات مُستورَدَةٍ، ولا فارق بين حكم الدبابات لأن لغتها التدميرية واحدةٌ من حيث المعنى، لا من حيث المبنى، ومعظمَ الأنظمةِ الإقليمية المتخلفة لم تصنعْ دبابةً إقليميةً وطنية لأنها تنهبُ ميزانياتِ الوطن وتهرِّبُها خارجَ الحدود حيثُ المصارفُ العملاقة، وسِريَّةُ الحساباتِ والأرصدةِ المشبوهةِ، وغسيلُ الأموال اللازمة بعد الإحالةِ على التقاعد، أو قيامِ انقلابٍ إقليميٍّ مناوئ.
عِلَلُ الأنظمة الإقليمية
لعلَّ عِلَّةَ العِلل مع الأنظمة الإقليمية أنها مُصابة بِعَمَى الألوان السياسي، فهي لا تقبل التعدُّدِية، ولا تنظرُ حولها، وإنما تنظر في مرآتِها هي، وترى خيالَها بنرجسيةٍ مُفْرِطَةٍ مفَرِّطةٍ، فكأنها نسيجُ وحدِها، ولم ترَ مثلَ نفسها، والأدلَّة على ذلك كثيرة: فهنالك خنقُ الأصوات المعارضة للسياسة الإقليمية، والقضاءُ على المثقفين المعارضين للتقوقع الإقليمي، والاستعانةُ عليهم بطبولٍ وزمورٍ ثقافيةٍ مأجورةٍ تضمُّها اتحاداتٌ ونقاباتٌ خشبيةٌ تردِّد ما تُؤْمَرُ به كالببغاوات، وتضمُّ أكاديميين مُزيفين حصلوا على الشهادات المزورة بأطروحات لم يقرؤوها، ولم يكتبوها، وإنما كُتبت لهم، وعلى هذا المنوال المزري تَتِمَّ صياغة وزارات الثقافة والإعلام والتربية والتعليم، فتُنتِج الاحتلالَ الإقليميّ الداخليَ الذي يفيضُ قهراً وجهلاً وتزويراً وتخلُّفاً تعجزُ عن إنتاجه الاحتلالات الأجنبية، ويلحق الأذى بالبشر والشجر والحجر، ويؤدي إلى دمار الوطن وتدمير باسم السيادة الوطنية المزيفة.
تناقض السياسة الإقليمية
أعجب العجائب في الأنظمة الإقليمية، أنها تتَّهم الأنظمة الأخرى بالخيانة والتعامل مع العدو، ثم نجدها تفوِّض تلك الأنظمة الْمُتَّهَمة بالعمالة كي تُفاوِضَ العدو نيابةً عنها، وهي بذلك تُشبِهُ مَن يكذب على الآخرين، ويصدِّق كذبته، ولكنّ حبلَ الكذب قصيرٌ في ظل عولمةِ الإعلام والأقنية الفضائية، ووجودِ عددٍ لا بأس به من أصحابِ الضمير المدني الحرِّ في هذا العالم من الذين يدافعون عن حقوق الإنسان أينما كانوا مِمّا يُبَشِّرُ بمستقبل إنساني مُشرق رغم كلِّ ما يفتعله الإقليميون المعقَّدون من إحباط لن يوقف حركة التقدُّم، ولو أعاقها لبعض الوقت .
وتتعدَّد أسماء القوى الإقليمية السياسية والثقافية والفكرية والدينية والمذهبية في بلدان العالم، وربما يرتبط تعدُّدها بتعدُّدِ ظروف الزمان والمكان، وتعدُّدِ الأنظمة الحاكمة واختلافها وائتلافها، ولكن الجامع العام لهذه القوى من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين صعوداً وهبوطاً، وبكلّ أطيافها القومية والمذهبية، هو الأنانية الإقليمية الانتهازية الديكتاتورية الْمُفْرِطَةُ والْمُفَرِّطَةُ، والقائمة على الإفراط والتفريط، فهذه القوى المتناقضة المتعارضة تُعرب عن نفسها بتبني الصراع التناحري في تصرفاتها، والإعراض عن الحوار والجدل المحمود القائم على طلب الحقيقة حيثما وُجِدت.
والمشكلة الإشكالية: أن كافة القوى الإقليمية المتصارعة في العالم هي قوى انقلابية، تعتمد سياسة الانقلاب " PERIPETEIA" وهو نمط معروف قديم تحدَّث عنه أرسطو وأعطى مثالاً عليه في المشهد من "أوديب ملكا" لسوفوكليس، وفيه يعتقد المرسلُ الأول أنه سيحرِّرُ أوديب من الخوف، ولكنه يقوم بما هو نقيضُ ذلك تماماً، والقوى الإقليمية تتحدَّثُ عن حقوق الإنسان الديموقراطية، وتعمل نقيضَها تماماً، فهذه القوى تعني حقوقها هي نفسها، وديموقراطيتَها هي نفسَها، وقوميتَها هي نفسها، ومذهبَها ونحلتَها وبدعتَها، وعجرَها وبجرَها هي نفسها ، وذلك يقتضي حسْبَ هواها بأن يخضعَ لها الجميعُ طوعاً أو قهراً، ويقوم الجميع بتنفيذ ما تريد، ولو أدى ذلك إلى إلغاءِ الآخرِ المعادِلِ أو المعارِضِ أو المناقض.
ويتساوى في هذا المنهج الإقليمي الليبراليون الجدد، واليمينيون واليساريون والعلمانيون والمتدينون، فالكلُّ ديموقراطيٌّ مع نفسِه، ديكتاتوريٌّ مع الآخر، وكفى بهذه النرجسية دليلاً على نقضِ ما يدَّعون، وتسفِيه ما يطرَحون.
إن مَن يستعرض واقع التناقض الفكري والسياسي على الساحات العربية يلاحظ شبح الدادية " DADAISM" ذات النزعة العدمية التي تحتج على المنطق والعرف والقواعد والْمُثل العليا والأدب، وتطالب بحرية مطلقة للذات على حساب الآخرين، وذلك في ظل الأنانية المفرطة.
وإلى جانب شبح الدادية المزدهرة في البلدان العربية بين العرب والأكراد والتركمان والفُرس والآشوريين والسريانيين والعبرانيين والأرمن وغيرهم، يلاحظ المراقبون وجودَ شبح السيريالية التي ورثت الدادية، ويتجسَّد الشبحان من خلال صنمية " FETISHISM" مفرطة تقوم على النظر إلى الذات المادية والفكرية باعتبارها مقدسة، وتجسِّدُ قوَّةً خفيَّة لا يدرك كُنهَها إلاّ صاحبُها والمؤيدون.
ويتساوى في تقديس الذات الرجعيون المعاصرون والتقدميون الثوريون والليبراليون والشوفينيون والعلمانيون والعولمينون والراديكاليون، فلكلِّ فريق أصنامُهُ المقدَّسةُ التي تسمو على أصنامِ الآخرين، وتَستدعي الإقليميةُ تبجيلاً أو توقيراً أو تكريساً مطلقاً يتسم بالخلود الملازم للقائد الإقليمي الخالد، والحزبِ الشمولي الواحد، والديكتاتورية ذات الرسالة الخالدة، ولو تطلَّبَ التبجيلُ سيادةَ الأشياء على الإنسان دون تقدير لإنسانيته.
إن هذا السُّلوك الأناني الأعوج على الصعيد الفردي الذاتي، وعلى الصعيد الإقليمي هو مِن أقوى أسباب الاستلاب "ALIENATION" الذي أدَّى إلى تحويل خصائصِ الإنسان، وقدراتِهِ ونواتجِ نشاطه - داخل علاقات الاستغلال والقهر- إلى حالاتٍ خارجية غريبةٍ على إنسانية الإنسان، ومسيطرةٍ عليه، وهذا ما يؤدِّي إلى التشويه داخلَ ذهن الإنسان لعلاقاتهِ الحيوية، وللعالمِ المحيطِ به، وذاتِهِ نفسِها، ونتيجةَ ذلك هي الضَّياعُ والتخبُّط.
فعندما يدور النقاش بين مواطنين إقليميين بغضِّ النظر عن قوميتِهما، أو مجموعةٍ من المواطنين "المفكرين" يلاحِظُ المراقبُ ملامحَ الاستلابِ المسيطر على الجميع من قمَّة الهرم إلى قاعدته، ويبدو العالَمُ للأكثرية منهم مُعادياً، وتبدو الذاتُ الإقليميةُ معاديةً، وبما أن العَدَاءَ يجرُّ العداءَ، فإنَّ الرفضَ يصبحُ المحرِّكَ الذي يوجِّه الفردَ الممتلئَ بمشاعرِ الوحدة الإقليمية المغتربة الغارقة في العزلة، وبمشاعرِ الرفض للأقاليم الأخرى، وتصبح قُدْرَاتُهُ قوَّةً غريبةً تعارضُه وتخضعُه بدلاً من أن تَخْضَعَ لِسَيطرتِهِ، وينحصِرُ الفردُ في دائرتِهِ الإقليمية الخاصَّة سجيناً لنشاطه الإقليمي الخاص، عاجزاً عن فَهْمِ عَلاقاتِهِ التي استلَبَها القمعُ والقهرُ الإقليميُّ، وينسحب تشيُّوْءُ أنشطةِ الفرد على سُلوكه الهابط الذي يتجلَّى في رغباته الطائشة - الوحيدة الجانب - التي تقمع رغباتٍ أخرى، وتسيطرُ على الفكر الآخر.
وهكذا يُصبحُ الفردُ المتأقلِمُ مع الإقليميةِ عاجزاً عن تحقيق إمكاناتِهِ الكامنة بمقدار عجزهِ عن التواصُلِ والتضامن مع الآخرين، فهو يفقِدُ الإحساسَ بالواقع، ويغتربُ عن ذاته، وتصبح أنشطتَهُ جُزءاً مُعوِّقاً للأنشطة البشرية في ظلِّ الاستلاب مما يَحُوِّلُ الحياةَ الاجتماعية إلى ما يشبهُ مسرحيةً فاشِلةً على مسرح اللامعقول، وهذا ما يدفع النظارةَ إلى الانفضاضِ والنفور والتنافر لانعدامِ وجودِ جامعٍ مُشترك يجمعُ بينهم وبين المسرحِ والمسرحية.
إن سيادة الاستلاب على مسارح الحياة في البلدان المتعصِّبَةِ إقليميًّا يؤدِّي إلى احتضان كل أنواع الصراع، " CONFLICT"، وما ينطوي عليه الصراعُ الإقليمي من أنواعِ التضارُب والنزاع، ابتداءً بالنمط البدائي، ومروراً بالصِّراعِ الاجتماعي، ووصولاً إلى الصِّراع السيكولوجي داخِلَ النفس، وما يتبعُ ذلك من أشكالِ الصِّراع الفرعية التي تتشكَّل من مزيجٍ مُتفاوتِ النسبةِ بين ضروبِ الصِّراع الثلاثة: الطبيعية والاجتماعية والنفسية.
والنتيجةُ الحتميّةُ للصراع اللاإنساني المركَّب هي: اضطرابُ العلاقاتِ بين الجزء والكلِّ على كافَّةِ الأصعدةِ والمستويات الفكرية، وهذا ما يتَّضِحُ للمُراقب الحيادي.
والدليل: أنَّ الأفرادَ (المواطنين) يفشلون داخل مسارح البلدان الإقليمية المستلبة، ولكنهم ينجحون بنسبةٍ أفضل حينما يخرجون من مسرح اللامعقول إياه إلى الفضاء العالمي، ولكنَّهم يعودونَ إلى العبثِ فورَ عودَتِهم إلى مسارحِ الإقليم ليتأقلموا، وينسجموا مع رُوح الطوطم الإقليميةِ الجماعية المستلبة.
ولذلك يمكننا القول: إن إصلاحَ المسارح الإقليمية ضروريٌّ لإصلاحِ الممثلين، وربطِ النظارةِ بالمسرحية النافعة غيرِ العبثية، وإخراجِهِم من قُمقُمِ الإقليم الجائر إلى الفضاء الإنساني العادل الرَّحب.
وبالإضافة إلى الاستلاب الإقليميِّ يتمَسَّكُ الإقليميون بالكلاسيكية (الاتباعية) "CLASSICISM"، التي تقوم على أفكارٍ إقليميةٍ، ومواقفَ مُسبقةٍ تتعارضُ مع الواقعيةِ والرومانسية، وتتطلَّبُ التعبير عن الأفكار الإقليمية بشكل مُحْكَمِ التوازُنِ والتناسب كي يَحُدَّ من انطلاقِ الانفعالاتِ والأهواءِ، ويجسّدَ الوضوح الإقليميّ المباشرِ البسيطِ بُغيةَ الوصولِ إلى المقدرة على التفكير الإقليمي، والتوصيل إليه بطريقةٍ تقتربُ كثيرًا من الموضوعية، وتبتعدُ عن الذاتية " SUBJECTIVITE"، التي تهتمُّ بالتركيزِ على النفس، وانشغالِ الشخص بنفسِه ومشاعره وتجارُبه وخوّاصه وحقوقه الذاتية، وإغفالِهِ للموضوعيةِ استجابةً منه للفرديةِ الإقليمية المفرطة حيثُ يصبحُ العنصرُ الإقليميُّ المركزيُّ مُجسَّداً في إفضاءِ الشخصية بعالَمِها الداخلي لإبراز الذات الإقليمية على حِساب ما عداها.
وهذا المرضُ الإقليمي يؤدي إلى سيادةِ الفَقرِ الفِكري الذي تُنتِجُهُ الذاتية الإقليميةُ المغلقة، وتوابعُها من الأحزاب الإقليمية الشمولية؛ التي تحتلُّ وسائلَ الإعلام في الساحات الإقليمية المتطرفة الضيقة التي تُنتِجُ هذا الخواءَ القائمَ على التناحُرِ، في ظلِّ غيابِ روح الجماعة الإنسانية المتعاونة على البِرِّ والتقوى.
ولا تأبَهُ الأنظمةُ السياسيةُ الإقليمية بالعالم الخارجي، وما فيه من وعيِ القُوى الخيِّرةِ، وبذلك تسُوْدُ المقاييسُ الإقليميةُ الديكتاتوريةُ، وتُعَطَّلُ المقاييسُ الإنسانيةُ العالميةُ الجماعيةُ، فتضطرِبُ المقاييسُ والموازينُ، وتضيعُ الحقوقُ، ويحصلُ الخلط بينها وبين الواجبات دُوْنَ قُيودٍ أو حُدودٍ تفصِلُ بين الحقِّ والباطلِ مِمَّا يُنتِجُ اللامبالاةَ التي تُفضِي إلى الفوضَىْ التي نُشاهدُها على مسارح الأنظمة الإقليمية من القمْعِ والعُنفِ غيرِ المشروعِ الذي يتنافى مع إنسانية الإنسان.
خلاصة
خلاصة القول: إن الشعوبَ التي تقطن في البلدان الخاضعة للسياسة الإقليمية الضيقة بكلِّ عناصِرِها، والمفكرينَ المنتمين لتلك البلدان يعيشون في ظلال أزمةٍ "CRISIS"، ولكنها أزمةٌ مركَّبة مُتعدِّدة الأمراض، ولئن كان المعنى العالمي المتداول للأزمة هو: "نقطة تحوّلٍ إلى الأحسنِ أو الأسوأ في أيِّ مَنشطٍ من المناشِط" فإن الأزمةَ عند سكانِ الأقاليم الإقليمية المتقوقعة هي أزماتٌ مأزومة لا تُبشِّرُ بتحوّلٍ إلى الأحسن، وإنما تنحدرُ نحو الأسوأ الذي يؤدّي إلى الاِضْمِحلال والضَّياع بشكل يومي.
والدَّليلُ على ذلك واضحٌ تُفسِّرُهُ وقائِعُ الأحداثِ المتتابعَةِ، وما تُفْرِزُهُ من إراقةِ دماءٍ بريئة، مَرَّةً برصاصٍ الصراع مع الأجنبيّ، ومرّة برصاصِ الأجهزة الإقليمية، ومرّةً برصاص المتمردين على الأنظمة الإقليمية أو الأنظمة المحتلة، أو رصاصِ الأحزاب الشمولية المتصارعة.
والْمُحصِّلَةُ واحدةٌ، وهي إراقةُ الدماء بدلاً من الْحِوارِ المفتوحِ الذي يؤدِّي إلى تبادُلِ الأفكار والْخِبراتِ الحضارية، وينتِجُ إحقاقَ الحقوق والرُّقيَّ والسَّعادةَ الإنسانية.
والظاهرُ على الساحات الإقليمية في المستقبلِ المنظور: أنّ كلَّ فريقٍ إقليميٍّ مُتمسِّكٌ بقرارهِ بعدما عَقدَ العزمَ، وأقرَّ القرارَ على المسير في مَسارهِ الإقليميِّ الفرديٍّ الأُحاديِّ الذي لا تدخلُهُ التعديلاتُ المفيدة، بل كلَّ فريقٍ إقليميٍّ سيواصِلُ سَيْرَهُ حتى يفنى أحدُ الفريقين المتناحرين لأنَّ الفرديةَ والشموليةَ الإقليميةَ لا تقبلُ التنازُلَ الطَّوعِيَّ في ساحات الصراع بين القوى الإقليمية المتضادّة المتناحرة، ولو كان سببُ تناحرها انفعالياً تافهاً رُغْمَ ما يُسْبَغُ عليه إقليمياًّ من تصويره بصورة الذروة " Climax " في فَهْمِ الأتباعِ والأنصار والمؤيدين.
وفي ظِلِّ الواقع الإقليمي المعاصر تغيبُ بشائرُ عَصرِ نهضةٍ إنسانية مستقبليةٍ تُعِيْدُ إحياءَ الفنِّ والمعرفةِ والأدبِ والعلم والدين والسياسة، وتفتحُ أبوابَ الواقع الراهن على عصرِ نُمُوِّ المدنية الإنسانية، والحياةِ الحضارية، وازدهارِ التجارةِ والأسفار، وتبادُلِ العلومِ والمعارف، والمساهمةِ في بناءِ عالَمٍ إنسانيٍّ يسودُهُ العدلُ والمساواةُ. والتخلُّصِ
من سيطرةِ المتناحرين الإقليميين الذين يعيشون في أقاليمَ مغلقةٍ لا يصِلُ إليها نوْرُ المعرفة، ولا تحكمُها سُنَنُ الكونِ القائمة على الْحِوارِ الإنساني.
وما من مَخْلَصٍ من شرور السياسة الإقليمية سوى الانفتاح الإنسانيِّ، والخروج من القمقم الإقليمي عسى أن تودّعَ الشعوبُ عصرَ الظلامِ الإقليميِّ، وتنخرطَ في فضاء الإنسانية القائم على العدل والإنصاف والحرية، وتتحرَّرَ من العدمية والاستلاب والشمولية، والديكتاتورية الإقليمية التي عَطَّلت البُنيةَ المعرفيّةَ المبنيّةَ على اكتشافِ التشابهات الإنسانية، وكرّستْ إبرازَ الاختلافات والتمايزات الإقليمية والعنصرية والطائفية والأيديولوجية بعيداً عن رُوْحِ العصر الذي يبني معرِفةَ التطوُّر الإنسانيّ البيولوجي والاقتصادي واللغوي والسياسي والعلمي والأدبي.
والنتيجة: إنَّ الأنظمةَ السياسيةَ الإقليميةَ متفاوتةُ المناهجِ على صعيدِ إداراتِ الدولة وسياساتِها الداخلية والخارجية، وهي في مُعظمِ الأحيان تستبيحُ عمومَ حقوق الإنسان والحيوان والجماد والبيئة خارجَ إقليمِها للمحافظة على مصالح الإقليم الخاصة، وتستبيحُ تلك الحقوق داخلَ الإقليم لأسبابٍ داخلية بُغية تعزيز الأيديولوجيا الإقليمية والمحافظةِ عليها بأي ثمن دون وازع داخلي أو خارجي، ولو اقتضى ذلك تغييرَ الأنظمة الإقليمية، وإلغاءَ برلماناتِها ووزاراتِها ودساتيرِها وقوانينِها، وتبرِّرُ الأنظمةُ الإقليمية كافةَ تجاوزاتِها الداخلية والخارجية بمبرِّر المصلحةِ القومية والوطنية للإقليم سواء أكان إقليماً قُطرياًّ ضيِّقاً كما هو الحالُ في إريتريا، أو إقليماً تكامُلياً اتحادياًّ كما كان الحالُ في الاتحاد السوفييتي السابق والمنظومة الشيوعية حيثُ تمَّ تضييعُ حقوقِ الإنسانِ والحيوان والبيئة لأسبابٍ أيديولوجية واهيةٍ تطلَّب تبريرُها نشرَ ثقافةِ التضليلِ، وتطلَّبَ ذلك المزيدَ من القمعِ وكمِّ الأفواهِ، واستباحةَ المزيدِ من الحرُمات الإنسانية، وتشويهَ العقولِ والنفوس.
ولا شكَّ أنَّ مسَّ السياسات الإقليمية بحقوقِ الإنسانِ وغيرِه متفاوتُ الدرجات، ولكنَّ مُحصِّلةَ السياسة الإقليمية لا تخلوا من التأثير السلبي على الحقوق الإنسانية العامة في الأجزاء الخارجية من الإقليم التكامُليّ، وإنْ حافظتْ على الحقوقِ داخلَ جزءٍ خاصٍّ من الإقليم التكامُلي، ومثالُ ذلك ما يجري في إقليم البحر الأبيض المتوسط الذي تتقاسمه عدّةُ أقاليم على سواحل البحر الأبيض المتوسط، فقد استباحت بعض الأقاليم حرماتِ البعض الآخر بالاحتلال العسكري المباشر، أو بالاحتلال الاقتصادي، أو بالاحتلال الثقافي، أو بالتضليل الإعلامي بُغيةَ خدمةِ المصالح الإقليمية الخاصة.
ومن أخطرِ مشاريع السياسة الإقليمية التي جرت في حوض المتوسط مشروعُ نقلِ النفايات الكيماوية والنووية من الشمالِ إلى الشرقِ والجنوب، ومشروعُ رمي النفايات النووية في مياه البحر (كما هو الحال في مشكلة الباخرة السورية زنوبيا سيئةِ الحظ التي نقلت النفايات الإيطالية إلى سورية بالتواطؤ مع بعض ضباط المخابرات) مما شكّلَ جريمةً بحقِّ الإنسانية عامة، وإقليمِ البحر الأبيض المتوسط خاصة.
وهنالك قضيةُ نهبِ الجنوبِ والشرق التي أدّتْ إلى إثراء الشمالِ والغرب، وفقرِ الجنوبِ والشرق مما يدفعُ أبناءَ الأقاليمِ الفقيرة إلى الهجرة غير الشرعية نحوَ الأقاليم الغنيةِ رُغمَ أنَّ إفقارَ الأقاليم الفقيرة غيرُ شرعيٍّ، وغيرُ إنساني، وإنما هو قرصنةٌ تفضحُها الوثائق التاريخيةُ.
وهنالك قضيةُ نشرِ العقائد القومية الإقليمية في داخل الإقليم وخارجه، وبثِّ صورة المواطن الصالح المتمثلة بالمواطن الموالي للنظام الإقليمي، والمشارك في النشاطات الإقليمية، والذي لا يرى في سياسة إقليمه إلا الحسنات والإيجابيات، ويحترمُ القوانينَ والأنظمةَ الإقليمية دون غيرِها، ويساهمُ في التعبئة الشعبية الإقليمية، وإن كانت ضدَّ الشعوب الأخرى خارج الإقليم بغضِّ النظرِ عن توحُّشِها أو إنسانيتِها.
ويؤمن هذا المواطنُ الصالحُ داخلَ الإقليم، الفاسدُ خارجَه بقضايا النضال الإقليمي الخاصّةِ التي تشمُل القضايا الإقليمية الداخلية والدولية الخارجية، ولو أدّتْ إلى تقديم الدعم إلى أحزابٍ وأنظمةٍ خارجيةٍ مواليةٍ لإقليمهِ، مُعاديةٍ لأبناء إقليمها ومنتهكةٍ لحقوقِ الإنسان وغيره من المخلوقات.
إن هذا النمط من المواطنين الإقليميين ظالم لنفسه وللآخرين، وخطره غير محدود، ولا سبيل إلى إصلاحه إلاّ بإخراجه مما هو فيه من ضيق الفكر والتفكير الأعوج، وإعادة تأهيله إنسانياًّ، وتربيته تربية صالحة ترشده إلى احترام حقوقه والآخرين، فالأخوّة الإنسانية أسمى من التعصب الإقليمي، والعالَم ملك لجميع أبناء البشرية، وجميع المخلوقات.
الهوامش
(1)" المَقَامُ [قوم]: موضِعُ القدمَيْن.-: المجلِسُ؛ طَالَ المَقَامُ وَلَمْ نَسْأَم مِن الحِوَارِ.-: الجماعةُ من الناس.-: المنزلة؛ لهَذَا الرّجلِ مَقَامٌ رفيعٌ في بلده/ قَامَ مَقَامَهُ، أي أخذ مَكَانَهُ أوْ نَابَهُ؛ ومنه قول القائل:
وَقُومِي مَقَام الشَمْسِ مَا اسْتَأْخَرَ الفَجْرُ
المُقَامُ [قوم]: مَوضِعُ الإقامَةُ؛ ومنه قول القائل:
مَا مُقَامِي بِأرْضِ نَخْلَةَ إِلاَّ
كَمُقَامِ المَسِيحِ بَيْنَ اليَهُودِ "
(2) ابن منظور محمد بن مُكرَّم الأنصاري الإفريقي كان يُنسب إلى رُوَيْفِع بن ثابت الأنصاري ، من صحابة رسول الله، وهو صاحب "لسان العرب" في اللغة. وُلِدَ ابن منظور في القاهرة ، وقيل في طرابلس ، في شهر المحرم سنة 630 هـ / سنة 1232م.
(3) القاموس المحيط، تأليف أديب اللجمي، وشحادة الخوري، والبشير بن سلامة، وعبد اللطيف عب، ونبيلة الرزاز، وقد قام بالمراجعة والتنسيق: أديب اللجمي، ونبيلة الرزاز.
4 - هو أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن خلدون الحضرمي المغربي الملقب بولي الدين، وأصله من قبيلة كنده. وكانت أسرته من أوائل الأسر اليمانية التي هاجرت من اليمن إلى الأندلس في القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي. واستوطنت إشبيلية، وقد وُلِدَ ابن خلدون ، في تونس سنة 732 هـ / 1322م. وحَفِظ القرآن على والده، وعلى أكابر علماء تونس. ودرس النحو واللغة والفقه والحديث، والشعر في جامع الزيتونة. وعاش في أقطار ( شمال إفريقيا) المختلفة ما يقارب الخمسين عاماً . ثم استقرَّ في مصر التي وصل إليها سنة 1384م، وتولى فيها قضاء المالكية، وبقي فيها حتى وفاته في مصر سنة 1406 ميلادية.
وابن خلدون هو المؤرخ الشهير ورائد علم الاجتماع الحديث الذي ترك تراثا مازال تأثيره ممتدا حتى اليوم. وهو يعدُّ من كبار العلماء الذين أنجتهم شمال إفريقيا، إذ قدم نظريات كثيرة جديدة في علمي الاجتماع والتاريخ، بشكل خاص في كتابيه : العبر والمقدمة.
(5) أن الفاشية القومية قد ظهرت في إيطاليا سنة 1922م، وأَوْكَلَ موسوليني مهمَّة بناء أفكارها إلى الفيلسوف الهيغلي الجديد جيوفاني جنتيلي، وبعد ذلك ظهرت تحت ستار: الاشتراكية القومية في ألمانيا سنة 1933م، كرد فعل على الهزيمة الألمانية في الحرب العالمية الأولى، واعتمدت فلسفة السوبرمان التي ابتدعها نيتشه الذي اعتبره النازيون نبيَّ القومية الاشتراكية، ولكنهم حصدوا هزيمة مُنكرة في الحرب العالمية الثانية بعدما ألحقوا بالعالم دماراً لم يسبق له مثيل.
ملحق
إنَّ السياسة الإقليمية الضيقة تلحقُ الأذى بالإنسانية والبيئة، وتُعيقُ انتشار العلم، وهذا ما يشعر به المفكرون في الشرق والغرب، وفي هذا الصدد نشرت إذاعة بي بي سي مقالةً على موقعها الإليكتروني بقلم: هيلين بريجز، مراسلة بي بي سي نيوز للشؤون العلمية، وقد نُشر يوم الأربعاء 30 تشرين الثاني/نوفمبر 2005م تحت عنوان: العلم يواجه ظروفا عصيبة.
ومما جاء في المقالة: "قال اللورد روبرت مي " Lord Robert May " رئيس الجمعية العلمية الملكية، وأحدُ العلماء البريطانيين المرموقين: إن التشدُّدَ يُعيق جهودَ معالجة التغير المناخي.
وقال اللورد مي من أوكسفورد في كلمته الختامية كرئيس للجمعية الملكية "إن القيمَ العلمية واقعةٌ تحت تهديد التشدُّد في الشرق والغرب".
وأضافَ: "إن على العلماء أن يرفعوا صوتَهم في مواجهة مَن يعيقون الجهود".
وقال: "هناك ظروفٌ عصيبة تنتظرنا. هناك مشاكلُ جديةٌ مصدرُها العالم الخارجي: التغير المناخي، فقدانُ التنوع البيولوجي، أمراضٌ جديدة، وعودةُ ظهورِ أمراضٍ قديمة. ليست لدينا خبرةٌ في التصرف لحلِّ مشاكل المستقبل البعيدة. يعوزنا حتى فهمَ الجوانبِ المهمة لمؤسساتنا ومجتمعاتنا. ومن المحزن أن البعضَ يلجأ للتشدُّدِ في مواجهة الصعوبات".
ويقول اللورد مي إن التشدُّد ليس راجعاً إلى الأديان المنظِّمة فقط بل أيضا إلى المجموعات الضاغطة على جانبي الجدل المتعلق بالتغير المناخي.
ولا يعفي اللورد مي "لوبي الإنكار" ولا المنظماتِ غير الحكومية التي تعارضُ الطاقة النووية من التمثيل الخاطئ للحقائق العلمية.
وتحدَّث اللورد مي في أسبوع شهِدَ افتتاحَ مؤتمر المناخ في كندا، وبدءِ الجدل حول الطاقة النووية في بريطانيا، وقال: إن هناك ضرورةً لإجراء تحقيق مفتوحٍ حول هذه القضايا.
وأضاف: انه من الضروري وزنُ مشاكلِ الطاقة النووية مع مشاكلِ إنتاج غاز ثاني أكسيد الكربون جرّاء استخدام مصادرِ طاقةٍ أخرى .
وقال اللورد مي: إن خطرًا إضافيا على انفتاح العلم، مصدرُهُ تنامي شبكة المتشددين، والمجموعاتِ الضاغطة في الولايات المتحدة التي تضغطُ باتِّجاهِ تدريس نظرية الخلق في المدارس.
وأضاف قائلا: "بالاستناد إلى كتاباتِهم فان ما يهدفون إليه هو استبدال المادية العلمية بشيءٍ مبنيٍّ على الإيمان".
Threats to Tomorrow's World - Lord Robert May of Oxford OM AC Kt
Lord Robert May of Oxford OM AC Kt، completes his five-year term as President of the Royal Society on 30 November 2005. He holds a professorship jointly in the Department of Zoology، University of Oxford and Imperial College، London.
Lord May has won a number of international awards، including the 1996 Carfoord Prize for "pioneering ecological research in theoretical analysis of the dynamics of populations، communities and ecosystems". Between 1995 and 2000 he was Chief Scientific Adviser to the UK Government and Head of the Office of Science and Technology. He became a member of the UK House of Lords in 2001 and was appointed to be a member of the Order of Merit in 2002.
http://www.royalsoc.ac.uk/publication.asp?id=2181
http://www.royalsoc.ac.uk/dow000nloaddoc.asp?id=2414
برنامج المؤتمر يوم الجمعة 09 ديسمبر 2005
9.00-11.15 : الجلسة العلمية السابعة
الرئيس : أ. د. أندري ريمون
9.00-9.30: - الجراري، د. محمد الطاهر (مركز الجهاد الليبي) :
"الإنسان والتاريخ واشتراطات العولمة"
9.30-10.00 : - فالتز, أ. د.برنار (الجامعة الكاثولوكية للوفان – بلجيكا)
"العلوم والحداثة والثقافات
10.00-10.30: - تركماني, د. عبد الله (باحث - سوريا) :
"البعد الثقافي في الشراكة الأورو-متوسطية"
10.30-11.15 : مناقشات
11.15-11.30 : استراحة
11.30-14.00 : الجلسة العلمية الثامنة
الرئيس : أ. د. محمد الطاهر الجراري
11.30-12.00 : - الدغيم، د. محمود السيد (باحث أكاديمي-جامعة لندن SOAS) :
"تداعيات السياسة الإقليمية على مستقبل الإنسانية"
12.00-12.30 : - عميرة، د. علية الصغير (المعهد الأعلى لتاريخ الحركة الوطنية-الجامعة التونسية) :
"حول مفكرين انسانيين : إيراسم والحداد"
12.30-13.00 : - البكوش، عيسى (باحث) :
" الآنسنة في القرن الحادي والعشرين : الغروب أو الفجر الجديد
13.00-14.00 : مناقشات
14.00-15.00 : الغداء
15.00-18.00 : الجلسة العلمية التاسعة
الرئيس : أ. د. عبد الجليل التميمي
15.00-15.30 : - كريم, أ. د. مصطفى (جامعة تونس) :
"هل هناك مقاربة بين حركة الأنسنة الأوربية والنهضة العربية ؟"
15.30-16.00 : - علمي, د. سعيد (باحث - فرنسا) :
"البحر الأبيض المتوسط وأوربا أية علاقة ؟"
16.00-17.30: حوار مفتوح حول استراتيجية الشراكة المعرفية بين الشمال والجنوب
17.30-18.00: البيان الختامي
عودة إلى الفندق
وشكرا على حُسن المتابعة