واحة الإمام الذهبي، وعماد الدين زنكي
د. محمود السيد الدغيم

قلعة جعبر في نهر الفرات في الأراضي السورية


1
الإمام الذهبي
هو التركماني الأصل الفارقي، ثم الدمشقي، الإمام شمس الدين الذهبي، محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز (ومعناها: الذي لا يتزحلق) بن عبد الله، وقد كانت ولادته في مدينة دمشق في 13 من شهر ربيع الآخر سنة 673 هـ/ 1274م  في مدينة دمشق وسمع العلوم من ابن غدير وابن عساكر ويوسف الغسولي وغيرهم، ثم رحل إلى القاهرة وأخذ عن الأبرقوهي والدمياطي وابن الصواف والقرافي وغيرهم، وذكر شيوخه الذين سمع منهم، والذين أجازوه في معجمه الكبير الذي تضمن أكثر من ألف ومائتي عالم وعالمة، وقد خرَّج لجماعة من شيوخه، وجرح وعدَّل، وفرَّع وصحَّح وعلَّل واستدرك، وأفاد وانتقى، واختصر كثيراً من تآليف المتقدمين والمتأخرين، وكتب عِلماً كثيراً وصنف الكتب المفيدة، فقال عنه السيوطي: "إن المحدثين عيال الآن على أربعة: المزي والذهبي والعراقي وابن حجر". وبعد حياة حافلة بالعطاء العلمي توفي الحافظ الذهبي مساء الأحد ليلة الاثنين ثالث شهر ذي القعدة سنة ثمان وأربعين وسبعمائة، وصلّي عليه يوم الاثنين صلاة الظهر في جامع بني أمية بدمشق، ودفن بمقبرة الباب الصغير.
 
2
مؤلفات الذهبي
ألف الحافظ الذهبي العديد من المصنفات القيّمة النفيسة التي تعتبر المرجع في بابها، ولذلك نالت حظاً كبيراً من الثناء والقبول التام لدى الخاص والعام. وجميع مصنفاته مقبولة مرغوبة، وله فيها تعبيرات رائعة وألفاظ رشيقة، غالباً لم يسلك مسلكه فيها أهل عصره ولا من قبله ولا قبلهم ولا أحد بعدهم، وبالجملة فالناس في التاريخ من أهل عصره، والذين بعدهم عيال عليه ولم يجمع أحد في هذا الفن كجمعه ولا حرره كتحريره، ومن أطول كتبه: تاريخ الإسلام، ومنها: ميزان الاعتدال في نقد الرجال، ومصنفاته ومختصراته وتخريجاته تقارب المائة مصنف، ومنها: كتاب الكبائر، وكتاب حق الجار، وقد كتب د. بشار عواد معروف كتابا بعنوان: الذهبي ومنهجه في كتابه تاريخ الإسلام، وفيه تعريف بزهاء 214 أثراً من آثار الذهبي، ومن أطرفها: تشبيه الخسيس بأهل الخميس، في التحذير من تقليد أهل الكتاب في أعيادهم، وكتاب بيان زغل العلم، وكتاب القبان في أصحاب ابن تيمية، وكتاب الدرة اليتيمية في سيرة التيمية، ومن أشهر مؤلفاته المطبوعة: كتاب أهل المائة فصاعداً، "في مشاهير المعمرين"، وكتاب تذكرة الحفاظ، وكتاب طبقات القراء، وكتاب العبر في خبر من غبر، وكتاب ميزان الاعتدال في نقد الرجال، وكتاب المشتبه في الأسماء والأنساب، وكتاب سير أعلام النبلاء.
3
سير أعلام النبلاء
استخرج الإمام الذهبي كتابه سير أعلام النبلاء من كتابه الضخم: تاريخ الإسلام. فأسقط الحوادث، مكتفياً بالوفيات، وقد طبعت مؤسسة الرسالة في 23 مجلدا، وأتبعته بفهارس عامة في مجلدين، وتضمن كتاب سير أعلام النبلاء روايات لم يذكرها الذهبي في تاريخ الإسلام، ورتب السيَرَ على 35 طبقة منذ أيام النبوة في صدر الإسلام حتى سنة 700هـ/ 1300 م، وألحق بالكتاب ذيلاً تضمن سيَرَ أعلام الفترة الممتدة من سنة 700/ 1300 م حتى 740هـ/ 1340م، ورتبها في خمس طبقات.

شارع نور الدين في مدينة دمشق حاضرة الأمويين العظماء يرحمهم الله

4
نور الدين زنكي
أورد الإمام الذهبي في كتاب سير أعلام النبلاء سيرة المجاهد نور الدين زنكي، فقال: صاحب الشام، الملك العادل، نور الدين، ناصر أمير المؤمنين، تقي الملوك، ليث الإسلام، أبو القاسم، محمود بن الأتابك قسيم الدولة أبي سعيد زنكي، بن الأمير الكبير آقسنقر، التركي السلطاني الملكشاهي، مولده في شوال سنة 511 هـ/ 1117م. ولي جدُّه نيابة حلب للسلطان ملكشاه بن ألب آرسلان السلجوقي، ونشأ قسيم الدولة بالعراق، وندبه السلطان محمود بن محمد بن ملكشاه بإشارة الخليفة المسترشد لإمرة الموصل وديار بكر والبلاد الشامية، وظهرت شهامته وهيبته وشجاعته، ونازل دمشق، واتسعت ممالكه، فقتل على حصار قلعة جعبر على نهر الفرات في الخامس من ربيع الأول سنة 541 هـ/ 1146 م ، فتملك بعده ابنه نور الدين مدينة حلب، وتملك ابنه الآخر مدينة الموصل.
قلعة جعبر في نهر الفرات في الأراضي السورية

5
جهاد نور الدين زنكي

كان نور الدين حامل رايتي العدل والجهاد، قلَّ أن ترى العيون مثله، حاصر دمشق، ثم تملَّكها، وبقي بها عشرين سنة، وساد فيها العدل، وازدهر العلم والعمران، وافتتح نور الدين حصوناً كثيرة منها: آفامية، والراوندان، وقلعة إلبيرة، وعزاز، وتل باشر، ومرعش، وعين تاب، وهزم البرنس الصليبي صاحب أنطاكية، وقتله في ثلاثة آلاف من الفرنج، وأظهر السُّنة بمدينة حلب وقيد الرافضة، وأخذ من العدو الفرنجي حصن بانياس والمنيطرة، وكسر الفرنج عدة مرات، ودوخهم، وأذلهم، وكان بطلاً شجاعاً، وافر الهيبة، حسن الرمي، مليح الشكل، ذا تعبد وخوف وورع، وكان يتعرض للشهادة في سبيل الله، وقد سمعه كاتبه أبو اليسر، وهو يسأل الله أن يحشره من بطون السباع وحواصل الطير.
6
عمران نور الدين

بنى نور الدين زنكي دار العدل بمدينة دمشق، وأنصف الرعية، ووقف على الضعفاء والأيتام والمجاورين الأوقاف الكثيرة، وأمر بتكميل سور المدينة النبوية، واستخراج العين بأُحُد بعدما دفنها السيل، وفتح درب الحجاز، وعمر الخوانق والربط والجسور والخانات بدمشق وغيرها، وكذا فعل إذ ملك حران ـ قُرب أورفة ـ وسنجار والرها (أورفة) والرقة ومنبج وشيزر وحمص وحماة وصرخد ـ قُرب السُّويداء السورية ـ وبعلبك وتدمر. ووقف كتباً كثيرة مثمنة، وكسر الفرنج والأرمن على جبهة حارم في شمال غرب سوريا، وكانوا ثلاثين ألفاً، فقلَّ مَن نجا منهم، ثم كسرهم على جبهة على بانياس.
وكانت الفرنج قد استضرت على دمشق، وجعلوا عليها قطيعةً، وأتاه أمير الجيوش شاور مُستجيراً به، فأكرمه، وبعث معه جيشاً ليرده إلى منصبه، فانتصر، لكنه تخابث وتلاءم، ثم استنجد بالفرنج، ثم جهز نور الدين رحمه الله جيشاً لجباً مع نائبه أسد الدين شيركوه، فافتتح مصر، وقهر دولتها العُبيدية، وهربت منه الفرنج، وقتل شاور، وصَفَت الديار المصرية لشيركوه نائب نور الدين، ثم لصلاح الدين، فأزال العبيديين، واستأصلهم، وأقام الدعوة للخلافة الإسلامية العباسية.
7
علوم نور الدين
كان نور الدين الشهيد مليح الخط، كثير المطالعة، يُصلي صلاته في جماعة، ويصوم رمضان ويتنفل، ويتلو القرآن الكريم ويسبِّح، ويتحرى في الْقُوْتِ فلا يأكل إلا حلالاً طيباً، ويتجنب الكِبر، ويتشبَّه بالعُلماء والأخيار، ذكر هذا ونحوه الإمام الذهبي، والحافظ ابن عساكر الذي قال: إن نور الدين زنكي روى الحديث، وأسمعه بالإجازة، وكان مَن رآه شاهد مِن جلال السلطنة وهيبة الملك ما يبهره، فإذا فاوضه، رأى مِن لطافته وتواضعه ما يحيره، وقد حكى مَن صَحِبَه حَضراً وسفراً أنه ما سمع منه كلمة فُحْش في رضاه ولا في ضجره، وكان يؤاخي الصالحين، ويزورهم، وإذا بلغ مماليكه سنَّ الرشد أعتقهم، وزوجهم بجواريه، ومتى تشكوا  الناس مِن وِلاته عزلهم، وغالب ما تملَّكَه من البلدان تسلَّمه بالأمان، وكان كلما أخذ مدينةً، أسقط عن رعيته قِسطاً من الضرائب.

8
وفاة نور الدين

وقال الإمام أبو الفرج بن الجوزي: جاهد نور الدين، وانتزع من الكفار نيفاً وخمسين مدينةً وحصناً، وبنى بالموصل جامعاً غرم عليه سبعين ألف دينار، وترك المكوس قبل موته، وبعث جنوداً فتحوا مِصر، وكان يميل إلى التواضع وحبِّ العلماء والصلحاء، وكاتبني مِراراً، وعزم على فتحِ بيت المقدس، فتوفي في شوال، وقيل في الثامن من رمضان سنة 569 هـ/ 1174 م، وكانت وفاته في قلعة مدينة دمشق، وقد بلغ سنَّ الستين، وبلغت مدة حكمه 29 سنة، وقبر نور الدين بتربته عند باب الخواصين في دمشق، وكان نور الدين من أقوى الناس قلباً وبدناً، لم يُرَ على ظهر فرس أحد أشدّ منه، وكان يقول: طالما تعرضت للشهادة، فلم أدركها.
وبعد وفاته قام بالحكم ابنه الملك الصالح إسماعيل، وعمره 11 سنة، وحلف له العساكر، وأطاعه صلاح الدين الأيوبي في مصر، وضُربت السكة باسمه، وسلم دمشق إلى السلطان صلاح الدين، وتحوَّل إلى حلب، فدام صاحبها تسع سنين، ومات بالقولنج وله عشرون سنة، وكان شاباً ديناً رحمه الله.
9
شهادات العلماء لنور الدين

قال الذهبي: قال الموفق عبد اللطيف: كان نور الدين لم ينشف له لبد من الجهاد، وكان يأكل من عمل يده، وينسخ الكتب تارةً، ويعمل أغلافاً تارة، ويلبس الصوف، ويلازم السجادة والمصحف، وكان حنفياً يراعي مذهب الشافعي ومالك، وكان ابنه الصالح إسماعيل أحسن أهل زمانه.
وقال ابن الأثير: كان أسمر، له لحية في حنكِه، وكان واسع الجبهة، حسن الصورة، حلو العينين، طالعت السير، فلم أرَ فيها بعد الخلفاء الراشدين، وعمر بن عبد العزيز أحسن من سيرته، ولا أكثر تحرياً منه للعدل، وكان لا يأكل ولا يلبس ولا يتصرف إلا مِن مِلكٍ له قد اشتراه من سهمه من الغنيمة، لقد طلبت زوجته منه، فأعطاها ثلاثة دكاكين، فاستقلَّتها، فقال: ليس لي إلا هذا، وجميع ما بيدي أنا فيه خازن للمسلمين، وكان يتهجَّد كثيراً، وكان عارفاً بمذهب أبي حنيفة، لم يترك في بلاده على سعتها مُكساً، وسمعت أن حاصل أوقافه في الْبِرِّ في كل شهر تسعة آلاف دينار صورية، وقد قال له القطب النيسابوري: بالله لا تخاطر بنفسك، فإن أُصِبت في معركة لا يبقى للمسلمين أحد إلا أخذه السيف، فقال: ومَن محمود حتى يقال هذا ؟! حَفِظَ اللهُ البلادَ قبلي لا إله إلا هو.
10
عدل نور الدين وتقشفه
قال مجد الدين ابن الأثير في نقل سبط الجوزي عنه: لم يلبس نور الدين حريراً ولا ذهباً، ومنع بيع الخمر في بلاده، وكان كثير الصوم، وله أوراد في الليل والنهار، وأهديت له عِمامة من مصر مذهبة، فأعطاها لابن حمويه شيخ الصوفية، فبيعت بألف دينار، وكان يقعد في دار العدل في الجمعة أربعة أيام، ويأمر بإزالة الحاجب والبوابين، وجاءه رجل طلبه إلى الشرع، فجاء معه إلى مجلس كمال الدين الشهرزوري، وتقدمه الحاجب يقول للقاضي: قد قال لك: اسلك معه ما تسلك مع آحاد الناس. فلما حضر سوى بينه وبين خصمه، وتحاكما، فلم يثبت للرجل عليه حق، وكان ملكاً، ثم قال السلطان: فاشهدوا أني قد وهبته له.
قال العماد في البرق الشامي: أكثر نور الدين عام موته من البر والأوقاف وعمارة المساجد، وأسقط ما فيه حرام، فما أبقى سوى الجزية والخراج والعشر، وكتب بذلك إلى جميع البلاد، فكتبت له أكثر من ألف منشور. وكان له برسم نفقة خاصة في الشهر من الجزية ما يبلغ ألفي قرطاس يصرفها في كسوته ومأكوله، وأجرة طباخه وخياطه كل ستين قرطاساً بدينار. وكان له عجائز، فكان يخيط الكوافي، ويعمل السكاكر، فيبعنها له سراً، ويفطر على ثمنها.
11
كرامات نور الدين
قال سبط ابن الجوزي: حكى لي نجم الدين بن سلام عن والده أن الفرنج لما نزلت على دمياط، ما زال نور الدين عشرين يوماً يصوم ولا يفطر إلا على الماء، فضعف وكاد يتلف، وكان مهيباً، ما يجسر أحد يخاطبه في ذلك، فقال إمامه يحيى: إنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم يقول: يا يحيى، بشر نور الدين برحيل الفرنج عن دمياط. فقلت: يا رسول الله، ربما لا يصدقني. فقال: قل له: بعلامة يوم حارم. وانتبه يحيى، فلما صلى نور الدين الصبح، وشرع يدعو، هابه يحيى، فقال له: يا يحيى، تحدثني أو أحدثك ؟! فارتعد يحيى، وخرس، فقال: أنا أحدثك، رأيت النبي صلى الله عليه وسلم هذه الليلة، وقال لك كذا وكذا. قال: نعم، فبالله يا مولانا، ما معنى قوله: بعلامة يوم حارم؟ فقال: لما التقينا العدو الفرنجي، خفت على الإسلام، فانفردت، ونزلت، ومرغت وجهي على التراب، وقلت: يا سيدي مَن محمود في البين، الدين دينك، والجند جُندك، وهذا اليوم افعل ما يليق بكرمك. قال: فنصرنا الله عليهم.



ملاحظة: نشرت هذه الواحة في ملحق التراث من جريدة الحياة العدد : 15453، في الصفحة : 15، يوم السبت 17 جمادى الثانية ـ 23 تموز/ يوليو سنة 2005م