للقراءة والتحميل : المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، تأليف : د. جواد علي، الجزء الأول :الفصول 1-40، الجزء الثاني – الفصول 41-62، الجزء الثالث – الفصول 63-136، الجزء الرابع – الفصول 137-168.

Mufassal.gif

****

رابط تحميل وقراءة الكتاب عشرة أجزاء في أربعة ملفات وورد مضغوطة

zip Mufassal 23/11/2008,20:33 4.32 Mb

****

المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام
د. جواد علي


فهرس الجزء الأول – الفصول 1-40


مقدمة 2
الفصل الأول تحديد لفظة العرب 3
الفصل الثاني الجاهلية و مصادر التاريخ الجاهلي 8
الفصل الثالث إهمال التأريخ الجاهلي و إعادة تدوينه 22
الفصل الرابع جزيرة العرب 30
الفصل الخامس طبيعة جزيرة العرب وثرواتها وسكانها 39
الفصَلُ السادس صلات الحرب بالساميين 47
الفصل السابع طبيعة العقلية العربية 55
الفصل الثامن طبقات العرب 63
الفصل التاسع العرب العاربة والعرب المستعربة 75
الفصل العاشر أثر التوراة 86
الفصل الحادي عشر أنساب العرب 97
الفصل الثاني عشر طبقات القبائل 107
الفصل الثالث عشر تأريخ الجزيرة القديم 111
الفصل الرابع عشر العرب في الهلال الخصيب 120
الفصل الخامس عشر صلة العرب بالكلدانيين و الفرس 127
الفصل السَّادس عَشِر العرب والعبرانيون 132
الفصل السابع عشر العرب و اليونان 138
الفصل الثامن عشر العرب و الرومان 145
الفصل التاسع عشر الدولة المعينية 153
الفصل العشرون مملكة حضرموت 165
الفصل الثاني و العشرون مملكتا ديدان و لحيان 189
الفصل الثالث و العشرون السبئيون 193
الفَصْل الرَابع والعِشُرون ملوك سبأ 205
الفَصْل الخَامِس وَالعِشُرون همدان 213
الفَصْل ا لسَّادِس وَُالعشرُون أسر وقبائل 221
الفَصْل ا لسَابع وَالعِشُرون ملوك سبأ وذو ريدان 226
الفَصْل اَلثَامِن وَالعِشرُون سبأ وذو ريدان 239
الفَصْل التَاسِعَ وَالعِشرُون ممالك وإمارات صغيرة 245
الفَصْلُ الثًّلاَثون الحميريون 247
الفصل الحادي و الثلاثون سبأ و ذو ريدان و حضرموت و يمنت 251
الفصل الثاني والثلاثون إمارات عربية شمالية 267
الفصل الثالث و الثلاثون ساسانيون و بيزنطيون 272
الفصل الرابع والثلاثون مملكة النبط 280
الفصل الخامس والثلاثون مملكة تدمر 293
الفَصْل السّادِسُ والثَلاثون الصفويون 307
الفَصْلُ السَّابعُ والثلاثون مملكة الحيرة 310
الفَصْلُ الثَامِنُ والثَلاثون عمرو بن هند 324
الفَصْلُ التاَسِعُ واَلثَلاثون مملكة كنده. 339
الفصل الاربعون مملكة الغساسنة 354

مقدمة
هذا كتاب في تاريخ العرب قبل الإسلام، وهو في الواقع كتاب جديد، يختلف عن كتابي السابق الذي ظهرت منه ثمانية أجزاء. يختلف عنه في إنشائه، وفي تبويبه وترتيبه، وفي كثير من مادته أيضاً، فقد ضمّنته مادة جديدة،خلا منها الكتاب السابق، تهيأت لي من قراءاتي لكتابات جاهلية عُثر عليها بعد نشر ما نشرت منه، ومن صور كتابات أو ترجماتها أو نصوصها لم تكن قد نشرت من قبل، ومن مراجعاتي لموارد نادرة لم يسبق للحظ إن سعد بالظفر بها أو الوقوف عليها، ومن كتب ظهرت حديثاً بعد نشر هذه الأجزاء، فرأيت إضافتها كلها إلى معارفي السابقة التي جسدتها في ذلك الكتاب.
وقد رأى أستاذي العالم الفاضل السيد محمد بهجت الأثري تسميته: "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام"، لما فيه من تفصيل لم يرد في الكتاب السابق، فوجدت في اقتراحه رأياً صائباً.ينطبق كل الانطباق على ما جاء فيه، فسميته بما سماه به، مقسماً إليه شكري الجزيل على هذا التوجيه الجميل.
وكتاباي هذان، هما عمل فرد عليه جمع المادة بنفسه، والسهر في تحريرها وتحبيرها،وعليه الإنفاق من ماله الخاص على شراء موارد غير متيسرة في بلاده، أو ليس في استطاعته مراجعتها بسبب القيود المفروضة على إعارة الكتب،أو لاعتبارات أخرى، ثم عليه البحث عن ناشر يوافق على نشر الكتاب، ثم عليه تصحيح المسودات بنفسه بعد نجاحه في الحصول على ناشر، إلى غير فلك من أمور تسلبه راحته وتستبد به وتضنيه. ولولا الولع الذي يتحكم في المؤلفين في هذه البلاد، لما أقدم إنسان على تأليف كتاب.
وإن عملاً تم بهذا الأسلوب وبهذه الطريقة، لا يمكن إن يرضي المؤلف أو يسعده، لأنه عمل يعتقد إنه مها انفق فيه من جهد وطاقة واجتهاد، فلن يكون عل الشكل الذي يتوخاه أو يريده، والصورة التي رسمها في فكره وتصورها له. ولولا طمع المؤلف في كرم القراء بتبرعهم في تقويم عوجه وإصلاح أغلاطه و إرشاده إلى خير السبل المؤدية إلى التقويم والإصلاح، و لولا اعتقاده إن في التردد أو الإحجام سلبية لا تنفع، بل إن فيها ضرراً، وان كتابا يؤلَّف و ينشر عد ما يجمع من عيوب ونقائص خير من لا شيء، أقول:لولا هذه الاعتبارات لما تجرأت، فأخرجت كتاباً وعددتني مؤلفاً من المؤلفين.
وأنا إذ أقول هذا القول و أثبته، لا أريد إن أكون مرائيا لابساً ثوب التواضع لأتظاهر به على شاكلة كثير من المرائين. و إنما أقول ذلك حقا وصدقا، فأنا رجل اعتقد إن الإنسان مهما حاول إن يتعلم،فأنه يبقى إلى خاتمة حياته جاهلاً، كل ما يصل إليه من العلم هو نقطة من بحر لا ساحل له. ثم إني ما زلت أشعر أني طالب علم، كلما ضننت انتهيت من موضوع، و فرحت بانتهائي منه، أُدرك بعد قليل إن هنالك علما كثيراُ فاتني، و موارد جمة لم أتمكن من الظفر بها، فأتذكر الحكمة القديمة "العجلة من الشيطان".
و قد رأيت في هذا الكتاب شأني في الكتاب السابق، ألا أنصِّب نفسي حاكماً تكون وظيفته إصدار أحكام قاطعة، و إبداء آراء في حوادث تاريخية مضى زمن طويل عليها، بل أكتفي بوصف الحادث و تحليله كما يبدو لي. و قد لا تعجب طريقتي هذه كثيرا من القراء، و عذري أني لا أكتب لإرضاء الناس، و لا أدوّن لشراء العواطف، و إنما أكتب ما أعتقده و أراه بحسب علمي و تحقيقي، و الرأي عندي إن التاريخ تحليل و وصف لما وقع و يقع، و على المؤرخ إن يجهد نفسه كل الإجهاد للإحاطة به، بالتفتيش عد كل ما ورد عنه، و مناقشة تمحيصٍ و نقد عميقين، ثم تدوين ما يتوصل إليه بجده و اجتهاده تدويناً صادقا على نحو ما ظهر و ما شعر به، متجنباً إبداء الأحكام و الآراء الشخصية القاطعة على قدر الاستطاعة.
لقد قلت في مقدمة الجزء الأول من كتابي السابق: "و الكتاب بحث، أردت جهد طاقتي إن يكون تفصيليا، و قد يعاب عليّ ذلك، و عذري في هذا التفصيل أنني أريد تمهيد الجادة لمن يأتي بعدي فيرغب في التأليف في هذا الموضوع، وأنني أكتب للمتتبِّعين والمتخصصين، ومن حق هؤلاء المطالبة بالمزيد . وقد فعلت في هذا الكتاب ما فعلته في الأجزاء الثمانية من الكتاب السابق من تقصّي كل ما يرد عن موضوع من الموضوعات في الكتابات وفي الموارد الأخرى ، وتسجيله وتدوينه ، ليقدم للقارئ أشمل بحث وأجمع مادة في موضوع يطلبه ، لأن غايتي من هذا الكتاب أن يكون "موسوعة" في الجاهلية والجاهليين ، لا أدع شيئاً عنها أو عنهم إلا ذكرته في محله ، ليكون تحت متناول يد القارئ . فكتابي هذا وذاك هما للمتخصصين وللباحثين الذين يطمعون في الوقوف على حياة الجاهلية بصورة تفصيلية ، ولم يكتب للذين يريدون الإلمام بأشياء مجملة عن تلك الحياة.
والكتاب لذلك سيخرج في أجزاء ، لا أستطيع تحديد عددها ألان ، ولكني أقول بكل تأكيد إنها ستزيد على العشرة ، وأنها ستتناول كل نواحي الحياة عند ا لجاهليين: من سياسية ، و اجتماعية ، ودينية ، وعلمية ، وأدبية ، وفنية ، و تشريعية .
لقد أشار عليّ بعض الأصدقاء أن أدخل في العرب كل الساميّين ، وأن أتحدث عنهم في كتابي هذا كما أتحدث عن العرب ، لأن وطن الساميين الأول هو جزيرة العرب ، ومنه هاجروا إلى الأماكن المعروفة التي استقروا فيها ، فهم في ذلك مثل القبائل العربية التي تركت بلاد العرب ، واستقرت في العراق وفي بادية الشام وبلاد الشام ، لا يختلفون عنهم في شيء . ثم قالوا: فإذا كنتَ قد تحدثت عن تلك القبائل المهاجرة على أنها قبائل عربية، فلمَ تسكت عن أولئك السامين ، ولم تجعلهم من العرب? و جوابي أن القبائل العربية المهاجرة هي قبائل معروفة الأصل وقد نصت الكتابات والموارد الأخرى على عروبتها. ، ونسبت نفسها إلى جزيرة العرب، ولهجاتها لهجات عربية ، لا ريب في ذلك ولا نزاع ، و ثقافتها عربية . أما الشعوب السامية ، فليس بين العلماء، كما سترى، اتفاق على وطنها الأول، وليس بينها شعب واحد نسب نفسه إلى العرب ، وليس في الموارد التاريخية الواصلة إلينا مورد واحد يشير إلى أنها عربية؛ ولهجاتها وان اشتركت كلها في أمور، فإنها تختلف أيضاً في أمور كثيرة، هي أكثر من مواطن الاشتراك والالتقاء. ففرقٌ كبير إذن بين هذه الشعوب وبين القبائل العربية من حيث العروبة. ثم إن العروبة في نظري ليس بها حاجة إلى ضم هذه الشعوب اليها، لاثبات إنها ذات أصل تؤول اليه، فقد أعطى الله تلك الشعوب تاريخاً ثم محاه عنهم، وأعطى العرب تاريخاً أينع في القديم واستمر حتى لليوم،ثم إن لهم من الحضارة الإسلامية ما يغنيهم عن التفتيش عن مجد غيرهم وعن تركاتهم، لإضافتها إليهم. فليس في العرب مركب نقص حتى نضيف إليهم من لم يثبت انهم منهم، لمجرد أنهم كانوا أصحاب حضارة وثقافة، وأن جماعة من العلماء ترى أنهم كانوا من جزيرة العرب. والرأي عندي أن العرب لو نبشوا تربة اليمن و بقية الترب لما احتاجوا إلى دعوة من يدعو إلى هذا الترقيع. فأنا من أجل هذا لا أستطيع أن أضم أحدا من هؤلاء إلى الأسرة العربية بالمعنى الاصطلاحي المعروف المفهوم، من لفظة العرب عندنا ، إلا إذا توافرت الأدلة ، وثبت بالنص أنهم من العرب حقاً، وأنهم كانوا في جزيرة العرب حقاً.
نعم، لقد قلت إن مصطلح الشعوب العربية هو أصدق اصطلاح يمكن إطلاقه على تلك الشعوب ، وإن الزمان قد حان لاستبدال .مصطلح "عربي" و "عريية" ب "سامي" و "سامية" ، وقلت أشياء أخرى شرحتها في الجزء الثاني من الكتاب السابق في تعليل ترجيح هذه التسمية. ولكنى لم أقصد ولن أقصد أن تلك الشعوب هي قبائل عربية مثل الشعوب والقبائل العربية المعروفة. فالسامية وحدة ثقافية، اصطلح عليها اصطلاحاً، و العروبة وحدة ثقافية وجنسية وروابط دموية وتأريخية، و بين المفهومين فرق كبير.
إن مما يثير الأسف والله في النفوس ان نرى الغربيين يعنون بتأريخ الجاهلية و يجدّون في البحث عنه والكشف عن حلقاته وتركاته في باطن الأرض، ونشره بلغاتهم، ولا نرى حكوماتنا العربية ولا سيما حكومات جزيرة العرب، إلا منصرفة عنه، لا تعنى بالآثار العناية اللازمة لها، ولا تسأل الخبراء رسمياً وباسمها البحث عن العاديات والتنقيب في الخرائب الجاهلية لاستخراج ما فيها من كنوز،وجمعها في دار للمحافظة عليها ولاطلاع الناس عليها . وقد يكون عذر هذه الحكومات إن الناس هناك ينظرون إلى التماثيل نظرتهم إلى الأصنام والأوثان، والى استخراج الآثار والتنقيب عن العاديات نظرتهم إلى بعث الوثنية و إحياء معالم الشرك، وهي من أجل هذا تخشى الرأي العام، وإني على كل حال أرجو إن تزول هذه الأحوال في المستقبل القريب، وأن يدرك عرب الجزيرة أهمية الآثار في الكشف عن تاريخ هذه الأمة العربية القديم.
كذلك أرجو إن تنتبه حكومات جزيرة العرب لأهمية موضوع التخصص بتأريخ العرب القديم، وان تكلف شبانها دراسة علم الآثار ودراسة لهجات العرب قبل الإسلام والأقلام العربية الجاهلية، ليقوموا هم أنفسهم بالبحث والتنقيب في مواطن العاديات المنبثة في مواطن كثيرة من الجزيرة.
ورجاء آخر أتمنى على جامعة الدول العربية والدول العربية إن يحققوه، وهو إرسال بعثات من المتخصصين بالآثار وباللهجات والأقلام العربية القديمة إلى مواطن الآثار في اليمن وفي بقية العربية الجنوبية والمواضع الأخرى من جزيرة العرب للتنقيب عن الآثار، والكشف عن تأريخ الجزيرة المطمور تحت الأتربة والرمال، ونشره نشرا علمياً، بدلاً من إن يكون اعتمادنا في ذلك على الغربيين. أفلا يكون من العار علينا إن نكون عالة عليهم في كل أمر، حتى في الكشف عن تاًريخنا القديم! وأضيف إلى هذا الرجاء رجاء آخر هو إن تقوم أيضاً بتدوين معجم في اللهجات العربية الجاهلية، تستخرجه من الكتابات التي عثر عليها، وبتأليف كتب في نحوها وصرفها، وترجمة الكتب، الأمهات التي وضعها المؤلفون الأجانب في تاريخ الجاهلية، ترجمة دقيقة تنأى عن المسخ الذي وقع في ترجمة بعض تلك المؤلفات فأشاع الغلظ ونشر التخريف.
لقد راجعت بعض المستشرقين الباحثين في تاريخ العرب القديم، وسالت بعض من ساح في جزيرة العرب في هذه الأيام، وبعض الشركات العاملة فيها، في آخر ما توصلوا إليه من بحوث، وعثروا عليه من عاديات، فوجدت منهم كل معونة، وأرسلوا وما برحوا يرسلون أجوبتهم إليّ بكل ترحاب ولطف، وكتبت إلى بعض حكومات جزيرة العرب والى بعض المسؤولين من أصحاب المكانة فيها والنفوذ مرارا، أسألها وأسألهم عن العاديات وعن الآثار التي عثر عليها حديثاً في بلادهم، فلم أسمع من الاثنين جوابا، وإني إذ أكتب هذه الملاحظة المرّة المؤسفة، إنما أرمي بها إلى التنبيه ولفت أنظار أولي الأمر أصحاب الحكم والسلطان. فمن واجب المسؤول إجابة الرسائل، ولا سيما إن القضية قضية تخص البلاد المذكورة بالذات والعرب عموماً، وقبيح إن ينبري الغريب، فيساعد طالب بحث عن تأريخ أمته واخوته، ويستنكف المسؤولون من أبناء هذه الأمة عن تنفيذ طلب لا يكلفهم شيئا، وهو خطير يتعلق بتأريخ هذه الأمة قبل الإسلام و إذاعته أولاً، وهو واجب من واجباتهم التي نصبوا من أجلها ثانياً.
لقد تمكن الباحثون في التاًريخ الجاهلي، من سياح وعلماء، من الارتقاء بتاريخ الجاهلية بمئات من السنين قبل الميلاد ، وذلك على وجه صحيح لا مجال للشك فيه، خ أن بحوثهم هذه لم تنزل سوى أمتار في باطن الآثار وفي أماكن محدودة معينة. وسوف يرتفع مدى هذا التأريخ إلى مئات أخرى، وربما يتجاوز الألفي سنة أو أكثر قبل الميلاد إذا أتيحت الفرص للعلماء في الحفر في مواضع، الآثار حفرا علمياً بالمعنى الحديث المفهوم من "الحفر" . وأنا لا أستبعد بلوغ هذا التاريخ الجاهلي في يوم من الأيام التأريخ الذي وصل إليه العلماء في مصر وفي العراق، أو في أماكن أخرى عرفت بقدم تاريخها، بل لا أستبعد أيضا أن يتقدم هذا التأريخ تأريخ بعض الأماكن المذكورة .
وبعد هذا ، لا بد لي هنا من الاعتراف بفضل رجل، له على هذا الكتاب وعلى الكتاب الأول يد ومنة، وله كذلك عد مؤلفهما فضل سابق، يسبق زمن تأليف كتابيه بأمد طويل ، هو فضل الإرشاد والتوجيه والتعليم. وأريد به الاستاذ العلامة الفاضل السيد محمد بهجت الأثري ، العضو العامل في مجمع اللغة العربية بالقاهرة وعضو المجمع العلمي العربي بدمشق، وعضو المجلس الأعلى الاستشاري للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة. فقد كان لي ولأمثالي من الدارسين والباحثين ولا يزال مرشدا وموجهاً ومشوقاً لدراسة التراث العربي والتراث الإسلامي والتأليف في ذلك، مذ كنت تلميذه في الإعدادية المركزية ببغداد أتلقى عنه في جملة من كانوا يتلقون سنه الأدب العربي، فكان يشوقنا بأسلوبه الجذاب ، وبتأثيره القوي المعروف، إلى التوسع في دراسة الأدب العربي وتاريخ الأمة العربية، وهو ما برح يحثني على الإسراع في إتمام هذا الكتاب و إخراجه للناس، قارئاً مسوداته، ومبدياً آراءه و إرشاداته وملاحظاته المهمة ،التي أفادتني ،والحق أقول، كثيراً. وهما فضلان لن ينساهما تلميذ يقدّر الفضل لأستاذ كريم يفني نفسه في تربية الأجيال ونشر الأدب والعلم.
وبعد، فهذا الكتاب هو جمعي وترتبي، فأنا المسؤول عنه وحدي، وليس لأحد محاسبة غيري عله، اجتهدت ألا اضمنه إلا الحق والصواب من العلم على قدر طاقتي واجتهادي، فإن أكن قد وفقت فيما قصدت اليه وأردته، فذلك حسبي و كفى، لا أريد عليه حمداً ولا شكرا، لأني قمت بواجب، وعملت عن شوق ورغبة وولع قديم بهذا الموضوع يرجع إلى أيام دراستي الأولى، فليس لي فضل ولا منة، وإن كان فيه حسناٌ فهو للعلماء الذين اعتمدت عليهم وأخذت منهم، وليس لي فيه غير الجمع والتأليف. وإن أخفقت فيه فذلك مبلغ علمي واجتهادي، أديته بعد تعب،لا أملك أكبر منه، وبغيتي حسن التوجيه والإرشاد وتقويم الأود، وتصحيح الأغلاظ، فالنقد العلمي الحق إنشاء وبناء، والمدح والإطراء في نظري ابعاد لطالي العلم من أمثالي عن العمل والتقدم،وسبب يؤدي إلى الخيلاء والضلال، وفوق كل ذي علم عليم.
جواد علي
الفصل الأول
تحديد لفظة العرب
نطلق لفظة "العرب" اليوم على سكّان بلاد واسعة، يكتبون ويؤلفون وينشرون ويخاطبون بالإذاعة و "التلفزيون" بلغة واحدة، نقول لها لغة العرب أو لغة الضاد أو لغة القرآن الكريم. وإن تكلموا وتفاهموا وتعاملوا فيما بينهم وفي حياتهم اليومية أدّوا ذلك بلهجات محلية متبابنة، ذلك لأن تلك اللهجات إذا أرجعت رجعت إلى أصل واحد هو اللسان العربي المذكور، وإلى ألسنة قبائل عربية قديمة، وإلى ألفاظ أعجمية دخلت تلك اللهجات بعوامل عديدة لا يدخل البحث في بيان أسبابها في نطاق هذا البحث.
و نحن إذ نطلق لفظة "عرب" و "العرب" على سكان البلاد العربية، فإنما نطلقها إطلاقاً عاماً على البدو وعلى الحضر، لا نفرق بين طائفة من الطائفتين، ولا بين بلد وبلد. نطلقها بمعنى جنسية وقومية وعلم على رسٍّ له خصائص وسمات وعلامات وتفكر يربط الحاضرين بالماضين كما يربط الماضي بالحاضر. و اللفظة بهذا المعنى وبهذا الشكل، مصطلح يرجع إلى ما قبل الإسلام،ولكنه لا يرتقي تاريخياً إلى ما قبل الميلاد، بل لا يرتقي عن الإسلام إلى عهد جدا بعيد. فأنت إذا رجعت إلى القرآن الكريم، والى حديث رسول الله، وجدت للفظة مدلولاً يختلف عن مدلولها في النصوص الجاهلية التيُ عثر عليها حتى الآن، أو في التوراة والإنجيل والتلمود وبقية كتب اليهود والنصارى وما بقي من مؤلفات يونانية ولاتينية تعود إلى ما قبل الإسلام. فهي في هذه أعراب أهل وبر، أي طائفة خاصة من العرب. أما في القرآن الكريم و في الحديث النبوي، وفي الشعر المعاصر للرسول، فإنها علَم على الطائفتين واسم للسان الذي نزل به القرآن الكريم، لسان أهل الحضر ولسان أهل الوبر على حد سواء. )ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشرٌ. لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين(، )ولو جعلناه، قرآناً أعجمياً لقالوا: لولا فصلت آياته أعجمي وعربي. قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد(.
وإذا ما سألتني عن معنى لفظة "عرب" عند علماء العربية، فإني أقول لك: إن لعلماء العربية آراء في المعنى، تجدها مسطورة في كتب اللغة وفي المعجمات. ولكنها كلها من نوع البحوث المألوفة المبنية على أقوال وآراء لا تعتمد على نصوص جاهلية ولا على دراسات عميقة مقارنة، وضعت على الحدس والتخمين، وبعد حيرة شديدة في إيجاد تعليل مقبول فقالوا ما قالوه مما هو مذكور في الموارد اللغوية المعروفة، وفي طليعتها المعجمات وكتب الأدب. وكل آرائهم في تفسير اللفظة وفي محاولة أيجاد أصلها ومعانيها، هو إسلامي، دوّن في الإسلام.
وترى علماء العربية حيارى في تعيين أول من نطق بالعربية، فبينما يذهبون إلى إن "يعرب" كان أول من أعرب في لسانه وتكلم بهذا اللسان العربي، ثم يقولون: ولذلك عرف هذا اللسان باللسان العربي، تراهم يجعلون العربية لسان أهل الجنة ولسان آدم، أي انهم يرجعون عهده إلى مبدأ الخليقة، وقد كانت الخليقة قبل خلق "يعرب" بالطبع بزمان طويل. ثم تراهم يقولون: أول من تكلم بالعربية ونَسِي لسان أبيه إسماعيل. أُلهم إسماعيل هذا اللسان،العربي إلهاماً. وكان أول من فُتق لسانه بالعربية المبينة، وهو ابن أربع عشرة سنة. و إسماعيل هو جد العرب المستعربة على حد قولهم.
والقائلون إن "يعرب" هو أول من أعرب في لسانه، وانه أول من نطق بالعربية، وان العربية إنما سميت به، فأخذت من اسمه، إنما هم القحطانيون. وهم يأتون بمختلف الروايات والأقوال لإثبات أن القحطانيين هم أول العرب، وأن لسانهم هو لسان العرب الأول، ومنهم تعلم العدنانيون العربية، ويأتون بشاهد من شعر "حسان بن ثابت" على إثبات ذلك، يقولون: إنه قاله، وان قوله هذا هو برهان على إن منشأ اللغة العربية هو من اليمن. يقولون إنه قال: تعلمتمُ من منطق الشيخ يعرب  أبينا، فصرتم معربين ذوي نفر 
و كنتم قديما ما بكم غير عجمة  كلام، و كنتم كالبهائم في القفر 
ولم يكن يخطر ببال هؤلاء إن سكان اليمن قبل الإسلام كانوا ينطقون بلهجات تختلف عن لهجة القرآن الكريم، وأن من سيأتى بعدهم سيكتشف سر "المسنَد"، ويتمكن بذلك من قراءة نصوصه والتعرف على لغته، وأن عربيته هي عربية تختلف عن هذه العربية التي ندوّن بها، حتى ذهب الأمر بعلماء العربية في الإسلام بالطبع إلى إخراج الحميرية واللهجات العربية الجنوبية الأخرى من العربية، وقصر العربية على العربية التي نزل بها القرآن الكريم، وعلى ما تفرع منها من لهجات كما سأتحدث عن ذلك فيما بعد. وهو رأي يمثل رأي العدنانيين خصوم القحطانيين.
والقائلون إن يعرب هو جدّ العربية وموجدها، عاجزون عن التوفيق بن رأيهم هذا ورأيهم في إن العربية قديمة قدم العالم، وأنها لغة آدم في الجنة، ثم هم عاجزون أيضاً عن بيان كيف كان لسان أجداد "يعرب"، وكيف اهتدى "يعرب" إلى استنباطه لهذه اللغة العربية، وكيف تمكن من إيجاده وحده لها من غير مؤازر ولا معين? إلى غير ذلك من أسئلة لم يكن يفطن لها أهل الأخبار في ذلك الزمن. وللإخباريين بعد كلام في هذا الموضوع طويل، الأشهر منه القولان المذكوران، ووفق البعض بينهما بأن قالوا: إن "يعرب" أول من نطق بمنطق العربية، و إسماعيل هو أول من نطق بالعربية الخالصة الحجازية التي أنزل عليها القرآن.
أما المستشرقون وعلماء التوراة المحدثون، فقد تتبعوا تأريخ الكلمة، وتتبعوا معناها في اللغات السامية،وبحثوا عنها في الكتابات الجاهلية وفي كتابات الآشوريين والبابليين واليونان والرومان والعبرانيين وغيرهم، فوجدوا إن أقدم نصّ وردت فيه لفظة "عرب" هو نص آشوري من أيام الملك "شلمنصر الثالث" "الثاني?" ملك آشور. وقد تبين لهم إن لفظة "عرب" لم تكن تعني عند الآشوريين ما تعنيه عندنا من معنى، بل كانوا يقصدون بها بداوة وإمارة "مشيخة" كانا تحكم في البادية المتاخمة للحدود الآشورية، كان حكمها يتوسع ويتقلص في البادية تبعاً للظروف السياسية ولقوة شخصية الأمير، وكان يحكمها أمير يلقب نفسه بلقب "ملك" يقال له "جنديبو" أي "جندب" وكانت صلاته سيئة بالآشوريين. ولما كانت الكتابة الآشورية لا تحرك المقاطع، صعُب على العلماء ضبط الكلمة، فاختلفوا في كيفية المنطق بها، فقرئت: "Aribi" و "Arubu" و "Aribu" و "Arub" و "Arai" و "Urbi" و "Arbi" إلى غير ذلك من قراءات. والظاهر إن صيغة "Urabi" كانا من الصيغ القليلة الاستعمال، ويغلب على الظن إنها استعملت في زمن متأخر، وأنها كانت بمعنى "أعراب" على نحو ما يقصد من كلمي "عُربي" و "أعربي" في لهجة أهل العراق لهذا العهد. وهي تقابل كلمة "عرب" التي هي من الكلمات المتأخرة كذلك على رأي بعض المستشرقين. وعلى كل حال فإن الآشوريين كانوا يقصدون بكلمة "عربي" على اختلاف أشكالها بداوة ومشيخة كانت تحكم في أيامهم البادية تمييزاً لها عن قبائل أخرى كانت مستقرة في تخوم البادية.
و وردت في الكتابات البابلية جملة "ماتواربي" "Matu A-Ra-bi" ، "Matu Arabaai" و معنى "ماتو" "متو" أرض، فيكون المعنى "أرض عربي" ، أي "أرض العرب" ، أو "بلاد العرب" ، أو "العربية" ، أو " بلاد الأعراب" بتعبير اصدق و أصح. إذ قصد بها البادية، و كانت تحفل بالأعراب. و جاءت في كتابة "بهستون" "بيستون" "Behistun" لدارا الكبير "داريوس" لفظة "ارباية" "عرباية" "Arabaya" و ذلك في النص الفارسي المكتوب باللغة "الأخمينية" ، و لفظة "Arpaya" "M Ar payah" في النص المكتوب بلهجة أهل السوس "Susian" "Susiana" و هي اللهجة العيلامية لغة عيلام.
ومراد البابليين أو الآشوريين أو الفرس من "العربية" أو "بلاد العرب"، البادية التي في غرب نهر الفرات الممتدة إلى تخوم بلاد الشام.
وقد ذكرت "العربية" بعد آشور وبابل وقبل مصر في نص "دارا" المذكور، فحمل ذلك بعض العلماء على إدخال طور سيناء فيَ جملة هذه الأرضين. وقد عاشت قبائل عربية عديدة في منطقة سيناء قبل الميلاد.
و بهذا المعنى أي معنى البداوة والأعرابية والجفاف والقفر، وردت اللفظة في العبرانية وفي لغات سامية أخرى. ويدل ذلك عذ أن لفظة "عرب" في تلك اللغات المتقاربة هو البداوة وحياة البادية، أي بمعنى "أعراب". وإذا راجعنا المواضع التي وردت فيها كلمة "عربي" و "عرب" في التوراة، نجدها بهذا المعنى تماماً. ففي كل المواضع التي وردت فيها في سفر "أشعياء" "Isaiah" مثلاً نرى أنها استعملت بمعنى بداوة و أعرابية، كالذي جاء فيه: "ولا يخيم هناك أعرابي" و "وحي من جهة بلاد العرب في الوعر في بلاد العرب تبيتين يا قوافل الددانيين" . فقصد بلفظة "عرب" في هذه الآية الأخيرة البادية موطن العزلة والوحشة والخطر، ولم يقصد بها قومية وعلية لمجلس معين بالمعنى المعروف المفهوم.
ولم يقصد بجملة "بلاد العرب" في الآية المذكورة والتي هي ترجمة "مسا ه -عراب" " Massa ha-Arab"، المعنى المفهوم من "بلاد العرب" في الزمن الحاضر أو في صدر الإسلام، وإنما المراد بها للبادية، التي بين بلاد الشام والعراق وهي موطن الأعراب.
وبهذا المعنى أيضاً وردت في "أرميا"، ففي الاية "وكل ملوك العرب" الواردة في الإصحاح الخامس والعشرين، تعني لفظة "العرب" "الأعرابي"، أي "عرب البادية". والمراد من "وكل ملوك العرب" و " كل رؤساء العرب" و "مشايخهم"، رؤساء قبائل ومشايخ، لا ملوك مدن وحكومات. وأما الآية: "في الطرقات جلست لهم كأعرابي في البرية"، فإنها واضحة، وهي من الآيات الواردة في "أرميا". والمراد بها أعرابي من البادية،لا حضري من أهل الحاضرة. فالمفهوم اذن من لفظة "عرب" في اصحاحات "أرميا" إنما هو البداوة والبادية والأعرابية ليس غير.
ومما يؤيد هذا الرأي ورود "ها عرابة ha'Arabah " في العبر انية، ويراد: بها ما يقال له: "وادي العربة"، أي الوادي الممتد من البحر الميت أو من بحر الجليل إلى خليج العقبة. وتعتي لفظة "برابة" في العبرانية الجفاف وحافة الصحراء وأرض محروقة، أي معاني ذات صلة بالبداوة والبادية. وقد أقامت في هذا الوادي قبائل بدوية شملتها لفظة "عرب". وفي تقارب لفظة "عرب" و "عرابة"، وتقارب معناهما، دلالة على الأصل المشترك للفظتين. ويعدّ وادي "العربة" وكذلك "طور سيناء" في بلاد العرب. و قصد ب "العربية" برية سورية في "رسالة القديس بولس إلى أهل غلاطة".
وقد عرف علماء العربية هذه الصلة بين كلمة "عرب" و "عرابة" أو "عربة"، فقالوا: "إنهم سموا عربا باسم بلدهم العربات. وقال إسحاق بن الفرج: عربة باحة العرب، وباحة دار أبي الفصاحة إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام". وقالوا:"وأقامت قريش بعربة فتنخت بها، و أنتشر سائر العرب في جزيرتها، فنسبوا كلهم إلى عربة، لأن أباهم اسماعيل، صلى الله عليه وسلم، نشأ وربى أولاده فيها فكثروا. فلما لم تحتملهم البلاد، انتشروا، وأقامت قريش بها. وقد ذهب بعضهم إلى أن عربة من تهامة، وهذا لا يخفي على كل حال وجود الصلة بين الكلمتين.
ورواية هؤلاء العلماء مأخوذة من التوارة، أخذوها من أهل الكتاب، ولا سيما من اليهود، وذلك باتصال المسلمين بهم: واستفسارهم منهم عن أمور عديدة: وردت في التوراة، ولا سيما في الأمور التي وردت مجملاً في القرآن الكريم والأمور التي تخص تأريخ العرب وصلاتهم بأهل الكتاب.
ويرى بعض علماء التوراة أن كلمة "عرب" إنما شاعت وانتشرت عند العبرانيين بعد ضعف "الاشماعيليين" "الاسماعيليين" وتدهورهم وتغلب الأعراب عليهم حتى صارت اللفظة مرادفة ضدهم لكلمة "اشماعيليين". ثم تغلبت عليهم، فضارت تشملهم، مع أن "الاشماعيليين" كانوا أعراباً كذلك، أي قبائل بدوية تتنقل من مكان إلى مكان، طلباً للمرعى ولماء. وكانا تسكن أيضاً في المناطق التي سكنها الأعراب، أي أهل البادية. ويرى أُولئك العلماء إن كلمة "عرب" لفظة متأخرة، اقتبسها العبرانيون من الآشوريين والبابليين، بدليل ورودها في النصوص الآشورية والبابلية، وهي نصوص يعود عهدها إلى ما قبل التوراة. ولشيوعها بعد لفظة "اشماعيليين"، ولأدائها المعنى ذاته المراد من اللفظة، ربط بينها وبين لفظة "اشماعيليين" ، وصارت نسباً، فصيُر جد هؤلاء العرب "إشماعيل"، وعدّوا من أبناء إسماعيل.
هذا ما يخص التوراة، أما "التلمود"، فقد قصدت بلفظة "عرب" و "عربيم" "Arbim" "عربئيم" "Arbi'im" الأعراب كذلك، أي المعنى نفسه الذي ورد في الأسفار القديمة، وجعلت لفظة "عربي" مرادفة لكلمة "إسماعيلي" في بعض المواضع.
وقبل أن أنتقل من البحث في مدلول لفظة "عرب" ضد العبرانين إلى البحث في مدلولها عند اليونان، أود أن أشر إلى أن العبرانيين كانوا إذا تحدثوا عن أهل المدر، أي الحضر ذكروهم بأسمائهم. وفي سلاسل النسب الواردة في التوراة، أمثلة كثيرة لهذا النوع، سوف أتحدث عنها.
وأول من ذكر العرب من اليونان هو "أسكيلوس، أسخيلوس" "أشيلس" "أخيلوس" "Aeschylus""، "525 - 456 قبل الميلاد" من أهل الأخبار منهم، ذكرهم في كلامه على جيش "أحشويرش" "Xeres"، وقال: انه كان في جيشه ضابط عربي من الرؤساء مشهور. ثم تلاه "هيرودوتس" شيخ المؤرخين "نحو 484 - 425 قبل الميلاد"، فتحدث في مواضيع من ناريخه عن العرب حديثاً يظهر منه انه كان على شيء من العلم بهم. وقد أطلق لفظة "Arabae" على بلاد العرب، البادية وجزيرة العرب و الأرضين الواقعة إلى الشرق من نهر النيل. فادخل "طور سيناء" وما بعدها إلى ضفاف النيل في بلاد العرب.
فلفظة "العربية" "Arabea" ضد اليونان والرومان، هي في معنى "بلاد العرب". وقد سملت جزيرة العرب وبادية الشام. وسكانها هم عرب على اختلاف لغاتهم ولهجاتهم، على سبل التغليب، لاعتقادهم إن البداوة كانت هي الغالبة على هذه الأرضين، فأطلقوها من ثم على الأرضين المذكورة.
وتدل المعلومات الواردة في كتب اليونان و اللاتين المؤلفة بعد "هيرودوتس" على تحسن وتقدم في معارفهم عن بلاد العرب، وعلى أن حدودها قد توسعت في مداركهم فشملت البادية وجزيرة العرب وطور سيناء في أغلب الأحيان،فصارت لفظة "Arabae" عندهم علماً على الأرضين المأهولة بالعرب والتي تتغلب عليها الطبيعة الصحراوية، و صارت كلمة "عربي" عندهم علماً لشخص المقيم في تلك الأرضين، من بدو ومن حضر، إلاّ أن فكرتهم عن حضر بلاد العرب لم تكن ترتفع عن فكرتهم عن البدوي، بمعنى انهم كانوا يتصورون أن العرب هم أعراب..
ووردت في جغرافية "سترابون" كلمة "أرمبي" "Erembi"، ومعناها اللغوي الدخول في الأرض أو السكنى في حفر الأرض وكهوفها، وقد أشار إلى غموض هذه الكلمة وما يقصد بها، أيقصد بها أهل "طرغلوديته" "Troglodytea" أي "سكان الكهوف" أم العرب? ولكنه ذكر أن هناك من كان يريد بها العرب، وإنها كانت تعني هذا المعنى عند بعضهم في الأيام المتقدمة، ومن الجائز أن تكون تحريفاً لكلمة "Arabi" فأصبحت بهذا الشكل.
أما الإرميون، فلم يختلفوا عن الآشوريين والبابليين في مفهوم "بلاد العرب"، أي ما يسمى ب "بادية الشام" وبادية السماوة. وهي البادية الواسعة الممتدة من نهر الفرات إلى تخوم الشام. وقد أطلقوا على القسم الشرقي من هذه البادية، وهو القسم الخاضع لنفوذ الفرس، امم "بيت عرباية" "Beth 'Arb'aya" "باعرابية" و "Ba 'Arabaya" ،ومعناها "أرض العرب". وقد استعملت هذه التسمية في المؤلفات اليونانية المتأخرة. و في هذا الاستعمال أيضا معنى الأعرابية و السكنى في البادية.
و وردت لفظة "عرب" في عدد كبير من كتابات "الحضر". و وردت مثلا في النص الذي و سم ب "79" حيث جاء في السطرين التاسع و العاشر "وبجندا دعرب" ، "و بجنود العرب". و في السطر الرابع عشر: "و بحطر و عرب" ، أي "و بالحضر و بالعرب". و وردت في النص: "193": "ملكادي عرب" ، أي "ملك العرب" و في النص "194" و في نصوص أخرى. و قد وردت اللفظة في كل هذه النصوص بمعنى "أعراب" ، و لم ترد علما على قوم و جنس، أي بالمعنى المفهوم من اللفظة في الوقت الحاضر.
هذا و ليست لدينا كتابات جاهلية من النوع الذي يقول له المستشرقون "كتابات عربية شمالية" ، فيها أسم "العرب"، غير نص واحد، هو النص الذي يعود إلى "ارء القيس بن عمرو". و قد ورد فيه: "مر القيس بر عمرو، ملك العربكله، ذو استرالتج و ملك الأسدين و نزروا و ملوكهم و هرب مذحجو...". و لو و رد لفظة "العرب" في النص الذي يعود عهده إلى سنة "328 م" شأن كبير "غير أننا لا نستطيع إن نقول: إن لفظة "العرب" هنا، يراد بها العرب بدواً و حضراً، أي يراد بها العلم على قومية، بل يظهر من النص بوضوح و جلاء انه قصد "الأعراب"، أي القبائل التي كانت تقطن البادية في تلك الأيام.
أما النصوص العربية الجنوبية، فقد وردت فيها لفظة "اعرب" بمعنى "أعراب" و لم يقصد بها قومية، أي علم لهذا الجنس المعروف، الذي يشمل كل سكان بلاد العرب من بدو و من حضر، فورد: "و اعرب ملك حضرموت" أي "و أعراب ملك حضرموت"، و ورد: " واعر ملك سبا" ، أي "و أعراب ملك سبأ". و كالذي ورد في نص "أبرهة"، نائب ملك الحبشة على اليمن. ففي كل هذه المواضع و مواضع أخرى، وردت بمعنى أعراب. أما أهل المدن و المتحضرون، فكانوا يعرفون بمدنهم أو بقبائلهم، و كانت مستقرة في الغالب. و لهذا قيل "سبأ" و "هَمْدان" و "حمْيَرْ" و قبائل أخرى، بمعنى إنها قبائل مستقرة متحضرة، تمتاز عن القبائل المتنقلة المسماة "اعرب" في النصوص العربية الجنوبية، مما يدل على أن لفظة "عرب" و "العرب" لم تكن تؤدي معنى الجنس والقومية وذلك في الكتابات العربية الجنوبية المدونة والواصلة إلينا إلى قبيل الإسلام بقليل "449 م" "542م". والرأي عندي إن العرب الجنوبيين لم يفههوا هذا المعنى من اللفظة الا بعد دخولهم في الإسلام، ووقوفهم على القرآن الكريم، وتكلمهم باللغة التي نزل بها، وذلك بفضل الإسلام بالطبع. وقد وردت لفظ "عرب" في النصوص علماً لأشخاص.
وقد عرف البدو، أي سكان البادية، بالأعراب في عربية القرآن الكريم. وقد ذكروا في مواضع من كتاب الله: وقد نعتوا فيه بعوت سيئة، تدل على أثر خلق البادية فيهم. وقد ذكر بعض العلماء ان الأعراب بادية العرب، وانهم سكان البادية.
والنص الوحيد الوحيد الذي وردت فيه لفظة "العرب" علماً على العرب جميعاً من حضر وأعراب، ونعت فيه لسانهم باللسان العربي، هو القرآن الكريم. وقد ذهب "د. ه. ملر" إلى أن القرآن الكريم هو الذي خصص الكلمة وجعلها علماً لقومية تشمل كل العرب. وهو يشك في صحة ورود كلمة "عرب" علماً لقومية في الشعر الجاهلي،كالذي ورد في شعر لامرئ القيس، وفي الأخبار المدونة في كتب الأدب على ألسنة بعض الجاهليين. ورأي "ملر" هذا، رأي ضعيف لا يستند إلى دليل، إذ كيف تعقل مخاطبة القرآن قوماً بهذا المعنى لو لم يكن لهم علم سابق به? وفي الآيات دلالة واضحة لي أن القوم كان لهم إدراك لهذا المعنى قبل الإسلام، وانهم كانوا ينعتون لسانهم باللسان العربي، وانهم كانوا يقولون للألسنة الأخرى ألسنة أعجمية: )أ أعجمي وعربي? قل: هو للذين آمنوا هدى وشفاء(. )وكذلك أنزلناه حكماً عربياً(. )وهذا كتاب مصدق لساناً عربياً لينذر الذين ظلموا(. )لسان الذي يلحدون إليه أعجمي، وهذا لسان عربي مبين(. ففي هذه الآيات وآيات أخرى غيرها دلالة على أن الجاهليين كانوا يطلقون على لسانهم لساناً عربياً، وفي ذلك دليل على وجود الحس بالقومية قبيل الإسلام.
ونحن لا نزال. نميز الأعراب عن الحضر، ونعتّدهم طبقة خاصة تختلف عن الحضر، فنطلق عليهم لفظة: "عرب" في معنى بدو وأعراب، أي بالمعنى الأصلي القديم، ونرى ان عشيرة "الرولة" وعشائر أخرى تقسم سكان الجزيرة إلى قسمين: حضر و "عرب". وتقصد بالعرب أصحاب الخيام أي المتنقلين. وتقسم العرب، أي البدو إلى "عرب القبيلة"، و "عرب الضاحية"، و هم العرب المقيمون على حافات البوادي والأرياف، أي في معنى "عرب الضاحية" و "عرب الضواحي" في اصطلاح القدامى.
ثم تقسم الحضر وتسمّيهم أيضا ب "أهل الطين" إلى "قارين"، و الواحد "قروني"،وهم المستقرون الذين لهم أماكن ثابتة ينزلونها ابدأ، وإلى "راعية" والمفرد راع، وهم أصحاب أغنام وشبه حضر، ويقال لهم "شوّاية" و "شيّان" و "شاوية" و "رحم الديرة" بحسب لغات القبائل.
وأشبه مصطلح من المصطلحات القديمة بمصطلح "شوّاية" و "شاوية"، هو "الأرحاء"، وهي القبائل التي لا تنتجع ولا تبرح مكانها، إلا أن ينتجع بعضها في البرحاء وعام الجدب.
وخلاصة ما تقدم إن لفظة "ع رب"، "عرب"، هي بمعنى التبدي و الأعرابية في كل اللغات السامية، ولم تكن نفهم إلا بهذا المعنى في أقدم النصوص التاريخية التي وصلت إلينا، وهي النصوص الآشورية. وقد عنت بها البدو عامة، مهما كان سيدهم أو رئيسهم. وبهذا المعنى استعملت عند غيرهم. ولما توسعت مدارك الأعاجم وزاد اتصالهم واحتكاكهم بالعرب وبجزيرة العرب، توسعوا في استعمال اللفظة، حتى صارت تشمل أكثر العرب على اعتبار انهم أهل بادية وان حياتهم حياة أعراب. ومن هنا غلبت عليهم وعلى بلادهم، فصارت علَمية عند أولئك ألأعاجم على بلاد العرب وعلى سكانها، وأطلق لذلك كتبة اللاتين واليونان على بلاد العرب لفظة "Arabae" "Arabia" أي "العربية" بمعنى بلاد العرب.
لقد أوقعنا هذا الاستعمال في جهل بأحوال كثير من الشعوب والقبائل،ذكرت بأسمائها دون أن يشار إلى جنسها. فحرنا في أمرها، ولم نتمكن من إدخالها في جملة العرب، لأن الموارد التي نملكها اليوم لم تنص على أصلها. فلم تكن من عادتها، ولم يكن في مصطلح ذلك اليوم كما قلت اطلاق لفظة "عرب" إلا على الأعراب عامة، وذلك عند جهل اسم القبيلة، وكانت تلك القبيلة بادية غير مستقرة،وقد رأينا إن العرب أنفسهم لم يكونوا يسمون أنفسهم قبل الميلاد، إلا بأسمائهم، ولولا وجودهم في جزيرة العرب ولولا عثورنا على كتابات أو موارد أشارت اليهم، لكان حالهم حال من ذكرنا، أي لما تمكناّ من إدخالهم في العرب. ونحن لا نستطيع أن نفعل شيئاً تجاه القبائل المذكورة، وليس لنا إلا الانتظار، فلعل الزمن يبعث نصاً يكشف عن حقيقة بعض تلك القبائل.
هذا ويلاحظ أن عدداً من القبائل العربية الضاربة في الشمال والساكنة في العراق وفي بلاد الشام، تأثرت بلغة بني إرم، فكتبت بها، كما فعل غيرهم من الناس الساكنين في هذه اللأرضين، مع انهم لم يكونوا من بني إرم. ولهذا حسبوا على بني إرم، مع أن أصلهم من جنس آخر. وفي ضمن هؤلاء قبائل عربية عديدة، ضاع أصلها، لأنها تثقفت بثقافة بني إرم، فظن لذلك إنها منهم.
الآن وقد انتهيت من تحديد معنى "عرب" وتطورها إلى قبيل الإسلام، أرى لزاماً عليّ أن أتحدث عن ألفاظ أخرى استعملت بمعنى "عرب" في عهد من العهود، وعند بعض، الشعوب. فقد استعمل اليونان كلمة "Saraceni" و "Saracenes"، واستعملها اللاتين على هذه الصورة "Saracenus"، وذلك في معنى "العرب" وأطلقوها على قبائل عربية كانت تقيم في بادية الشام وفي طور سيناء، وفي الصحراء المتصلة بأدوم. وقد توسع مدلولها بعد الميلاد، ولا سيما في القرن الرابع والخامس والسادس، فأطلقت على العرب عامة، حتى أن كتبة الكنيسة ومؤرخي هذا.العصر قلما استعملوا كلمة "عرب" في كتبهم، مستعيضين عنها بكلمة "Saraceni". وأقدم من ذكرها هو "ديوسقوريدس "Dioscurides of Anazabos" الذي عاش في القرن الأول للميلاد. وشاع استعمالها في القرون الوسطى حيث أطلقها النصارى على جميع العرب، و أحيانا على جميع المسلمين. و نجد الناس يستعملونها في الانكليزية في موضع "عرب" حتى اليوم.
و قد أطلق بعض المؤرخين من أمثال "يوسبيوس" "أويسبيوس" "Eusebius" و "هيرونيموس" "Hieronymus" هذه اللفظة على "الاشماعيلين" الذين كانوا يعيشون في البراري في "قادش" في برية "فاران"، أو مدين حيث جبل "حوريب". و قد عرفت أيضا ب "الهاجرين" "Hagerene" ثم دعيت ب "Saracenes".
و لم يتحدث أحد من الكنيسة اليونان و الرومان و السريان عن أصل لفظة "Saraceni" "Sarakenoi". و لم يلتفت العلماء إلى البحث في أصل التسمية إلا بعد النهضة العلمية الاخيرة، و لذلك اختلفت آراؤهم في التعليل، فزعم بعضهم انه مركب من "سارة" زوج إبراهيم، ولفظ آخر ربما هو "قين"، فيكون المعنى "عبيد سارة". وقال آخرون: أنه مشتق من "سرق"، فيكون المواد من كلمة "Saraceni" "سراكين" "السراقين" أو "السارقين" إشارة إلى غزوهم وكثرة سطوهم. أو من "Saraka" بمعنى "Sherk" -أي "شرق"، ويراد بذلك الأرض التي تقع إلى شرق النبط. وقال "ونكلر" أنه من لفظة "شرقو"، وتعني "سكان الصحراء" أو "أولاد الصحراء". استنتج رأيه هذا من ورود اللفظة في نص من ايام "سرجون". ويرى آخرون انه تصحيف "شرقيين"، أو "شارق" على تحو ما يفههلى من كلمة "قدموني" "Qadmoni" في التوراة، بمعنى شرقي، أو أبناء الشرق "Bene Kedem"" "Bene Qedhem". وكانت تطلق خاصة على القبائل التي رجع النسابون العبرانيون نسبها إلى "قطورة".
وقد مال إلى هذا الرأي الأخير اكثر من بحث في هذه التسمية من المستشرقين، فعندهم ان "سرسين" أو "سركين" أو "Sarakenoi" من "شرق"، وان "Bene Kedem" و "Qadmooni" العبرانيتين هما ترجمتان للفظة "Saraceni". ولهذا يرجحون هذا الرأي ويأخذون به.
والقائلون ان "سارقين" من أصل لفظتين "سارة"، زوج إبراهيم، ومن "قين" بمعنى "عبد" وان المعنى هو "عبيد سارة"، متأثرون برواية التوراة عن سارة وبالشروح الواردة عنها. وليست لأصحاب هذا الرأي أية أدلة أخرى غير هذا التشابه اللفظي الذي نلاحظه بين "سرسين" وبين "سارقين"، وهو من قبيل المصادفة والتلاعب بالألفاظ ولا شك، وغير هذه القصة الواردة في التوراة: قصة "سارة" التي لا علاقة لها بالسرسين.
هذا وما زال أهل العراق يطلقون لفظة "شروك" و "شروكية" على جماعة من العرب هم من سكان "لواء العمارة" والأهوار في الغالب، وينظرون اليهم نظرة خاصة، ولا شك عندي ان لهذه التسمية علاقة بتلث الت!سمية القديمة. ويستعمل اهل العراق في الوقت الحاضر لفظة اخرى، هي "الشرجية"، أي "الشرقية"، ويقصدون بها جهة المشرق. وتقابل لفظة "بني قديم" في العبرانية،وهي من بقايا المصطلحات العراقية القديمة التي تعبر عن مصطلح "شركوني" و "بني قديم".
هذا وقد عرف العرب ان الروم يسمونهم "ساراقينوس"، فقد ذكر "المسعودي" ان الروم إلى هذا الوقت "أي إلى وقته" تسمي العرب "ساراقينوس". وذكر خبرا طريفاً عن ملك الروم "نقفور" المعاصر ل "هارون الرشيد". فقد زعم انه "أنكر على الروم تسميتهم العرب ساراقينوس. تفسير ذلك عبيد ساره، طعناً منهم على هاجر وابنها إسماعيل، وانها كانت امةّ لسارة، وقال: تسميتهم عبيد سارة، كذب.
وقد كانت منازل "القدمونيين"، "هقدمني"، "هاقدموني" "Kadmonites"، في المناطق الشرقية لفلسطين، أي في بادية الشام. ولما كان "قيدما" "kedemeh" هو أحد أبناء إسماعيل في اصطلاح "التوراة"، فيكون أبناء "قيدما" من العرب الاسماعيليين. وقد ذكر في موضع من التوراة انهم كانوا. يقطنون المناطق الشرقية لفلسطين قرب "البحر الميت" المعروف في العبرانية ب "هايم هقدموني"، أي "البحر القدموني" "البحر الشرقي". وقد كان "القدمونيون"، أي "بنو قديم" أعراباً يقطنون في بادية الشام. وأشباه أعراب، أي رعاة وأشباه حضريين، واللفظة لا تعني قبيلة واحدة معينة، أي علمية، ولا تعني قبائل معنية، وإنما هي لفظة عامة أطلقت على الساكنين في الأماكن الشرقية بالنسبة إلى العبرانيين.
ونجد في الكتب اليونانية لفظة لها علاقة بطائفة من العرب،هي "Senitae"، وقد أطلقت خاصة على أعراب بادية الشام. وقصد بها الأعراب سكان الخيام، أي "أهل الوبر" في اصطلاح العرب. وقد ذهب بعض العلماء إلى أنها من "الخيمة" التي هي منزل الأعرابي، لأن الخيمة هي "Skene" "skynai" في اليونانية. فالمعنى إذن "سكان الخيام".
وقد ذكر "سترابون" إن ال "Scenitae" كانوا نازلين سلى حدود "سورية" الشرقية، كما ذكر إن منهم من كان ينزل شمال "العربية السعيدة" وهم سكان خيام. وقد فرّق "سترابون" بينهم وبين البدو تفريقا ظاهراً، وميزهم عن غيرهم من الأعراب بسكناهم في الخيام. وقال عنهم في موضع آخر: انهم يمثلون بصورة عامة "بدو" العراق. وانهم يعتنون بتربية الإبل. وقد ذكرهم أيضاً في أثناء كلامه على ساحل "Maranitae" فقال: انه مأهول بالفلاحين وبال "Sceniae" وأراد بهم الأعراب الذين لا يسكنون إِلا الخيام ويعيشون على تربية الإبل، وقد ذكر انهم كانوا قبائل و مشيخات.
وقد ذكرهم "بلينيوس" كذلك، فدعاهم ب "Scenitae". وقد كانوا يقيمون في البادية. وقد حاربهم "سبتيموس سفيروس"، وسأتحدث عن ذلك فيما بعد، كما أشار غيره إليهم. والظاهر إن لفظة "Nomas" "Nomadas" التي تعتي "البدو" لا تؤدي معنى "Scenitae" أي سكان الخيام. إذ فرق الكتبة اليونان في مؤلفاتهم بين اللفظتين. وأغلب ظني إن المراد بسكان الخيام الأعراب المستقرون بعض الاستقرار، آي الذين عاشوا في مضارب عيشة شبه مستقرة: لهم خيامهم وإبلهم وحيواناتهم على مقربة من الريف والحضارة. أما ال"نومادس" "Nomades" "Nomadas" فقد كانوا قبائل رحلا يعشيون في البوادي لا يستقرون في مكان واحد، متى وجدوا فرصة اغتنموها فأغاروا على من بجدونهم أمامهم، للعيش على ما يقع في أيديهم. ولذلك كانت ظروف ضعف الحكومات أو انشغالها بالحروب من أحسن الفرص المناسبة لهم. ومن هنا فرّق الكتبة اليونان وغيرهم بين الجماعتين.
إننا لا نستطيع إن تحدد الزمان الذي ظهر فيه مصطلح "سكينيته" بين اليونان واللاتين. وقد يكون ترجمة للفظة أخذوها من الفرس أو الآشوريين أو غيرهم من الشعوب. ومصطلح "أهل الوبر"، هو مصطلح يقابل جملة "سكان الخيام" في نظري. أما مصطلح "أهل بادية" أو "أعراب بادية" أو "سكان البوادي"، فانه تعبير يقابل "Nomadas" عند اليونان.
وعرف العرب عند الفرس وعند بني إرم بتسمية أخرى، هي: "Tayo" و "Taiy". أما علماء عهد التلمود من العبرانيين، فأطلقوا عليهم لفظة "ط ي ي ع ا" "طيعا" و "طيايا" "طياية"2 وأصل الكلمتين واحد على ما يظهر، أخذ من لفظة "طيء" اسم القبيلة العربية الشهرة على رأي أكثر العلماء. وكانت تنزل في البادية في الأرضين المتاخمة لحدود امبراطورية الفرس، وكانت من أقوى القبائل العربية في تلك الأيام، ولهذا صار اسمها مرادفاً لفظة. "العرب" "عرب". وقد ذكر "برديصانِ" أسم "Tayae" "Tayoye" مع "Sarakoye".
وقد شاعت هذه التسمية قرب الميلاد، و انتشرت في القرون الأولى للميلاد، كما يتبين ذلك من الموارد السريانية والموارد اليهودية.
واستعملت النصوص "الفهلوية" "Pahlawi " " لفظة "تاجك" "Tadgik" "Tachik" "Tashik" في مقابل "عرب"، كما استعملت الفارسية لفظة "تازي" بهذا المعنى أيضاً. واستعمل الأرمن كلمة "تجك" "Tashi" في معنى عرب ومسملين، واستعمل الصينيون لفظة "تشي" "Tashi" لهذه التسمية. وقد عرف سكان آسية الوسطى الذين دخلوا في الإسلام بهذه التسمية، كما أطلق الأتراك على الإيرانيين لفظة "تجك"، من تلك التسمية، حتى صارت لفظة "تجك" تعني "الإيراني" في اللغة التركية.
ويرى بعض العلماء إن "تاجك" و "تجك" و "تازك"، هي من الأصل المتقدم. من أصل لفظة "طيء"3 ولكلمة "تازي" في الفارسية معنى "صحراوي"، من "تاز" "taz"، بمعنى الأرض المقفرة الخالية،ولذلك نسب بعض الباحثين كلمة "تازي" إلى هذا المعنى، فقالوا إنها أطلقت على العرب لما اشتهر عنهم أنهم صحراويون.
وقد زعم "حمزة الأصفهاني" إن الفرس أطلقوا على العرب لفظة "تاجيان"، نسبة إلى "تاج بن فروان بن سيامك بن مشى بن كيومرث"، وهو جد العرب.
وبعض هذه التسميات المذكورة، لا يزال حياً مستعملا"، ولكنه لم يبلغ مبلغ لفظة "عرب" و "العرب" في الشهرة و الانتشار. فقد صارت لفظة "عرب"، علماً على قومية وجنس معلوم، له موطن معلوم، وله لسان خاص به يميزه عن سائر الألسنة ، من بعد الميلاد حتى اليوم. وقد وسع الإسلام رقعة بلاد العرب، كما وسع مجال اللغة العربية، حتى صارت بفضله لغة عالمية خالدة ذات رسالة كبيرة، غمرت بفضل الإسلام بعض اللغات مثل الفارسية والتركية والأردية ولغات أخرى، فزودتها بمادة غزيرة من الألفاظ، دخلت حتى صارت جزءاً من تلك اللغات، يظن الجاهل إنها منها لاستعماله لها، ولكنها في الواقع من أصل عربي.
وربّ سائل يقول:لقد كان للعرب قبل الإسلام لغات، مثل المعينية والسبئية و الحمرية والصفوية والثمودية واللحيانية وأمثالها، اختلفت عن عربية القرآن الكريم اختلاقاً كبيرا، حتى إن أحدنا إذا قرأ نصاً مدوناً بلغة من تلك اللغات عجز عن فهمه، وظن إذا لم يكن له علم بلغات العرب الجاهليين أنه لغة من لغات البرابرة أو الأعاجم، فإذا سيكون موقفنا من أصحاب هذه اللغات، أنعدهم عرباً? والجواب إن هؤلاء، وإن اختلفت لغتهم عن لغتنا وباينت ألسنتهم ألست فإنهم عرب لحماً ودماً، ولدوا ونشأوا في بلاد العرب، لم يرسوا إليها من الخارج، ولم يكونوا طارئين عليها من أمة غريبة. فهم إذن عرب مثل غيرهم، و لغات العرب هيّ لغات عربية، وإن اختلفت وتباينت، وما اللغة التي نزل القرآن الكريم إلا لغة واحدة من تلك اللغات، ميزت من غيرها، واكتسبت شرف التقدم والتصدر بفضل الإسلام، وبفضل نزول الكتاب بها، فص "اللغة العربية الفصحى" ولغة العرب أجمعين.
وحكمنا هذا ينطبق على النبط أيضا وعلى من كان على شاكلتهم، عدهم علماء النسب والتاريخ واللغة والأخبار من غير العرب، وأبعدوهم العرب والعربية،فقد كان أولئك وهؤلاء عرباً أيضاً، مثل عرب اليمن المذكورين ومثل ثمود والصفويين واللحيانيين، لهم لهجاتهم الخاصة ؛ وإن تأثروا بالإرمية وكتبوا بها، فقد تكلم اليهود بالإرمية ونسي كثير منهم العبرانية، ولكن نسيا أولئك اليهود العبرانية، لم يخرجهم مع ذلك عن العبرانيين.
وسترد في بحثنا عن تاريخ الجاهلية أسماء قبائل عربية كثيرة عديدة لا عهد للإسلاميين بها، ولا علم لهم عنها، ذكروا في التوراة وفى كتب اليهود الأخرى وفي الموارد اللاتيننة واليوناينة والِكتابات الجاهلية. وإذا جاز لأحد الشك في أصل بعض القبائل المذكورة في كتب اليهود أو في مؤلفات الكتبة "الكلاسيكيين" على اعتبار أفها أخطأت في إدخالها في جماعة العرب، فإن هذا الجواز يسقط حتماً بالنسبة إلى القبائل المذكورة في الكتابات الجاهلية، وبالنسبة إلى القبائل الني دونت تلك الكتابات. فهي كتابات عربية، وإن اختلفت عن عربيتنا وباينت لغتها لغتنا، لأنها لهجة قوم عاشوا في بلاد العرب ونبتوا فيها، وقد كان لسانهم هذا اللسان العربي المكتوب.
فسبيلنا في هذا الكتاب إذن، هو البحث في كل العرب: العرب الذين تعارف العلماء الإسلاميون على اعتبارهم عرباً، فمنحوهم شهادة العروبة، بحسب طريقتهم في تقسيمهم إلى طبقات، وفي وضعهم في أشجار نسب ومخططات؛ والعرب المجهولين الذين لم يمنحوا هذه الشهادة بل حرموا منها، ونص على إخراجهم من العرب كالنبط على ما ذكرت، والعرب المجهولين كل الجهل الذين لم يكن للمسلمين علم ما بهم، ولم يكن لهم علم حتى بأسمائهم. سنتحدث عن هؤلاء جميعاً، عند اعتبار أنهم عرب، جهلهم العرب، لأنم عاشوا قبل الإسلام،أو لأنهم عاشوا في بقاع معزولة نائية، فلم يصل خبرهم إلى الإسلاميين، فلما شرع المسلمون في التدوين، لم يعرفوا عنهم شيئاً، فأُهملوا، ونسوا مع كثير غيرهم من المنسيين.
سئل أحد علماء العربية عن لسان حمير، فقال: ما لسان حمير وأقاصي اليمن بلساننا ولا عربيتهم بعربيتنا . ولكن علماء العربية لم يتنصلوا من عروبة حمير، ولا من عروبة غيرهم ممن كان يتكلم بلسان آخر مخالف للساننا، بل عدوهم من صميم العرب ومن لبّها، ونحن هنا لا نستطيع إن ننكر على الأقوام العربية المنسية عروبتها، لمجرد اختلاف لسانها عن لساننا، ووصول كتابات منها مكتوبة بلغة لا نفهمها. فلغتها هي لغة عربية، ما في ذلك شك ولا شبهة، وإن اختلفت عن لسان يعرب أو أي جدّ آخر يزعم أهل الأخبار أنه كان أول من أعرب في لسهانه، فتكلم بهذه العربية التي أخذت تسميتها من ذلك الإعراب.
وبعد إن عرفنا معنى لفظة العرب والألفاظ المرادفة لها، أقول إن بلاد العرب أو "العربية"، هي البوادي والفلوات الني أطلق الآشوريون ومن جاء بعدهم على أهلها لفظة "الأعراب"، وعلى باديتهم "Arabeae" و "Arabae" وما شاكل ذلك. وهي جزيرة العرب وامتدادها الذي يكون بادية الشام حتى نهايتها عند اقتراب الفرات من أرض بلاد الشام، فالفرات هو حدها الشرقي. أما حدها الغربي، فارض الحضر في بلاد الشام. وتدخل في العربية بادية فلسطين و "طور سيناء" إلى شواطئ النيل. وقد أطلق بعض الكتاب اليونان على الأرضين الواقعة شرق ال "Araxe"، أي الخابور اسم "Arabia" كما أدخل "هيرودوتس" أرض طور سيناء إلى شواطئ نهر النيل في "العربية" "Arabia"أي بلاد العرب.
أما الآن، وقد عرفنا لفظة عرب، و كيف تحددت، وتطورت، أرى لزاماً علينا الدخول في صلب موضوعنا وهو تاريخ العرب، مبتدئين بمقدمة عن الجاهية وعن المواود التي استقينا منها أخبارها،. ثم بمقدمات عن جزيرة العرب وعن صبيعتها وعن الساميين وعقليتهم وعن العقلية العربية، تليها بحوث في أنساب العرب، ثم ندخل بعد ذلك في التاريخ السياسي للعرب، ثم بقية أقسام تاريخ العرب من حضارة ومدنية ودينية واجتماعية ولغوية.
ولما كان الإسلام أعظم حادث نجم على الإطلاق في تاريخ العرب، أخرجهم من بلادهم إلى بلاد أخرى واسعة فسيحة، وميزهم أمة تؤثر تأثيراً خطيراً في حياة الناس.. صار ظهوره نهاية لدور ومبدأً لتاريخ دور، ونهاية أيام عرفت ب "الجاهلية"، وبداية عهد عرف ب "الإسلام" ما زال قائماً مستمراً، وسيستمر إلى ما شاء الله، به أُرخ تاريخ العرب، فما وقع قبل الإسلام،عرف بتاريخ العرب قبل الإسلام، وما وقع بعده قيل له: تاريخ العرب بعد الإسلام.
وسيكون بحثنا هنا، أعني في هذه الأجزاء المتتالية في القسم الأول من تاريخ العرب، وهو قسم تاريخ العرب قبل الإسلام، أما القسم الثاني، وهو تاريخ العرب في الإسلام، فستأتي أجزاؤه بالتتالي أبضا بعد الانتهاء من هنا للقسم.
وبعد هذه المقدمة، فلنطوِ صفحات هذأ الفصل، ولننتقل إلى فصل جديد، هو الفصل الثاني من هذه الفصول، فصل: الجاهلية ومصادر التاريخ الجاهلي.
الفصل الثاني
الجاهلية و مصادر التاريخ الجاهلي
******
لقراءة المزيد يمكنكم تنزيل الكتاب

****