للتحميل والقراءة ، كتاب : موسوعة الحروب الصليبية (2) عصر الدولة الزنكية، ونجاح المشروع الإسلامي بقيادة نور الدين محمود الشهيد في مقاومة التغلغل الباطني والغزو الصليبي
د. علي محمد محمد الصَّلاَّبي

zinkyun.jpg 

رابط تحميل الكتاب

اضغط هنا 

فهرس الكتاب

المقدمة 3
الفصل الأول : ظهور عماد الدين زنكي على مسرح الأحداث 21
المبحث الأول : أصول الأسرة الزنكية 21
أولاً : مكانة آق سنقر عند السلطان ملكشاه 21
ثانياً : سياسة آق سنقر في حلب الداخلية 22
ثالثاً : سياسته الخارجية 25
رابعاً : نشأة عماد الدين زنكي وأسرته 30

المبحث الثاني : تطور شخصية عماد الدين القيادية  33
أولاً : بزوغ نجمه السياسي 33

ثانياً : دور الفقهاء في تعيين عماد الدين على الموصل 39
1- مكان القاضي بهاء الدين الشهرزوري عند عماد الدين  41
2- أتابكيَّة الموصل 41
ثالثاً : أهم صفاته :  41

1- شجاعته 42
2- هيبته 43
3- ذو دهاء ومكر وحيلة 44
4- ذكاؤه 44
5- يقظته وحذره 45
6- قدرته على اختيار الأكفاء من الرجال 46
7- تقديره للرجال 47
8- غيرته 47
9- عدله 48
10- عبادته 49
- شبهات حول شخصية عماد الدين 50
- هواياته 51

رابعاً : سياسته الداخلية  53
1- نيابة الموصل أو محافظة القلعة 53
2- الوزارة 56
3- الموظفون ونظام التوظيف 58
4- الدواوين 61
5- الأمن الداخلي والأعمار 61
6- سياسة الترحيل 63

خامساً : النظم العسكرية عند عماد الدين 64
1- الجيش 64
2- نظام الإقطاع العسكري 74
3- نظام الإعداد القيادي 79
أ- محاولة انقلابية في الموصل 80
ب- دور العلماء في تثبيت عماد الدين 80
ج- سياسة عماد الدين مع الملك الآخر ألب أرسلان 81

المبحث الثالث : علاقة عماد الدين زنكي بالخلافة العباسية والسلطنة السلجوقية. 82
أولاً : محاولة عزل عماد الدين عن الموصل  82
ثانياً : صراع البيت السلجوقي على السلطنة بعد وفاة السلطان محمود 84
ثالثاً : موقف السلطان سنجر من الأحداث  85
رابعاً : محاصرة الموصل  86
خامساً : التوتر بين عماد الدين والسلطان مسعود  87
سادساً : مصالحة عماد الدين زنكي للسلطان مسعود 89
المبحث الرابع : توسع عماد الدين في شمال بلاد الشام وإقليم الجزيرة 91
أولاً : جزيرة ابن عمر  92
ثانياً : حلب 92
ثالثاً : سنجار والخابور وحّران وإربل والرقة  94
رابعاً : علاقة عماد الدين زنكي بالأكراد  96
خامساً : عماد الدين والإمارات المحلية في ديار بكر  100
سادساً : عماد الدين زنكي وأمراء دمشق  107

المبحث الخامس : جهاده ضد الصليبيين  116
أولاً : حال المسلمين والصليبيين قبل عماد الدين 116
ثانياً : سياسة عماد الدين زنكي الصليبيين 117
ثالثاً : مشكلة الوراثة الأنطاكية 118
رابعاً : فتح الأثارب 118
خامساً : حصن بعرين أو بارين 119
1- الشاعر ابن القيسراني يخلد انتصار عماد الدين في بارين  121
2- ابن منير الطرابلس يمدح عماد الدين في بارين  124

سادساً : الأمير الأمبراطور البيزنطي يغزو بلاد الشام  126
1- ظروف قيام الحملة 126
2- السيطرة في كليكية وأنطاكية 127
3- زحف الحملة على حلب 127
4- مناصرة عماد الدين زنكي لبني منقذ في شيزر 129
5- النتائج التي أسفرت عن فشل حملة المسيحيين 136

سابعاً : فتح الرها 138
1- أوضاع إمارة الرها الداخلية 140
2- عمليات الفتح 140
3- سياسة عماد الدين زنكي في الرها 142
4- العوامل التي ساعدت عماد الدين على استعادة الرها  142
5- موقف الفقيه موسى الأرمني في فتح الرها وماذا جرى في صقلية 143
6- نتائج الرها 145
7- رأى المستشرق جون لامونت في عماد الدين  147
8- مدح الشعراء لعماد الدين عند فتح الرها 150

ثامناً : الأحداث العسكرية فتح الرها 156
تاسعاً : من أساليب عماد الدين زنكي في محاربة الصليبيين  157
عاشراً : حصيلة الدور السياسي العسكري الذي لعبه عماد الدين على مسرح التاريخ الإسلامي 160

الحادي عشر : الأيام الأخيرة من حياة عماد الدين زنكي  162
1- تهنئة عماد الدين بالشفاء من مرض عرض له  162
2- مقتله 164
3- ما قيل في مقتل عماد الدين زنكي من شعر  167
4- فوائد متنوعة في عهد إمارة عماد الدين زنكي 169

الفصل الثاني : عهد نور الدين زنكي وسياسته الخارجية 173
المبحث الأول : اسمه ونسبه وأسرته وتوليه الحكم  173
أولاً : انقسام الدولة الزنكية بعد مقتل عماد الدين زنكي  175
ثانياً : ترتيب أوضاع البيت الزنكي 176

المبحث الثاني : أهم صفات نور الدين زنكي 182
أولاً : الجدية والذكاء المتوقد  182
ثانياً : الشعور بالمسؤولية 184
ثالثاً : قدرته على مواجهة المشاكل والأحداث 186
رابعاً : نزعته للبناء والأعمار 187
خامساً : قوة الشخصية 189
سادساً : محبة المسلمين له 190
سابعاً : الليقة البدنية العالية 192
ثامناً : تجرده وزهده الكبير 195
تاسعاً : شجاعته 200
عاشراً : مفهومه للتوحيد وتضرعه ودعاؤه  202
الحادي عشر : محبته للجهاد والشهادة 204
الثاني عشر : عبادته  206
الثالث عشر : إنفاقه وكرمه 207

المبحث الثالث : أهم معالم التحديد والإصلاح في دولة نور الدين 214
أولاً : الحرص على تطبيق الشريعة 216
ثانياً : بناء دولة العقيدة  على أصول أهل السنة  221
1- جهود نور الدين في حلب 222
أ- الاهتمام بالمذهب الشافعي في حلب 223
ب- الاستفادة من جهود علماء السنة 224
ج- دعم التصوف السني 224
د- دور تدريس الحديث  225
س- موقف الشيعة حلب من حركة الإحياء السنية  225
2- جهود نور الدين في الإحياء السني في دمشق 227
3- دور نور الدين في إعادة مصر إلى المعسكر السني  229
4- عوامل نجاح نور الدين في تحقيق برنامجه الإصلاحي  233

ثالثاً : العدل في دولة نور الدين محمود زنكي 234
1- دار العدل أو المحكمة العليا 236
2- استجابته للقضاء 238
3- لا عقوبة على الظنة والتهمة  239
4- من عدله بعد موته 239
5- رقبتي دقيقة لا أطيق حمله والمخاصمة عليه بين يدي الله تعالى 239
6- رجال القضاء في دولة نور الدين 240
أ- القاضي كمال الدين الشهرزوري 240
ب- الشيخ شرف الدين ابن أبي عصرون 241
7- رفع الضرائب والمكوس 242
8- ما قيل من الشعر في عدله 246

رابعاً : مكانة العلماء في دولة نور الدين محمود 249
1- تقديمه للعلماء على الأمراء  251
2- البذل والعطاء للعلماء 251
3- اهتمامه بعلماء المدارس النظامية  252
4- ابتعاد نور الدين عن التعصب 257
5- أثر العلماء في دولة نور الدين 259
أ- الجهاد ضد الصليبيين 259
ب- السفارات بين الدولة 259
ج- تولى بعض المناصب المهمة في الدولة 260

خامساً : الشورى في دولة نور الدين محمود 261
1- الشورى في القضايا العامة 262
2- مجالس متخصصة 262
3- فراسته في معرفة العلماء  264

المبحث الرابع : النظام الإداري عند نور الدين  266
أولاً : حسن اختياره للرجال 266
1- أسد الدين شيركوه وبنو أيوب  266
2- مجد الدين ابن الداية وأخوته 267
3- العماد الأصفهاني 269
4- خالد بن محمد القيسراني 270
5- محمد العمادي 271
6- الشيخ الأمير مخلص الدين أبو البركات  271
7- أبو سالم بن همام الحلبي 271

ثانياً : أهم الإدارات والوظائف في دولة نور الدين  272
1- النائب 272
2- الوزير 272
3- المستوفي 273
4- الأمير الحاجب 273
5- الوالي 274
6- الشحنة 274
7- القاضي 275

ثالثاً : صبغ الإدارة الزنكية بالصبغة الإسلامية وتكامل القيادات السياسية والفكرية 276
1- تكامل القيادات الفكرية والسياسية 276
2- اعتماد الشورى وعدم الانفراد باتخاذ القرارات 277
3- غلبة المصلحة العامة على الانفعالات والمصالح الشخصية 277
4- التفاني في أداء الواجب بتعاون وتآخ 277
5- الزهد والتعفف وبذل المال في الصالح العام 278
6- توفر الأمن والعدل واحترام الحرمات العامة  279

المبحث الخامس : النظام الاقتصادي والخدمات الاجتماعية  280
أولاً : مصادر دخل دولة نور الدين وسياسته الاقتصادية  280
1- نظام القطاع الحربي 281
2- الزكاة والخراج والجزية 284
3- الغنائم وفداء الأسرى 284
4- الأموال العظيمة التي خلفها أبوه عماد الدين 285
5- الأمانة العظيمة التي تميز بها نور الدين وحكومته الرشيدة 285
6- سيادة الأمن والاستقرار الداخلي 287
7- مساهمة الأثرياء 287
8- المعاهدات والاتفاقات 288
9- دعم الخليفة العباسي 288
10- سياسته الزراعية 288
11- المجال الصناعي 289
12- القطاع الصناعي 290
13- إلغاء الضرائب 295

ثانياً : سياسة الإنفاق في الخدمات الاجتماعية 301
1- المجال الصحي (المستشفيات) 302
2- المساجد 306
3- المدارس 312
4- دور الحديث 323
5- الخوانق والبرط 326
6- الكتاتيب 331
7- المكتبات 332
8- الإنفاق على الأيتام والأرامل 332
9- الإنفاق على الحصون والخانات (المجال العمراني) 333
10- فك الأسرى 335

المبحث السادس : أهمية التربية والتعليم في النهوض الحضاري  340
أولاً : فئات المدرسين في الدولة الزنكية 343
1- معلموا الكتاتيب 343
2- المدرسون 344
3- المعيدون 345

ثانياً : فئات الطلاب 345
1- طلاب المرحلة الأولى  345
2- طلاب المرحلة العليا 347
3- تعليم الإناث 350
4- أساليب التقويم 352

ثالثاً : ميادين العلوم في العهد الزنكي 352
1- العلوم الشرعية  353
أ- علم القرآن 353
ب- علم التفسير 354
ج- الحديث 355
ح- الفقه وأصوله 356
2- العلوم التاريخية والجغرافية 360
3- علوم الرياضيات والفلك 365
4- علوم الطب والصيدلة 367

رابعاً : ابن عساكر ودوره في الجهاد ضد الصليبيين  369
1- مساندته الفكرية والعقائدية لنور الدين محمود 371
2- تأليف ابن عساكر فضائل المدن 374
3- ابن عساكر يحث نور الدين على مواصلة الجهاد  375
4- وفاة ابن عساكر 377

المبحث السابع : الإمام عبد القادر الجيلاني وجهوده في الدعوة الشعبية والإصلاح العام : 378
- الدعوة الشعبية والإصلاح العام 378
أولاً : اسمه ونسبه ورحلاته في طلب العلم وشيوخه  379
ثانياً : منهجه في توضيح العقيدة 384
1- عرضه للعقيدة بأسلوب بيان بليغ سهل العبارة 384
2- حرصه على عدم الخروج عن مدلول الآيات القرآنية والأحاديث النبوية 384
3- يذكر الشيخ عبد القادر باستمرار أن عقيدته عقيدة السلف 384
4- رفض تأويل المتكلمين 385
5- الإمساك عما لم يرد ذكره في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم 385
6- إعراضه عن علم الكلام 385

ثالثاً : من آراء الشيخ عبد القادر الجيلاني الاعتقادية 385
1- الإيمان 385
2- حكم مرتكب الكبيرة 386
3- توحيد الربوبية 387
4- توحيد الألوهية 387
5- شروط قبول العبادة 388
6- من أنواع العبادة 389
أ- الدعاء 389
ب- الدعاء 389
ج- الخوف والرجاء 390
س- ما ينقض التوحيد  391
7- توحيد الأسماء والصفات 391
أ- الصفات الذاتية 392
ب- الصفات الفعلية 393
8- عقيدة الشيخ عبد القادر الجيلاني في القرآن الكريم  395
9- رؤية الله عز وجل عند الشيخ عبد القادر الجيلاني 395
10- القضاء والقدر عند الشيخ عبد القادر الجيلاني 396
11- عذاب القبر وسؤال منكر ونكير 396
12- الشفاعة 396
13- الحوض  397
14- الصراط 397
15- الميزان  397

رابعاً : البدعة وموقف الشيخ عبد القادر منها :  398
1- أهمية الاعتصام بالكتاب والسنة 395
2- ذم البدع والتحذير منها 398
3- طاعة أولى الأمر 400

خامساً : مفهوم التصوف عند الشيخ عبد القادر الجيلاني  400
1- تعريف التصوف عند الشيخ 400
2- العوامل التي أدت إلى تصوفه 402
3- موقفه من العلم والعمل 403

سادساً : آداب الشيخ والمريد والصحبة عند عبد القادر الجيلاني :  406
1- واجبات المريد 406
2- آداب المريد مع الشيخ 407
3- الآداب المتعلقة بالشيخ تجاه مريده 408
4- الشكر  416
5- الصبر 417
6- الرضا 418
7- الصدق 418

ثامناً : تأسيس الطريقة القادرية 420
1- التأكيد على التمسك بالكتاب والسنة 420
2- خلوص طريقته من الأفكار والفلسفات التي كانت سائدة في عصره 421
3- تركيزه على الاهتمام بالجوانب العملية 421
4- وضعه لمجموعة من الآداب والتعاليم 421
5- تأكيده على وجوب تعظيم أوامر الله سبحانه وامتثالها 421

تاسعاً : الخطوط العريضة للدعوة الإصلاحية  422
1- اعتماد التعليم المنظم والتربية الروحية المنظمة 423
أ- الإعداد الديني والثقافي 424
ب- الإعداد الروحي 425
ج- الإعداد الاجتماعي 425
2- الوعظ وموضوعاته 426
أ- انتقاد العلماء 427
ب- انتقاد الحكام 428
ج- انتقاده للأخلاق الاجتماعية السلبية في عهده 429
س- الدعوة لإنصاف الفقراء والعامة 429
3- التصدي للتطرف الشيعي الباطني وللتيارات الفكرية المنحرفة 430
4- إصلاح التصوف 432
أ- تنقية التصوف مما طرأ عليه  432
ب-  الحملة على المتطرفين من الصوفية  432
ج- محاولة التنسيق بين الفرق الصوفية وإيجاد التآلف بينها 433
5- النهوض بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر 434
6- التعاون بين مدارس الإصلاح والدولة الزنكية  440
أ- الإسهام في إعداد أبناء النازحين من مناطق الاحتلال الصليبي 440
ب- هجرة العلماء والعمل في المدارس النورية 441
ج- المشاركة في الجيش والجهاد العسكري 441
س- المشاركة في ميادين السياسة  442
8- صفاته ووفاته 442
الفصل الثالث : سياسة نور الدين الخارجية  446
المبحث الأول : علاقته مع الخلافة العباسية  446
أولاً : الخليفة المقتفي لأمر الله 446
1- سياسته الحكيمة 447
2- وفاة الخليفة المقتفي لأمر الله 448

ثانياً : الوزير يحي بن هبيرة  448
1- سعيه لتقوية مؤسسة الخلافة  449
2- خوفه من ظلم العباد  450
3- جهوده في خدمة العلم والعلماء 451
4- تواصله مع نور الدين زنكي 452
5- وفاته وهو ساجد 452
ثالثاً : الخليفة المستنجد بالله 453
رابعاً : الخليفة المستضيء بالله 455
خامساً : تعاون نور الدين محمود مع الخلفاء العباسيين  456
1- الصعيد السياسي  457
2- الصعيد العسكري 460
3- الصعيد الاقتصادي 460
4- الصعيد الثقافي والمذهبي 462

المبحث الثاني : تصدي نور الدين محمود للحملة الصليبية الثانية وسياسته في ضم دمشق 463
أولاً : القضاء على تمرد ثورة الرهاويين  464
ثانياً : الحملة الصليبية الثانية 468
1- السلاجقة في آسيا الصغرى يقضون على الجيش الألماني 469
2- سلاجقة الروم يعرقلون تقدم الجيش الفرنسي 470
3- الهجوم الصليبي على دمشق 471
4- موقف رجال الدين المسيحي من الحملة الصليبية الثانية  472
5- انتصار دمشق على الحملة الصليبية الثانية  474
6- مشاركة فقهاء المغاربة للدفاع عن دمشق 475
7- ما قيل من شعر 476

ثالثاً : نتائج الحملة الصليبية الثانية 476
رابعاً : سياسة نور الدين في ضم دمشق 479
خامساً : أهم نتائج ضم دمشق  483

المبحث الثالث : العلاقات مع القوى الإسلامية في بلاد الشام والجزيرة والأناضول :  485
أولاً : الأسر الحاكمة في المدن والبقاع الشمالية في بلاد الشام  485
1- العلاقة مع شيزر  486
2- الأسرة الجندلية في بعلبك  487
3- ضم حرّان  488
4- منبج 489
5- فتح قلعة جعبر 490

ثانياً : ضم الموصل  492
1- رؤية نور الدين لرسول الله في الموصل وبعض الرؤيا الأخرى  495
2- بشرى لنور الدين من رسول الله 495
3- رؤية نور الدين المتعلقة بالقبر الشريف 496

ثالثاً : سياسة نور الدين مع سلاجقة الروم  498

المبحث الرابع : سياسة الدولة النورية تجاه القوى المسيحية  500
أولاً : العلاقات مع مملكة بيت المقدس 500
1- المشكلة الحورانية 502
2- الحملة الصليبية الثانية  503
3- سقوط عسقلان 503
4- معركة بانياس 505
5- اتفاقيات وهدنة قصيرة 507
6- الرصيد الأخلاقي في قتال نور الدين للأعداء 509

ثانياً : العلاقات مع الإمارات الصليبية 510
1- إمارة الرها 510
2- إمارة أنطاكية 513
أ- معركة يعرى 513
ب- معركة انب 514
ج- الاستيلاء على أفامية 516
س- حصار حارم 517
ش- معركة حارم 518
3- إمارة طرابلس  520
أ- حصن أنطرسوس 520
ب- حصن الأكراد  521
ج- فتح حصن المنيطرة وبعض الحصون  523

ثالثاً : العلاقات النورية، البيزنطية 524
1- تجديد التحالف بين مملكة بيت المقدس والأمبراطورية البيزنطية  525
2- مانويل يغزو كيلكية 526
3- مانويل في أنطاكية 527
4- مانويل في بلاد الشام 527

رابعاً : أهم الدروس والعبر والفوائد  529
1- التفكير الاستراتجي عند نور الدين  529
2- أهمية صلاح أولي الأمر  532
3- الاستفادة من المسيحيين  533
4- شن حرب استنزاف مستمرة ضد الفرنج 534
5- اعتماد اللين والمرونة والخدعة لتحقيق مالا يمكن تحقيقه بالقوة  536
6- الاستراتيجية العسكرية لنور الدين  537
- التركيز على النوعية والفاعلية 537
أ- إعلان الجهاد (التعبئة العامة للأمة) 538
ب- التدرج في مواجهة العدو 539
ج- انهاك العدو واستنزاف قوته  539
7- تطبيق نور الدين لمباديء الحرب الأساسية 540
أ- تحديد الهدف 540
ب- العمل التعرضي 540
ج- الحشد  540
د- المناورة : قابلية الحركة 541
ﻫ- وحدة العقيدة 542
س- عنصر المفاجأة  542
ر- الخديعة 542
ز- الاستخبارات 543
ط- التقرب غير المباشر 544
ي- الجاهزية القتالية 545
8- الحرب النفسية عند نور الدين 546
9- الإنجازات العسكرية 546
10- التشابه في الأسباب بين الغزو الفرنجي والصهوني 547
11- التشابه في الأهداف بين الغزو الصليبي والاحتلال الصهيوني  548
12- التشابه في الأساليب بين الغزو الصليبي والاحتلال الصهيوني 549
أ- الاعتماد على المساعدة الخارجية 550
ب- الهجرة والاستيطان  551
ج- تضليل الرأى العام وخداعه  551
ح- الإرهاب والعنف 551

المبحث الخامس : فقه نور الدين في التعامل مع الدولة الفاطمية  553
أولاً : جذور الشيعة الإسماعيلية والدولة الفاطمية  553
1- عبيد الله المهدي الخليفة الشيعي الرافضي الأول  554
2- من جرائم العبيديين في الشمال الإفريقي الأول 555
أ- غلو بعض دعاتهم في عبيد الله المهدي 555
ب- التسلط والجور 556
ت- تحريم الافتاء على مذهب الإمام مالك  557
ث- إبطال بعض السنن المتواترة والمشهورة 557
ج- منع التجمعات  558
ح- إتلاف مصنفات أهل السنة 558
خ- منع علماء أهل السنة من التدريس  558
س- عطلوا الشرائع وأسقطو الفرائض  558
ش- إجبار الناس على الفطر قبل رؤية الهلال 559
ع- إزالة آثار خلفاء السنة 559
ل- دخول خيولهم المساجد  559
3- أساليب المغاربة في مواجهة الدولة الفاطمية العبيد  560
أ- المقاومة السلبية 560
ب- المقاومة الجدلية 561
- التفاضل بين أبي بكر وعلي رضي الله عنهما 562
- موالاة علي رضي الله عنه 563
ج- المقاومة المسلحة 563
ح- المقاومة عبر التأليف 565
خ- مقاومة شعراء أهل السنة 566
4- المعز لدين الله الفاطمي ودخوله مصر 568
5- زوال الدولة الفاطمية من شمال إفريقيا 570
6- جهود السلاجقة في حماية العراق من التشيع الرافضي الباطني 571
7- المدارس النظامية ودورها في الأحياء السني والتصدي للفكر الشيعي الرافضي 574


ثانياً : الحملات العسكرية على مصر  577
1- دوافع فتح مصر عند نور الدين  581
2- الحملة النورية الأولى 559ﻫ 582
3- الحملة النورية الثانية 562ﻫ 584
أ- حملة عموري الثالثة على مصر والمفاوضات الصليبية الفاطمية  587
ب- معركة البابين  587
ج- حصار الإسكندرية 589
س- المفاوضات النورية - الصليبية بشأن الجلاء عن مصر 589
4- الحملة النورية الثالثة على مصر : عام 564ﻫ 591
أ- العاضد يستنجد بنور الدين محمود 591
ب- أسد الدين شيركوه يزحف إلى مصر ويدخل القاهرة  591
ج- مقتل شاور  592
ر- تولي أسد الدين الوزارة للعاضد 592

ثالثاً : وزارة صلاح الدين في مصر والمهام التي أنجزها  593
1- مؤامرة مؤتمن الخلافة 593
2- وقعة السُّودان 594
3- القضاء على الأرمن 595
4- اهتمام صلاح الدين بتقوية جيوشه 596

رابعاً : التصدي للحملة الصليبية البيزنطية وحصار دمياط 597
1- أسباب فشل الحملة على دمياط 597
2- نتائج الحملة على دمياط 599
3- وصول نجم الدين أيوب إلى مصر 600

خامساً : إلغاء الخلافة الفاطمية العبيدية 602
1- التدرج في إلغاء الخطبة للخليفة الفاطمي 603
2- وفاة العاضد  605
3- فرح المسلمون بزوال الدولة الفاطمية 605
4- اعتبار واتعاظ من زوال الفاطميين من مصر 606

سادساً : القضاء على محاولة انقلابية وإعادة الدولة الفاطمية  607
1- عمارة بن علي اليمني الشاعر 612
2- حصار الإسكندرية 614

سابعاً : الوسائل التي اتخذها صلاح الدين للقضاء على المذهب والتراث الفاطمي 616
1- إذلال الخليفة الفاطمي العاضد 616
2- وضعه من مكانة قصر الخلافة الفاطمي 617
3- قطع الخطبة الجامعة من الجامع الأزهر، وإبطال تدريس الفكر الفاطمي به  617
4- إتلاف وحرق الكتب الشيعية الإسماعيلية 618
5- ألغى جميع الأعياد المذهبية للفاطميين 619
6- محو رسوم الفاطمية وعملاتهم 619
7- الحفاظ على أفراد البيت الفاطمي 619
8- إضعاف العاصمة الفاطمية 619
9- أحياء الأيوبيين لقضية انتحال النسب الفاطمي إلى البيت النبوي 620
10- الاستمرار في ملاحقة بقايا التشيع في الشام واليمن  620

ثامناً : فتوحات صلاح الدين في عهد نور الدين زنكي 621
1- جهاد الصليبيين وإخراجهم من بلاد المسلمين 621
2- ضم المغرب الأدنى  625
3- ضم اليمن  626
4- فتح بلاد النوبة 627

تاسعاً : حقيقة الوحشة بين صلاح الدين ونور الدين  627
عاشراً : وفاة نور الدين محمود 632
- الخلاصة  636
- فهرس المصادر والمراجع  672
- فهرس الكتاب 686

الأهداء

إلى كل مسلم حريص على إعزاز دين الله ونصرته أهدي هذا الكتاب سائلاً المولى عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته العُلا أن يكون خالصاً لوجهه الكريم قال تعالى : " فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً " (الكهف، آية : 111)
المقدمة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنان من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيما " (الأحزاب : 71، 70).
يارب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك ولك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت ولك الحمد بعد الرضى، فالله تعالى الحمد كما ينبغي لجلاله وله الثناء كما يليق بكماله، وله المجد كما تستدعيه عظمته وكبرياؤه أما بعد :
هذا الكتاب امتداد لما سبقه من كتب درست عهد النبوة وعهد الخلافة الراشدة، وعهد الدولة الأموية، وعهد السلاجقة، وقد صدر منها؛ السيرة النبوية، وأبو بكر وعمر ابن الخطاب، وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب، والحسن بن علي رضي الله عنهم والدولة الأموية، ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، وعمر بن عبد العزيز رحمه الله، ودولة السلاجقة وبروز المشروع الإسلامي لمقاومة التغلغل الباطني والغزو الصليبي، والدولة العثمانية عوامل النهوض وأسباب السقوط، ودولتي المرابطين والموحدين، والدولة الفاطمية العبيدية والثمار الزكية للحركة السنوية، وفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم وقد سميت هذا الكتاب عصر الدولة الزنكية ونجاح المشروع الإسلامي بقيادة نور الدين محمود الشهيد في مقاومة التغلغل الباطني والغزو الصليبي وتعتبر حلقة مهمة من ضمن سلسلة الحروب الصليبية والتي نسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن تكون لوجهه خالصة ولعباده نافعة ويطرح فيها القبول والبركة ويرزقنا حسن القصد وإخلاص النيه لوجهه العلي الكبير، ويوفقنا لإكمال الموسوعة التاريخية المستهدفة وهذا الكتاب يتحدث عن الزنكيين، من حيث أصول أسرتهم وعن جدهم آق سنقر ومكانته لدى السلطان ملكشاه، وسياسته الداخليلة والخارجية في حلب تولي إمارتها وعن نشأة عماد الدين زنكي وبزوغ نجمه السياسي ودور بهاء الدين الشهرزوري في تعيينه أميراً على الموصل، وعن أهم صفاته، كالشجاعة، والهيبة، والدهاء، والمكر والحيلة واليقظة والحذر، والذكاء، وقدرته على اختيار الأكفاء من الرجال، ووفاؤه لأصحابه، وغيرته على محارمهم، وعدله، وعبادته وهواياته ويتحدث عن سياسته الداخلية، والنظم الإدارية والعسكرية وعلاقة عماد الدين زنكي بالخلافة العباسية والسلطنة السلجوقية، وتوسع عماد الدين في شمال بلاد الشام وإقليم الجزيرة، وعلاقته بالأكراد، كبني أيوب حكام تكريت، والأكراد الحميدية والعكارية، والمهرانية والبشنوية، وعلاقته بالإمارات المحلية في ديار بكر، ومحاولاته في ضم دمشق سواء بالتفاهم أم بالحصار أم بالسياسة وتكلمت عن جهاده ضد الصليبيين، وتطرقت لحال المسلمين قبل مجيئه للإمارة، وسياسته مع الصليبيين وفتحه للحصون والقلاع وسعيه الحثيث لتوحيد الجبهة الإسلامية وقيادتها لمقاومة الاحتلال الصليبي وذكرت مناصرة عماد الدين لبني منقذ عندما تعرضت إمارة شيزر لمحاصرة الجيش البيزنطي والصليبي، ومواقفه البطولية في مقارعة الغزاة وأساليبه التي استخدمها ضدهم سواء نفسية أو تعبوئية من طلب النجدة من مختلف المناطق واستخدم سهام الحيلة والدهاء لتعميق الخلاف بين أفرنج الشام وملك الروم البيزنطي وقد حقق نجاحاً منقطع النظير في هذا الميدان، وفي نهاية المطاف اضطر الأمبراطور البيزنطي فك حصاره عن شيزر بفضل الله ثم جهود عماد الدين العسكرية وكانت من أهم النتائج التي أسفرت عنها هذه الحملة تدهور العلاقات بين البيزنطيين والصليبيين، وعدم استطاعتهم القيام بعمل سريع ضد نشاط زنكي في المنطقة في السنين التالية، وقد انهمك عماد الدين بعد ذلك على اتمام خطته بتوحيد الجبهة الإسلامية، كي يكون أكثر قدرة على مجابهة الصليبيين وأشاد الشعراء بدفاع عماد الدين زنكي عن شيزر فقال ابن قسيم الحموى في مدحه :

بعزمك أيها الملك العظيم
 
 ٭٭ تَذِلُ لك الصَّعاب وتستقيم

ألم تر أن كلب الرُّوم لمَّا
 ٭٭ تًبيَّنَ أنه الملك الرحيم

فجاء يطبَّق الفلوات خيلاً
 ٭٭ كأن الجَحْفَل الليل البهيم


إلى أن قال :

أيلتمس الفرنجُ لديك عفواً
 
 ٭٭ وأنت بقطع دابرها زعيم

إذا خطرت سيوفك في نفوس
 ٭٭ فأوّل ما تفارقها الجسوم
 

واستطاع عماد الدين بفضل الله ثم بجهوده الميمونة أن ينتزع من الصليبيين إمارة الرها التي تأسست في الشرق الإسلامي سنة 491ﻫ/1097م بزعامة بدوين الأول وكان تحريرها في عام 539ﻫ وقد ساعد عماد الدين زنكي عوامل عديدة في فتح الرها من أهمها؛ تنامي حركة الجهاد الإسلامي حتى عصره وحصاد تجربة المسلمين في ذلك المجال، فلا ريب في أن التجارب السابقة أثبت أن إمارة الرها مرشحة أكثر من غيرها لكي تكون أولى الإمارات الصليبية المعرضة للسقوط في أيدي قادة الجهاد الإسلامي حينذاك، وقد اجهدها أمر الإغارات المستمرة من جانب أمراء الموصل خلال فترة تزيد على أربعة عقود من الزمان على نحو مثل موتا بطيئاً لها إلى أن تم الاجهاز عليها في العام المذكور ويضاف إلى ذلك براعة عماد الدين العسكرية الذي فاجأ تلك الإمارة الصليبية بالهجوم، بعد أن أطمأن الصليبيون إليه وتصوروا أنه لن يهاجم فاستغل فرصة غياب أميرها جوسلين الثاني عنها ووجه لها ضربته القاضية التي انتهت بإسقاطها، وهكذا أثبت ذلك القائد الكبير أنه اختار التوقيت الملائم لذلك العمل العسكري العظيم لقد حقق عماد الدين زنكي بفتح الرها أهم إنجازاته التي قام بها ضد الصليبيين طوال مدة حكمه وكان لهذا النصر نتائج هامة في العالمين الإسلامي والنصراني ومن أهم تلك النتائج على الإجمال :
1- تأكد للمسلمين أن حركة الجهاد الإسلامي وصلت سن الرشد وتجاوزت المراهقة السياسية والعسكرية دون أن يكون ذلك إجحاف بإنجازات القادة السابقين على زنكي لاسيما الأمير مودود بن التونتكين وإذا كانت أولى الإمارات الصليبية تهاوت تحت أيديهم فإنها البداية، واليوم أسقاط الرها وغداً إسقاط باقي الكيان الغازي الدخيل، وهذا ما حدث فعلاً ومن الآن فصاعداً لن تعود عقارب الساعة إلى الوراء، بل التقدم إلى الأمام بكل ثقة، وإباء.

2- تأكد منطق التاريخ من أن مثل تلك الكيانات الصليبية الغير شرعية لن تستمر على الأرض المسلمة، لأن أبناء المنطقة أصحاب الهوية الدينية الموحدة لن يقبلوا بذلك الوضع السياسي والعسكري الدخيل وبالتالي عاد التجانس لمنطقة شمال العراق ولم تعد الرها تمثل دور الفصل والكيان الصليبي الحاجز المانع من الاتصال بين كل من سلاجقة آسيا الصغرى، وسلاجقة الروم، وكذلك بلاد فارس.

3- كما أدى سقوط الرها بمثل هذه الصورة إلى تحرك الحلف الدفاعي الاستراتيجي القائم بين الكيان الصليبي في الشرق والرحم الأم، فلم يكن ذلك الغرب يسمح لامتداده السياسي، والتاريخي في الشرق أن ينهار قطعة قطعة، بل لابد من التدخل من أجل إعادة الأمور إلى نصابها وإجهاز فعاليات إمارة الموصل ومن ثم كان قيام الحملة الصليبية الثانية عام 542ﻫ وهي من النتائج المباشرة لإسقاط الرها وهو أمر يوضح لنا بجلاء كيف أن قادة الجهاد الإسلامي حاربوا قوى عالمية، ولم تكن مجرد قوى محلية محدودة التأثير والفعالية، وأنهم بالفعل كانوا جزءاً من صراع قاري أو عالمي على نحو يجعل لهم مكانة بارزة في تاريخ المسلمين وقد مدح الشعراء الإنجاز الكبير الذي قام به عماد الدين لفتحه إمارة الرها، فقد وصف ابن الأثير جيش عماد الدين في خروجه لفتح الرها فقال :

بجيش جاش بالفرسان حتى
 
 ٭٭ ظننت البَّر بحراً من سلاح

وألسنة من العذبات حُمْر
 ٭٭ تخاطبنا بأفواه الرَّياح

وأروع جيشه ليلٌ بهيم
 ٭٭ وغُرَّته عمود للصباح

صفوح عند قدرته ولكن
 ٭٭ قليل الصفح ما بين الصفاح

فكان ثباته للقلب قلباً
 ٭٭ وهيبته جناحاً للجناح


وهنَّأ الشاعر ابن القيسراني القاضي كمال الدين الشهرزوري بهذا الفتح فقال :

إن الصفائح يوم صافحت الرُّها
 ٭٭ عطفت عليها كل أشوس ناكب

فتح الفتوح مبشَّراً بتمامه
س ٭٭ كالفجر في صدر النَّهار الآيبِ

لله أية وقفة بدرية
 ٭٭ نُصرت صحابتها بأيمن صاحب

ظفٌر كمال الدين كنت لقاحه
 ٭٭ كم ناهضٍ بالحرب غير محارب

وأمدكم جيشُ الملائك نُصرة
 ٭٭ بكتائب محفوفة بكتائب


جبنوا الدَّبور وقدتم ريح الصبا
 ٭٭ جنُد النبوة هل لها من غالب


 إلى أن قال :

وإذا رأيت الليث يجمع نفسه
 
 ٭٭ دون الفريسة فهو عين الواثب


وكان فتح الرها بداية لما بعدها، إذ لم يكن من الصعب على عماد الدين زنكي أن يستكمل مهمته بفتح باقي المعاقل الصليبية التابعة لهذه الإمارة، فاستغل فرصة تضعضع أحوال الصليبيين في المنطقة وقد استطاع عماد الدين أن يحقق قسطاً كبيراً من برنامجه وأن يكّون لنفسه مكانة خاصة في التاريخ الإسلامي كسياسي بارع وعسكري متمكن ومسلم واعٍ أدرك الخطر الذي حاق بالعالم الإسلامي من قبل الصليبيين فقد استطاع أن يوجه الظروف التاريخية القائمة لصالح المسلمين وذلك بتجميعه القوى الإسلامية، بعد القضاء على عوامل التجزئة والانقسام وتوحيد المدن والإمارات المنفصلة في نطاق دولة واحدة استطاع بحنكته أن يستغل أقصى ما يمكن أن تقدمه دولته من إمكانات في سبيل تحقيق برنامجه المزدوج أي تشكيل الجبهة الإسلامية وضرب الصليبيين ويعتبر عماد الدين زنكي أول قائد سلجوقي قام بتجميع القوى الإسلامية وفق برنامج معين ليجابه بها تزايد الخطر الصليبي الذي لم توقفه المحاولات الجدية التي سبقت زنكي وبخاصة تلك التي تمت على يد كل من مودود بن التونتكين 502ﻫ- 507ﻫ وإيلغازي وبلك الأرتقين 518-520ﻫ ، وقد مهد عماد الدين زنكي الطريق لقادة التحرير من بعده فلم تكن جهود ابنه نور الدين محمود ومن بعده صلاح الدين الأيوبي سوى اتمام العمل الذي بدأه عماد الدين زنكي وفي نفس الطريق، وبعد استشهاد عماد الدين تولى القيادة ابنه البطل الفذ والمجاهد الشهير نور الدين محمود الشهيد الملك العادل، فذكرت في هذا الكتاب سيرته وترتيبه أوضاع البيت الزنكي مع أخيه، سيف الدين غازي، واتفاقهم على توحيد الكلمة ومناصرة بعضهم البعض ضد الأعداء، وأصبح سيف الدين غازي أمير الموصل ونور الدين محمود أمير على حلب، وتوسعت في ذكر مفتاح شخصية نور الدين زنكي وشعوره بالمسؤولية وحرصه على تحرير البلاد من الصليبيين وخوفه من محاسبة الله له وشدة إيمانه بالله واليوم الآخر وقد كان هذا الإيمان سبباً في التوازن المدهش والخلاّب في شخصيته، فقد كان على فهم صحيح لحقيقة الإسلام وتعبد الله بتعاليمه، وتميزت شخصيته بمجموعة من الصفات الرفيعة والأخلاق الحميدة والتي ساعدته على تحقيق انجازاته العظيمة والتي من أهمها؛ الجدية، والذكاء المتوقد، والشعوربالمسؤولية، والقدرة على مواجهة المشاكل والأحداث، ونزعته للبناء والأعمار، وقوة الشخصية ومحبته لله ومحبة الناس له والليقة البدنية العالية، وتجرده وزهده الكبير، حتى قال الشاعر فيه :

ثنى يده عن الدنيا عفافاً
 
 ٭٭ ومال بها عن الأموال زهد
98

وقال فيه آخر :

لازلت تقفوا الصالحين مسابقا
 
 ٭٭ لُهُم وتَطْلُعُ خلفك الأبرار

نفس السيادة زهد ملك في الذي
 ٭٭ فيه تفانت يَعْربُ ونزار


وتحدثت عن شجاعته التي قال الشاعر فيها :
تبدو الشجاعة من طلاقة وجهه
 
 ٭٭ كالرّمح دلّ على القساوة لينُهُ

ووراء يقظته أناة مُجرَّب
 ٭٭ لله سطوة بأسه وسُكُونه


وقال آخر :

متهلل والموت في نبراته
 
 ٭٭ يرُجى ويرهب خوفه وعقابه


وتكلمت عن محبته للجهاد والشهادة، فقد ذكر العماد الأصفهاني فقال : حضرت عند نور الدين بدمشق - في شهر صفر - والحديث يجري في طيب دمشق ورقة هوائها وأزهار رياضها وكل منا يمدحها ويطربها فقال نور الدين : إنما حب الجهاد يسليني عنها فما أرغب فيها وعندما دخل الموصل وغادرها بعد عشرين يوما سأله أصحابه : إنك تحب الموصل والمقام بها ونراك أسرعت العود ؟ فيجيب : قد تغير قلبي فيها فإن لم أفارقها ظلمت، ويمنعني أيضاً أنني هاهنا لا أكون مرابطاً للعدو وملازماً للجهاد، وكان رحمه الله يتعرض للشهادة وكان يسأل الله أن يحشره من بطون السَّباع وحواصل الطير وبينت لوحات رائعة من عبادته، فقد كان يصلي أكثر الليالي ويناجي ربه مقبلاً بوجهه عليه ويؤدي الصلوات الخمس في أوقاتها بتمام شرائطها وأركانها وركوعها وسجوها ويحافظ على الجماعة وكان كثير الابتهال إلى الله عز وجل في أموره كلها وقد اشتهر بالانفاق الواسع والكرم العظيم وكانت له أوقاف في كافة مجالات الحياة الاجتماعية على المساجد والمدارس والمستشفيات، والأرامل والأيتام .. إلخ وقد مدح الشعراء نور الدين على كرمه وجوده فقد قال أحدهم :

يا أيها الملك المنادي جوده
 
 ٭٭ في سائر الآفاق هل من معسر

ولأنت أكرم من أناس نَوَّهوا
 ٭٭ باسم ابن أوس واستخصوا البحتري

ذلتَّ لدولتك الرقاب ولا تزل
 ٭٭ إن تغز تغنم أو تقاتل تظفر
 

ومدحه أسامة ابن منقذ بقوله :

في كل عام للبرية ليلة
 ٭٭ فيها تَشُبُّ النارُ بالإيقاد

لكن لنور الدين من دون الورى ٭٭ ناران : نار قرى ونار جهاد

أبداً يصَّرفها نداه بأسه
 ٭٭ فالعام أجمع ليلة الميلاد

مَلِك له في كل جيد منة
 ٭٭ أبهى من الأطواق في الأجياد
 
أعلى الملوكِ يداً وأمنعهم حمىً
 ٭٭ وأمدهم كفاً ببذل تلاد

يعطي الجزيل من النوال تبّرعاً
 ٭٭ ٭٭ من غير مسألة ولا ميعاد


وأشرت إلى أهم معالم التجديد والإصلاح في دولة نور الدين محمود، وكيف اتخذ من عمر بن عبد العزيز نموذجاً يقتدي به في دولته، فقد أقتنع بأهمية التجارب الإصلاحية في تقوية وأثراء المشروع النهضوي ودورها في إيجاد وصياغة الرؤية اللازمة في نهوض الأمة وتسلمها القيادة، فللتجارب التاريخية إسهام كبير في تطوير الدول وتجديد معاني الإيمان في الأمة ولذلك حرص على معرفة هذه السيرة المباركة كي يقتدي بها في إدارته للدولة ولقد أتت معالم التجديد والإصلاح الراشدي في عهد عمر بن عبد العزيز ثمارها في الدولة الزنكية وكانت أهم معالم التجديد في دولة نور الدين :

1- الحرص على تطبيق الشريعة : فقد جعل من مقاليد الحكم في الدولة أداة مسخرة لخدمة الشريعة وتطبيق أحكامها وقيمها ومبادئها في واقع الحياة ودعا إلى تحكيم الشريعة بحماس منقطع النظير وقال في هذا الصدد : ونحن نحفظ الطرق من لصّ وقاطع طريق والأذى الحاصل منها قريب أفلا نحفظ الدين ونمنع عنه ما يناقضه وهو الأًصل. وقال نحن شحن للشريعة نمضى أوامرها. فقد جدد للملوك اتباع سنة العدل والانصاف، وترك المحرمات من المأكل والمشرب والملبس وغير ذلك، فإنهم كانوا كثيراً من الحكام قبله كالجاهلية، همة أحدهم بطنه وفرجه لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً حتى جاء الله بدولته فوقف مع أوامر الشرع ونواهيه وألزم أتباعه وذويه، فاقتدى به غيره منهم، واستحيوا أن يظهر عنهم ما كانوا يفعلونه. فقد أصدر أوامره إلى كافة موظفيه على الالتزام بأحكام الشرع ومنع ارتكاب الفواحش وشرب الخمور، أو بيعها في جميع بلاده واسقط كل ما يدخل تحت شبه الحرام وإزالة كل ما يندّ عن محجة الشريعة البيضاء وينحرف إلى بؤر الظلام وكان ينزل العقاب السريع العادل بكل من خالف أمره وكل الناس عنده فيه سواء. وقد مدحه الشعراء فقال فيه ابن منير :

كم سيرة أحييتها عمريّة
 ٭٭ ٭٭ رفعت لها في الخافقين منار

ونوافل صّيرتهن لوازماً
 ٭٭ بأقلها تستعبد الأحرار

أما نهارك فهو ليل مجاهد
 ٭٭ والليل من طول القيام نهار


أيها الأخوة الكرام يا أبناء الإسلام يا من همهم النهوض الحضاري لهذه الأمة الجريحة، علينا بالسعي الدؤوب في مجتمعاتنا ودولنا حتى تأخذ الشريعة الغراء مكانتها وحقها من الاحترام والتقدير والتطبيق، فآثار تحكيم شرع الله في الشعوب التي نفذت أوامر الله ونوهيه ظاهرة بينه لدارس التاريخ ومن تلك الآثار، التمكين في الأرض والأمن والاستقرار والنصر والفتح المبين والعز والشرف وانزواء الرذائل، قد رأيناها في دراستنا لدولة الخلفاء الراشدين، ودولة عمر بن عبد العزيز، ودولة يوسف بن تاشفين، ودولة محمد الفاتح وهي من سنن الله الجارية والماضية والتي لا تتبدل ولا تتغير، فأي قيادة مسلمة تسعى لهذا المطلب الجليل والعمل العظيم مخلصة لله في قصدها، مستوعبة لسنن الله في الأرض فإنها تصل إليه ولو بعد حين، وترى آثار ذلك التحكيم على أفرادها ومجتمعاتها ودولها وحكامها كما سنرى ذلك في سيرة نور الدين محمود وعصره بإذن الله تعالى.

إن التوفيقات الربانية العظيمة في تاريخ أمتنا يجريها الله تعالى على يدي من أخلص لربه ودينه وأقام شرعه وقصد رضاه وجعله فوق كل اعتبار قال تعالى : (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما (النساء : 65).

وقال الشاعر أحمد رفيق المهدوي الليبي :

فإذا أحب الله باطن عبده
 ٭٭ ٭٭ ظهرت عليه مواهب الفتاح

وإذا صفت لله نية مصلح
 ٭٭ مال العباد عليه بالأرواح


2- ومن معالم التجديد بناء دولة العقيدة على منهج أهل السنة والجماعة : فقد جعل من العقيدة الإسلامية الصحيحة العمود : الفقري لدولته وكان رحمه الله يملك رؤية نهوض قائمة على إحياء السنة وقمع البدعة، قال عنه ابن كثير : أظهر نور الدين ببلاده السنة وأمات البدعة وأمر بالتأذين بحي على الصلاة حى على الفلاح ولم يكن يؤذن بهما في دولتي أبيه وجده، وإنما كان يؤذن بحي على خير العمل لأن شعار الرفض كان ظاهراً ( ) : وكان نور الدين يتحرى سنة النبي صلى الله عليه وسلم في أموره كلها ومن أعظم إنجازات دولته إسقاط الدولة الفاطمية بمصر وكان الفضل الله ثم للحملات المتوالية التي أرسلها نور الدين محمود حتى خلص المسلمين من شرورها وأعلن تبعية مصر للخلافة العباسية السنية، وكان رأى نور الدين في الدولة الفاطمية العبيدية يتلخص في رسالته للخليفة العباسي وهو يبشره بفتح مصر وسقوط دولة الإلحاد والرفض والبدع ( ) ويقول فيها : وطالما بقيت مائتين وثمانين سنة مملؤة بحزب الشياطين ... حتى أذن الله لغمتها بالانفراج واجتمع فيها داءان الكفر والبدعة وتمكنا من إزالة الإلحاد والرفض، ومن إقامة الفرض ( ) وسيري القارئ الكريم بإذن الله فقه نورالدين في إزالة الدولة الفاطمية في هذا الكتاب.

واستفاد نور الدين من خريجي المدارس النظامية وتبناهم في مدارس الدولة النورية وفتح لهم الأبواب لدعم المذهب السني ومناهضة الفكر الشيعي الرافضي وصبغ الدولة بالكتاب والسنة، ووضع مشروعاً فكرياً ثقافياً عقائدياً تربوياً تعليماً استهدف به، رعايا دولته ولم يفرق بين علماء الشافعية والأحناف والحنابلة والمالكية وأهل الحديث وشيوخ التصوف السني وغيرهم من أبناء الأمة وتحرك بهم من خلال جبهة عريضه تنضوي تحت راية أهل السنة والجماعة في مقاومة الأخطار الشيعية الرافضية وقد تحرك نور الدين في مشروعه الآنف الذكر من خلال مؤسسات المجتمع المدني، كالكتاتيب والمدارس والمساجد، والربط وأخذ بكافة الأسباب المادية والمعنوية المعينة على تحقيق الهدف المنشود من صبغ الدولة النورية ورعايا الدولة من المسلمين بالكتاب والسنة وقد أثمرت جهوده في بلاد الشام وعلى سبيل المثال في حلب، فقد تسابق أمراءه وأعيان دولته وخلفاؤه من بعده إلى إنشاء المؤسسات العلمية حتى غدت حلب بعد فترة يسيرة نسبياً مركزاً من مراكز الثقافة السنية بعد أن كانت وكراً من أوكار الشيعة الإمامية والإسماعيلية وقد أحصى المؤرخ عز الدين ابن شداد ت 684ﻫ مدارس حلب في أيامه فوجدها أربعا وخمسين مدرسة موزعة بين المذاهب الفقهية الأربعة منها : إحدى وعشرون للشافعية واثنتان وعشرون للحنفية، وثلاث للمالكية والحنابلة وثماني دور للحديث الشريف بالإضافة إلى إحدى وثلاثين مقراً للصوفية وقد أتت هذه المؤسسات العلمية ثمارها المرجوة إذ انقرض المذهب الإسماعيلي الباطني في حلب في حدود عام 600ﻫ وأخفى الشيعة الإمامية معتقداتهم حتى انتهى بهم الأمر إلى أن أخذوا يتنكرون وبأفعال السنة يتظاهرون. وهذا بفضل الله ثم جهود المصلح الكبير نور الدين وخلفائه الذين اقتدوا به في الإكثار من المدارس السنية وتعيين الأساتذة الأكفاء لها والإنفاق عليها بسخاء حتى تراجع التشيع في هذه المدينة وأصبحت السيادة فيها لمذهب أهل السنة وهذا يدل على أهمية التربية العقيدية والفكرية والثقافية في التمكين للإسلام الصحيح في نفوس الناس.

ومما ساعد نور الدين محمود على تحقيق برنامجه الإصلاحي أن جهوده جاءت تالية لجهود المدارس النظامية، فانتفع بما حققته من نتائج وفي مقدمتها تخريج جيل يحمل على عاتقه مهمة الدعوة للمذهب السني والانتصار له.

3- ومن معالم التجديد في دولة نور الدين حرصه على إقامة العدل، فقد كان قدوة في عدله، أسر القلوب، وبهر العقول فقد كانت سياسته تقوم على العدل الشامل بين الناس وقد نجح في ذلك على صعيد الواقع والتطبيق نجاحاً قل نظيره حتى اقترن اسمه بالعدل وسمي بالملك العادل ومدحه الشعراء على ذلك فقد قال العماد الأصفهاني في عدله :

يا محي العدل الذي في ظله
 ٭٭ من عدله رعت الأسود مع المهَا

محمودٌ المحمودُ مِن أيامه
  ٭٭ لبهائها ضحك الزمان وَقَهْقَها


4- ومن معالم التجديد في دولة نور الدين اهتمامه بالعلماء فقد فتح مؤسسات الدولة للاستفادة منهم، فقدمهم على الأمراء وبذل لهم العطاء وشجع المتميزين منهم إلى الهجرة لدولته وقد شارك العلماء معه في الجهاد ضد الصليبيين بالكلمة والسيف والتأليف والوعظ، كما سنرى في هذا الكتاب بإذن الله.

هذا وقد طّور نور الدين النظام الإداري لدولته وحرص على صبغته لدولته وحرص على صبغته بالصبغة الإسلامية، واعتمد في إدارته للشورى وابتعد عن الانفراد بالقرار بشكل كبير، وقدم المصلحة العامة على الانفعالات وكان مثال رائع في الزهد والتعفف وبذل المال في الصالح العام، وحرص على توفير الأمن للرعية وضمن لهم الحريات العامة، كحرية الرأي والمحافظة على كرامة الفرد وافردت مبحثاً عن النظام الاقتصادي والخدمات الاجتماعية، فبينت مصادر دخل دولة نور الدين، كنظام الاقطاع الحربي، والزكاة والخراج والجزية والغنائم وفداء الأسرى والأموال العظيمة التي خلفها أبوه عماد الدين، وأثر الأمانة الكبيرة التي تميز بها نور الدين وحكومته الرشيدة على خزانة الدولة، وأثر الأمن والاستقرار على انتعاش الحركة التجارية، ومساهمة الأثرياء والمعاهدات والاتفاقات التي ألزم بها الخصوم لدفع أموال للدولة الزنكية، وتحدثت عن دعم الخليفة العباسي للدولة الزنكية، وأثر السياسة الزراعية والصناعية والتجارية في تقوية اقتصاد الدولة واهتم نور الدين بالشرائع المنتجة كالفلاحين، وأصحاب الأموال كالتجار، فقد حرص على إرضاء كبار التجار من أجل أن يستمر استثمارهم لأموالهم في عمليات تجارية على أرض دولته على نحو يدعم اقتصاديات الدولة ويدر الأموال الطائلة على ميزانيتها من عوائد المكوس الشرعية لا أن تذهب إلى خارجها، في وقت تصارعت فيه مع القوى الإسلامية والصليبية المجاورة وقد وجد كبار التجار في نور الدين قوة مهيئة لنشاطهم التجاري أكثر من ذي قبل وعندما دخل نور الدين مدينة دمشق حرص أشد الحرص على الاجتماع مع كبار التجار الدماشقة، من أجل بعث الطمأنينة في نفوسهم ولتوضيح معالم سياسته الاقتصادية المرتقبة وقد استفاد التجار من هدنات الدولة النورية مع مملكة بيت المقدس الصليبية في صفقاتهم التجارية وكان من سياسة نور الدين الاقتصادية والمؤيدة بالشرع الإسلامي إلغاء الضرائب وأخذ نور الدين في تنفيذ هذه السياسة منُذ فترة مبكرة، وكان حيناً بعد حين يصدر الأوامر ويعمّم الكتب والمناشير بإسقاط حشود الضرائب "اللاشرعية" التي كانت تأخذ بخناق المواطنين من جراء سياسات الابتزاز التي اعتمدها الحكام والأمراء الذين عاصروه وكانت شعبيّته تزداد باطّراد عجيب في خط متواز مع مقادير الضرائب التي كانت يأمر بإلغائها وهدد من لا يطبق ذلك من المسؤولين : ومن أزالها زلّت قدمه، ومن أحلّها حلّ دمه ومن قرأه أو قرئ عليه فليتمثل ما أمرنا به وليمضه مرضياً لربه ممضياً لما أمر به. وكانت النتيجة الطبيعية لذلك أن نشط الناس للعمل، فأخرج التجار أموالهم، ومضوا يتاجرون، وجاءت الجبايات الشرعية بأضعاف ما كان يجي من وجوه الحرام.

وسعى نور الدين محمود إلى تقديم أوسع الخدمات الاجتماعية لشعبه وجعل مؤسسات الدولة أدوات صالحة في خدمة الجماهير وسعت لتغطية شتى الحاجات، ابتداء من قضايا المسكن والملبس والمأكل وانتهاء بقضايا الروح ومروراً بالحاجات الفكرية والصحية والعمرانية والانتاجية وقد أخذت هذه الخدمات أساليب وأشكالاً مختلفة، فهي حيناً تأتي عن طريق التوزيع المباشر للمال وحيناً عن طريق (الإعانة) على تلبية حاجة معينة والفكاك من الأسر وحيناً ثالثاً عن طريق إنشاء مؤسسات ومرافق كالمستشفيات والملاجيء ودور الأيتام والمدارس ودور الحديث والخانات والربط والجسور والقناطر والقنوات والأسواق والحمامات والطرق العامة والمخافر والخنادق والأسوار وحيناً رابعاً تجي عن طريق نظم (الوقف) التي شهدت في عصر نور الدين قمة نضجها وتنظيمها وازدهارها وحيناً خامساً عن طريق عدد من الاجراءات التنظيمية التي استهدفت تحقيق الضمان الاجتماعي لقطاع ما من قطاعات الأمة.

وقد لاحظت في دراستي لفترة الحروب الصليبية أن انتصارات نور الدين وصلاح الدين ساهمت فيها عوامل متعددة منها على مستوى الخلافة نفسها ومنها على المستوى الشعبي ومنها على مستوى الوزارة، فقد أخذت مؤسسة الخلافة تسترج صلاحياتها وتقوى على ما كانت عليه في العهد السلجوقي الأول، وكذلك الوزارة العباسية في عهد يحي بن هبير الوزير الصالح والعالم الرباني، وكان الشيخ عبد القادر الجيلاني من زعماء الدعوة الشعبية والإصلاح العام في عاصمة الخلافة العباسية، فقد كانت عامّة الجماهير متعطشة إلى شخصية روحية رفيعة، تكون على تواصل بالشعب وطبقاته وجماهيره تؤثر في المجتمع بدعوتها ومواعظها وتزكيتها، وتوقظ في النفوس الإيمان وتحي فقه القدوم على الله وتحرك في القلوب الحب لله والحنين إليه، وتحث على الطموح وعُلَّو الهّمة وبذل الجهد في الحصول على علم الله الصحيح وعبادته ونيل رضوانه والمسابقة إلى سبيله وتدعو إلى التوحيد الكامل والدين الخالص ولقد كان هذا المصلح الكبير في شخص الشيخ عبد القادر الجيلاني واستطاع أن يؤسس مدرسة ساهمت مع الزنكيين في تحمل المسؤولية ومواجهة التحديات العقائدية والفكرية والاقتصادية، والاجتماعية وساهمت في إعداد جيل المواجهة للخطر الصليبي في البلاد الشامية وقد استفاد عبد القادر الجيلاني من جهود من سبقوه وتعاليمهم وخصوصاً الإمام الغزالي الذي قام بدور عظيم في تاريخ الإصلاح والتجديد وحوّل تلك التعاليم إلى مناهج مبسطة يفهمها العامّة وطلاب العلم والعلماء فقد وضع الشيخ عبد القادر منهجاً متكاملاً يستهدف إعداد الطلبة والمريدين روحياً واجتماعياً، ويؤهلهم لحمل رسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتوفر لهذا المنهج فرص التطبيق العملي في الرباط المعروف باسم الشيخ عبد القادر حيث كانت تجري التطبيقات التربوية والدروس والممارسات الصوفية ويقيم الطلبة والمريدون، فالتحليل الدقيق للنظام التربوي الذي طبقه الشيخ عبد القادر الجيلاني يكشف عن تأثير كبير بالمنهاج الذي اقترحه الغزالي ( ) .

وتعتبر تعاليم الشيخ عبد القادر ومدرسته ذات أثر ملموس ساهم في نهوض الأمة في عهد الزنكيين والأيوبيين وكان الشيخ عبد القادر على أصول منهج أهل السنة في الأصول والفروع وكانت له جهود مشكوره للتصدي للمذهب الشيعي الرافضي، وإعداد الأمة للجهاد ضد الصليبيين الغزاة وقد أثنى ابن تيمية على الشيخ عبد القادر واعتبره من أئمة الصوفية والمشايخ المشهورين الذين كانوا على الصراط المستقيم وإنه : من أعظم الناس لزوماً للأمر والنهي وشهد له بأنه من الشيوخ الكبار ( ) ، ثم شهد له أنه من أعظم مشايخ زمانه في الأمر بالتمسك بالشريعة الغراء بالتزام الشرع والأمر والنهي وتقديمه على الذوق ومن أعظم المشايخ أمراً بترك الهوى والإرادة النفسية ( ).

وفي الفصل الأخير من الكتاب تحدثت عن سياسة نور الدين الخارجية وعلاقته مع الخليفة المقتفي لأمر الله والوزير يحي بن هبيرة والخليفة المستنجد بالله ثم المستضيء بالله، وتكلمت عن جهود نور الدين وأخيه سيف الدين في التصدي للحملة الصليبية الثانية وحمايته لدمشق من الغزاة وأهم نتائج تلك الحملة، وعن سياسته في ضم دمشق، وكيف تعامل مع القوى الإسلامية والأسر الحاكمة في بلاد الشام والجزيرة والأناضول، وعن سياسته تجاه القوى المسيحية، وعلاقته مع مملكة بيت المقدس، وإمارة الرها، وأنطاكية وطرابلس وعن المعارك التي خاضها والحصون التي فتحها وعن علاقته بالأمبراطورية البيزنطية واستخدامه لفقه السياسة الشرعية في زعزعة الحلف البيزنطي مع مملكة بيت المقدس وأنطاكية ضده وحتى لا يجعل دولته بيت عدوين الصليبيين في الجنوب والبيزنطيين في الشمال واستطاعت دبلوماسية الدولة النورية أن تصل إلى صلح مع الدولة البيزنطية، ومعلوم أن البيزنطيين كان لهم باعهم الطويل في شأن الدبلوماسية وكذلك الحال بالنسبة للدولة النورية التي اتصلت دبلوماسياً بالعباسيين والفاطميين ومملكة بيت المقدس الصليبية أي بكافة القوى الكبرى في المنطقة سواء الإسلامية أو المسيحية والملاحظة المهمة في فقه نور الدين جهده الكبير في المفاوضات مع الاستعداد العظيم لحشد الجيوش واستنفار الأمة للتصدي ولقد استطاعت المهارة السياسية الزنكية أن تدق أسفين بين التحالف البيزنطي والصليبيين وهذا لم يأتي بدون دفع ثمن وإنما لتنازلات غير عادية، فقد اتخذ نور الدين خطوة يصعب تقيمها إلا بوصفها من قبيل القرارات الصعبة المصيرية، فلعلم نور الدين محمود الحالية والمرحلية ضد الصليبيين وليست ضد البيزنطيين، فإنه وازنْ بين الإطاحة بمشروعه الكبير على يد الحملة الصليبية البيزنطية وبين الوقوف ضد سلاجقة الروم، فاختار الخيار الأخير، علماً بأن سلاجقة الروم في تلك المرحلة كانوا كالدولة المستقلة ولم تندمج في مشروع نور الدين، بل كانت تعتدي على حلفاء الدولة الزنكية وأملاكهم، واستطاع نور الدين أيقاف الحملة بعد عقد معاهدة بين الدولة النورية والأمبراطورية البيزنطية وكان من أعظم النتائج التي ترتبت على هذه الخطوة، حفظ المشروع الإسلامي النوري من التصدع أو الضعف أو الزوال وما كان للدبلوماسية النورية أن تنجح لولا الله ثم مساندتها بقوة عسكرية ضاربة استطاعت مواجهة التحالف العسكري البيزنطي، الصليبي ومعه الأرمن في معركة حارم عام 559ﻫ/1164م.

إن مقاومة الغزاة تحتاج لمشروع نهضوي على أصول الإسلام الصحيح، من عقيدة سليمة، ومرجعية واضحة تعتمد على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وهدي الخلفاء الراشدين له القدرة على استيعاب طاقات الأمة، وعلى رأس ذلك المشروع قيادة ربانية واعية تستطيع أن تستفيد من إمكانيات الأمة وتستوعب فقه المبادرة كي تفجر طاقاتها وتوجهها نحو التكامل لتحقيق الخير والغايات المنشودة، فيأتي دور القيادة لتربط بين الخيوط والخطوط والتنسيق بين المواهب والطاقات وتتجه بها نحو خير الأمة ورفعتها وفق رؤية نهوض شاملة تتحدى كل العوائق وتسد كل الثغرات التي تحتاجها الأمة في النهوض وتبث روح الأمل والتفاؤل بين الناس وتحضهم على التمسك بعقيدتهم وقيمهم ومبادئهم والترفع عن حطام الدنيا وإحياء معاني التضحية وشحن الهمم، وتقوية العزائم، في نفوس النخب والجمهور العريض في الأمة وتأخذ بها رويداً نحو الأهداف المرسومة لمشروع النهوض وعلينا أن نتذكر قول الله تعالى : " إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وكان الله عليما حكيما" (النساء، أية : 104).

هذا وقد تحدثت عن التفكير الاستراتيجي عند نور الدين، وأهمية صلاح أولى الأمر في نجاح المشروع المقاوم للتغلغل الباطني والغزو الصليبي وعن الاستراتيجية العسكرية لنور الدين، كالتركيز على النوعية والفاعلية، والتعبئة العامة للأمة وانهاك العدو واستنزاف قوّاته، وتطبيق نور الدين لمبادئ الحرب الأساسية، كتحديد الهدف، والعمل التعرضي، والقدرة على الحشد والمناورة، ووحدّة القيادة وعنصر المفاجأة، ودور الاستخبارات، ومبدأ التقُّرب غير المباشر، واستخدامه للحرب النفسية في رفع معنويات الأمة، واضعاف همم العدو.

وأفردت المبحث الأخير عن فقه نور الدين في التعامل مع الدولة الفاطمية، فوضحت جذور الشيعة الإسماعيلية ونشأة الدولة الفاطمية وتكلمت عن جرائمها في الشمال الأفريقي، كغلو بعض دعاتهم كعبيد الله المهدي، وتسلطهم وظلمهم وتحريمهم الإفتاء على مذهب الإمام مالك، وإبطال بعض السنن المتواترة والمشهورة، ومنع التجمعات، وإتلاف مصنفات أهل السنة، ومنع علماء أهل السنة من التدريس، وتعطيل الشرائع وإسقاط الفرائض، وإزالة آثار خلفاء السنة، ودخول خيولهم المساجد وتحدثت عن أساليب أهالي الشمال الأفريقي في مقاومة الفكر البدعي الشيعي الرافضي المنحرف عن الكتاب والسنة، كالمقاومة السلبية، والمقاومة الجدلية والمقاومة المسلحة، والمقاومة عبر التأليف، ومقاومة شعراء أهل السنة، وأشرت إلى انتقال المعز لدين الله الفاطمي من الشمال الأفريقي ودخوله مصر لكي يتخلص من المقاومة والثورات العنيفة التي قادها علماء أهل السنة في الشمال الأفريقي لمدة خمس عقود متتالية رافضين المذهب الشيعي الرافضي الإسماعيلي الباطني، معلنين عقائد الإسلام الصحيح، فاستفاد المعز لدين الله الفاطمي من ضعف الحكم الأخشيدي التابع للدولة العباسية فرمى بسهامه المسمومة ودفع إليها جيوشه المحمومة بقيادة جوهر الصقلي سنة 358ﻫ الذي لم يجد أي عناء في ضمها لأملاك العبيديين وجوهر الصقلي هذا الذي بنى الأزهر الذي تم بناءه سنة 361ﻫ ليكون محضناً لإعداد دعاة المذهب الشيعي الرافضي الإسماعيلي وبعد الانتقال إلى مصر، بدأت المقاومة السنية في الشمال الأفريقي تقوى مع مرور الزمن حتى استطاع المعز بن باديس العنهاجي في 435ﻫ عندما تولى الحكم أن يطهر الشمال الأفريقي من الشيعة الرافضة وبدأ في حملات تطهير للمعتقدات الباطنية ولمن يطعن ويسب أصحاب رسول الله وأوعز للعامة وجنوده بقتل من يظهر الشتم والسب لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما فسارع أهل السنة في الشمال الأفريقي للتخلص من الشيعة الرافضة الإسماعيلية وتصفيته من المعتقدات الفاسدة في ملحمة من ملاحم الصراع بين الحق والباطل والهدى الظلال، وأشرت إلى جهود السلاجقة في حماية العراق وبلاد الشام من التشيع الرافضي، ودور المدارس النظامية في الإحياء السني وتقليص المد الشيعي الرافضي وأعداد الكوادر اللازمة لقيادة حركة المقاومة ضد الغزاة الصليبيين وبينت جهود نور الدين السياسية والعسكرية والفكرية للقضاء على الدولة الفاطمية وقد تّم ذلك على يدي صلاح الدين الذي تدرج في إلغاء الخلافة الفاطمية وفق رؤية استراتيجية وضعها القاضي الفاضل بالتعاون مع القيادة النورية وقد تّم بيانها في هذا الكتاب.

إن من الدروس المهمة من هذا الكتاب معرفة المشاريع المتصارعة في عهد الزنكيين، فقد كانت ثلاثة تتطاحن على قدم وساق، وهي المشروع الصليبي والذي تتزعمه الكنيسة من عهد أوربان الثاني والمشروع الشيعي الرافضي بقيادة الدولة الفاطمية بمصر والمشروع الإسلامي الصحيح وحامل لوائه نور الدين زنكي، فكانت المحاور التي سار عليها أهل السنة دولة وشعباً، تعميق الهوية العقائدية السنية والإحياء الإسلامي الصحيح في نفوس الأمة، والتصدي لشبهات المذهب الشيعي، وإعداد الأمة لمقاومة الصليبيين، وكانت المحاور متداخلةمن حيث السير إلا أن تحرير بيت المقدس والقضاء على الصليبيين في معركة حطين لم يتم إلا بعد القضاء على الدولة الفاطمية سياسياً وعسكرياً وقد سبقها الانتصارات العقائدية والفكرية والثقافية والتاريخية والحضارية للمذهب السني.

إن الذين استطاعوا تحرير بيت المقدس وانتزاع المدن والقلاع والحصون من الصليبيين هم الذين تميزوا بمشروعهم الإسلامي الصحيح وعرفوا خطر المشاريع الباطنية الدخيلة فتصدوا لها بكل حزم وعزم.

وعلى كل من يتصدى لقيادة الأمة في المواقف السياسية والتصريحات الإعلامية عليه أن يدرس كتاب ربه وسنة نبيه وهدى الخلافة الراشدة وحركة التاريخ الإسلامي وحقيقة الصراع بين هذه المشاريع المتباينة، كي يساهموا في توعية الأمة، وإزالة الجهل عنها ومعرفة أعدائها.

إن ما يحدث في العراق ولبنان من صراع بين المشروع الصليبي والصهيوني والإيراني الشيعي وعدم التركيز والدعم المطلوب للمقاومة الإسلامية في العراق وفلسطين يبرهن على أن الكثير من القيادات السياسية والفكرية والشرعية والإعلامية غير مستوعبة لما حدث من صراع بين المشاريع في حركة التاريخ ويدل على ذلك ما حدث في لبنان صراع بين المشروع الإيراني الشيعي والمشروع الأمريكي الصهيوني حيث أهملت المقاومة الإسلامية العراقية السنية والمقاومة الإسلامية الفلسطينية إعلامياً وسياسياً ومادياً لصالح المشروع الإيراني الشيعي.
إن أية أمة تريد أن تنهض من كبوتها لابد أن تحرك ذاكرتها التاريخية لتستلخص منها الدروس والعبر والسنن في حاضرها وتستشرف مستقبلها، وإيجاد الكتب النافعة في هذا المجال من الضرورات في عالم الصراع والحوار والجدال والدعوة مع اليهود والنصارى والملاحدة والعلمانيين والمبتدعة .. إلخ وهذا يدخل ضمن سنة التدافع في الأفكار والعقائد، والثقافات والمناهج وهي تسبق التدافع السياسي والعسكري، فأي برنامج سياسي توسعي طموح يحتاج لعقائد، وأفكار وثقافة، تدفعه فالحرف هو الذي يلد السيف، واللسان هو الذي يلد السنان والكتب هي تلد الكتائب.
إن تجربة نور الدين محمود ثرية وهي تجيب على الكثير من الأسئلة المطروحة على الساحة القطرية، والإقليمية والعالمية وهذه التجربة تأتي شاهداً تاريخياً مقنعاً، تماماً كما كانت تجربة عمر بن عبد العزيز من قبله على إن الإسلام قدير في أية لحظة تتوفر فيها النية المخلصة والإيمان الصادق والالتزام المسؤول والذكاء الواعي، على إعادة دوره الحضاري والقيادي وإخراج الناس من ضيق الدنيا إلى سعتها ومن جور الأديان إلى عادل الإسلام هذا وقد كانت علاقتي الروحية مع نور الدين محمود منُذ كنت طالباً بالمدينة المنورة، حيث أنني كنت ممن تتلمذ على أشرطة الشيخ الدكتور سفر الحوالي شفاه الله من كل سوء ومن ضمنها كان الحديث عن نور الدين محمود الشهيد في شريطين، فتعلقت بسيرة هذا القائد الفذ، وقد حث الشيخ في محاضرته طلاب العلم والعلماء على كتابة سيرته والبحث فيها ومن هناك كانت نقطة البداية وفي إحدى زياراتي للمدينة النبوية بعد تخرجي زرت أستأذنا وشيخنا الدكتور يحي إبراهيم اليحي وحدثني عن نور الدين محمود وطلب مني أن أبحث في سيرته فإنها تستحق الدراسة على حد قوله، وازدت قناعة بالموضوع إلا أن انشغالي بالسيرة وتاريخ صدر الإسلام ومرحلة الدراسات العليا منعني من تحقيق هذا الهدف النبيل، الذي لم يغيب عن ذاكرتني، ووجداني وأصبح من ضمن أهدافي الرئيسية في الحياة ودخل في أورادي ودعواتي بأن يوفقني الله لتحقيقه وعندما أقمت باليمن السعيد الحبيب، كان من ضمن شيوخي الذين طلبوا مني الكتابة في مرحلة الحروب الصليبية الشيخ الدكتور عبد الكريم زيدان، الذي استفدت منه كثيراً في عهد الخلافة الراشدة ولا أنسى أبداً شيخي واستاذي ياسين عبد العزيز اليماني الذي فتح لي بيته للحوار والنقاش وأعطاني من وقته الثمين الساعات الطوال، وفي زيارتي للشيخ الدكتور القرضاوي حثني على الكتابة في سيرة نور الدين محمود واعتبرها من الشخصيات التي لم تعطى حقها في التاريخ وأما شيخي واستاذي الدكتور سلمان العودة فقد قال لي : نادراً ما تتاح الفرصة للبحث في القضايا التاريخية مثل ما أتيحت لك فعليك بالإخلاص لله وأن تتقيه فيما تكتب وعندما قرأ خطتي في إعادة كتابة التاريخ، شجعني على المضي فيها وقد استفدت من حوراتي ومناقشتي معه في الأمور التاريخية والفكرية وكان يستقبلها بسعت صدر وبكل إريحية كعادة الشيخ مع طلابه وتلاميذه كما أن لأحداث العراق تأثيراً مباشراً على هذه الكتابات، وهذا جهد مقل أساهم به مع أخواني في معركة المصير، مع الاعتراف بالتقصير في حقهم ولهم مني الدعاء في ظهر الغيب بالسداد والتوفيق، وتحرير بلاد الرافدين من الغزاة المحتلين ومن الأخطار الداخلية والخارجية وعلينا أن نسلتهم من سيرة نور الدين محمود الشهيد الدروس والعبر في حياتنا المعاصرة، وكيف نخطط لتحرير بيت المقدس من أيدي اليهود الغاصبين.
هذا وقد انتهيت من هذا الكتاب يوم الأربعاء الساعة الثانية عشر، وثماني دقائق من تاريخ 20 شعبان 1427ﻫ الموافق 13/09/2006 والفضل الله من قبل ومن بعد، وأساله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعل عملي لوجهه خالصاً ولعباده نافعاً ويشرح صدور العباد للانتفاع به ويبارك فيه بمنه وكرمه وجوده وأن يثيبني على كل حرف كتبته ويجعله في ميزان حسناتي، وأن يثبت إخواني الذين أعانوني بكل ما يملكون من أجل إتمام هذا الجهد المتواضع، ونرجو من كل مسلم يصله هذا الكتاب أن لا ينسى العبد الفقير إلى عفو ربه ومغفرته ورحمته ورضوانه من دعائه " رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى والَديَّ وأن أعمل صالحاً ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين " (النمل، آية : 19).

وقال تعالى : " ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم " (فاطر : آية 2).

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
الفقير إلى عفو ربه ومغفرته
ورحمته ورضوانه
علي محمد محمد الصَّلاَّبيَّ

الإخوة الكرام يسرني أن تصل ملاحظاتكم وانطباعتكم حول هذا الكتاب وغيره من كتبي من خلال دور النشر وأطلب من إخواني الدعاء في ظهر الغيب بالإخلاص لله رب العالمين، والصواب للوصول للحقائق ومواصلة المسيرة في خدمة تاريخ أمتنا.
Mail :
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
في نهاية الكتاب أضفت الخلاصة التي وصلت إليها من دراستي لعهد السلاجقة والزنكيين
********************
بسم الله الرحمن الرحيم
الفصل الأول : ظهور عماد الدين زنكي على مسرح الأحداث
المبحث  الأول : أصول الأسرة الزنكية :
ينتمي عماد الدين بن آق سنقر بن عبدالله آل ترغان إلى قبائل (السبا يو) التركمانية وقد حظي والده أبو سعيد آق سنقر الملقب بقسيم الدولة، والمعروف بالحاجب ( ) ، باهتمام المؤرخين بسبب الدور الذي لعبه على مسرح الأحداث السياسية والعسكرية للدولة السلجوقية ( ) ، وكان آق سنقر من أصحاب السلطان ملكشاه الأول و أترابه ( )، وقيل إنه كان لصيقه، ومن أخصَّ أصدقائه ( )، فقد نشأ الرجلان وترعرعاً معاً، ولما تسلم ملكشاه الحكم عينه حاجباً له، وحظي عنده فكان من المقرّبين وأنسن إليه، ووثق به حتى أفضى إليه بأسراره، واعتمد عليه في مهماته، فكان أبرز قادته ( ).
أولاً : مكانة آق سنقر عند السلطان ملكشاه :
من أقوى الدلائل على الحظوة التي حازها آق سُنقُر عند السلطان، منحه لقب "قسيم الدولة"، وهذا يعني الشريك، وكانت الألقاب في تلك الآونة مصونة لا تعُطى إلا لمستحقيها ( )، ويبدو أنه قاسم ملكشاه شؤون الحكم والإدارة، بالإضافة إلى ذلك، فإن آق سُنْقُر كان يقف إلى يمين سدة السلطنة ولا يتقدمه أحد، وصار ذلك أيضاً لعقبه من بعده ( ).
والراجح أن منح آق سُنقُر هذه اللقب يعود إلى ثلاثة أسباب :
1- محبة السلطان ملكشاه له ودعمه أياه.
2- انتسابه إلى قبيلة تركية لها مكانتها وأهميتها بين القبائل السلجوقية الحاكمة، وأنه كان ذا مكانة رفيعة فيها.
1- أنه أدّى خدمات جليلة لمكشاه، استحقت منحه هذا اللقب ( ).
واشترك أق سنقر إلى جانب السلاجقة في معارك عديدة، فقد سيره ملكشاه عام 477ﻫ مع عميد الدولة بن فخر الدولة في محاولة للاستيلاء على الموصل وطرد العقيليين منها، وقد تمكنا من إنجاز هذه المهمة ( )، وبعد مرور سنتين اشترك مع السلطان ملكشاه في انتزاع حلب من نواب العقيليين فولاه إياها تقديراً لجهوده ( ) وقد تسلم آق سنقر منصبه في حلب وأعمالها، كمنيع واللاذقية وكفر طاب ( ) واستطاع أن يوسع نطاق ولايته بالاستيلاء على حمص عام 483ﻫ، وحصن أفاميه عام 484ﻫ. كما فرض طاعته على صاحب شيرز عام 481ﻫ، وفي عام 485ﻫ اشترك مع ملكشاه في مهاجمة العقيليين والانتصار عليهم قرب الموصل وظلت علاقة آق سنقر بالسلطان ملكشاه قائمة على الطاعة والتفاهم المشترك، ولم يسع يوماً إلى الخروج على أوامره ورفض السلطان بدوره الاستجابة لشكاوى معارضي آق سنقر أو إقرار مساعيهم للتخلص منه ( ).
ثانياً : سياسة آق سنقر في حلب الداخلية :
بدأت، مع تولي آق سنقر الحكم في حلب، مرحلة جديدة من حكم السلاجقة المباشر لهذه المدينة، وانتهى حكم القبائل العربية لهذه الإمارة وأزيحت عن مسرح الأحداث في شمالي بلاد الشام، ويُعدُّ سُنْقُر أول حاكم سلجوقي لإمارة حلب بعدما كانت سنوات طويلة من التمزق والحروب بين القبائل العربية فيما بينها، ثم بينها وبين التركمان القادمين من الشرق، ودام حكمه ثماني سنوات تقريباً كانت مرحلة هامة في تاريخ الإمارة والمنطقة بفعل أنها أحدثت تغييرات أساسية شملت كل جوانب الحياة ( ) ، لقد تسلم آق سُنقر الحكم في ظل حالة من الفوضى التامة بفعل عاملين دخلي وخارجي، يتمثل الأول بصراع الحكام، وتدبيرهم المؤامرات، واستعانتهم بالقوى الكبرى في المنطقة كالخلافة العباسية في بغداد، والدولة الفاطمية في مصر بالإضافة إلى الدولة السلجوقية الجديدة الطامعة في التوسع في المنطقة هي :
1- قوة القبائل العربية البدوية وبخاصة الكلابيين العقيليين والمرداسيين لاستعادة نفوذها المسلوب.
2- قوة التركمان المدمرة التي كانت تغير على المنطقة.
3- قوة الدولة البيزنطية التي كانت تستغل الصراعات الداخلية لاستعادة نفوذها المفقود.
شهدت حلب نتيجة ذلك أوضاعاً من عدم الاستقرار السياسي انعكس سلباً على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والأمنية فيها في خضم هذه الصراعات، تغافل الحكام عن الاهتمام بالشؤون الداخلية للسكان، كما أهملوا تطوير الحياة الاقتصادية، مما أدَّى إلى تراجع واردات البلاد وعمدوا إلى استنزاف السكان بفرض ضرائب أخرى وأتاوات باهظة، كلما أعوزهم المال، حتى أثقلوا كاهلهم، فتذمروا من سوء الأوضاع، وكثر انتشار اللصوص وقطاع الطرق، مما أدَّى إلى انعدام الأمن على الطرق، فتعطلت الحركة التجاري، وقلَّت السلع في الأسواق، وتراجعت موارد الزراعة لعدم تمكُّن الفلاحين من القيام بالحرث والزرع وجني المحصول فبرزت في هذه الظروف الصعبة، منظمة الأحداث التي أخذت على عاتقها رعاية مصالح أفرادها ومقاومة التعديات الخارجية ( ) وضع آق سنقر نصب عينيه هدفاً راح يعمل على تحقيقه، تمثل في إعادة الأمور إلى نصابها ولذلك شرع في :
1- إقامة الحدود الشرعية وطارد اللصوص وقطاع الطرق وقضى عليهم وتخلص من المتطرفين في الفساد، كما قضى على الفوضى التي كانت متفشية في البلاد، وعامل أهل حلب بالحسنى حتى " توارثوا الرحمة عليه إلى آخر الدهر " ( ).
2- كتب إلى عمال الأطراف، لم يكتف آق سُنقُر بحصر تدابيره الإصلاحية في حلب بل كتب إلى عمال الأطراف التي خضعت لحكمه أن يحذو حذوه، وتابع أعماله بنفسه.
3- وأقرّ قسيم الدولة مبدأ المسؤولية الجماعية، فإذا تعرض أحد التجار للسرقة في قرية ما، أو إذا هوجمت قافلة أو نهبت، فإن أهل القرية التي جرت الحادثة فيها يكونون مسؤولين جماعياً عن دفع قيمة الضرر اللاحق بهؤلاء ( ) ونتيجة لهذا المبدأ، هبَّ سكان القرى لمساعدة الحكام في فرض الأمن، فإذا وصل تاجر إلى قرية أو مدينة، وضع أمتعته وبضاعته إلى جانبه ونام وهو مطمئن، بحراسة أهلها، وهكذا شارك السكان بتحمل المسؤولية في حفظ الأمن حتى أمنت الطرق، وتحدث التجار والمسافرون بحسن تدابيره وسيرته ( ).
ونتيجة لاستتباب الأمن في كافة أرجاء إمارة حلب، نشط التجارس، وامتلأت الأسواق بالبضائع الواردة إليها من كل الجهات واستقر الوضع الاقتصادي، وتداعى الناس إليها للكسب فيها والعيش برغد( ). وقد اعترف المؤرخون بحسن سياسة آق سُنقُر الداخلية، والأمنية، وأجمعوا على مدحه.
- قال ابن القلانسى : وأحسن فيهم السيرة، وبسط العدل في أهليها، وحمى السابلة للمترددين فيها، وأقام الهيبة، وأنصف الرعية، وتتبع المفسدين، فأبادهم، وقصد أهل الشر فأبعدهم، وحصل له بذلك من الصيت، وحسن الذكر، وتضاعف الثناء والشكر ... فعمرت السابلة للمترددين من السفار وزاد ارتفاع البلد بالواردين بالبضائع من جميع الجهات والأقطار ( ) .
- وقال ابن واصل : .. ورخصت الأسعار في أيام الأمير قسيم الدولة وأقيمت الحدود الشرعية، وعمرت الطرقات وأمنت السبل، وقتل المفسدون بكل فج، وكان كلما سمع بمفسد أو بقاطع طريق أمر بصلبه على أبواب المدينة ( ).
- وقال ابن الأثير : ... وكان قسيم الدولة أحسن الأمراء سياسة لرعيته، وحفظاً لهم، وكانت بلاده بين رخص عام، وعدل شامل وأمن واسع ( ).
- وقال عنه ابن كثير : .. بأنه كان من أحسن الملوك سيرة، وأجودهم سريرة وكان الرعية في أمن وعدل ورخص ( ).
وأما من حيث إنجازاته العمرانية، فقد جدَّد عمارة منارة حلب بالجامع عام (482ﻫ/1089م) واسمه منقوش عليها إلى اليوم وفي ذلك قصة لطيفة ذكرها بن واصل مفادها : في سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة أسس القاضي أبو الحسن بن الخشاب منارة حلب، وكان بحلب بيت معبد نار، قديم العمارة، وصار بعد ذلك أتون حمّام، فأخذ ابن الخشاب حجارته، وبنى بها المنارة، فأنهى بعض حُسَّاده إلى الأمير قسيم الدولة خبره، فغضب على القاضي ابن الخشاب، وقال : هدمت معبداً هو لي وملكي فقال : أيها الأمير، هذا، معبد للنار، وقد صار أتوناً ( )، فأخذت حجارته لأعمَّر بها معبداً للإسلام، يُذكر فيه الله وحده لا شريك له وكتبت اسمك عليه، وجعلت الثواب لك، فإن رسمت غرمت ثمنه لك، ويكون الثواب لي، فعلّت فأعجب الأمير كلامه، واستصوب رأيه وقال : بل الثواب لي، وأفعل ما تريد فشرع في عمارة المنارة في سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة ( ) .
ثالثاً : سياسته الخارجية :
عادت سياسة أق سنقر الحازمة بنتائج هامة على المنطقة، فساد الأطمئنان، وأمنت الطرق وانتشر العمران، فانتعشت التجارة، وقد بلغ من سيطرة آق سنقر على الأمن في قرى حلب وضياعها أن أرسل من ينادي فيها أن لا يغلق أحد بابه، وأن يتركوا آلاتهم الزراعية في أماكنها ليلاً ونهاراً ( )، ومن ثم جاءت شهرته بناء على ما أنجزه في هذا المجال ( ) وبعد أن نظم قسيم الدولة إمارته الداخلية، وحقَّق الأمن والاستقرار أراد أن يقوم بدور خارجي وكانت بلاد الشام، عبر تاريخها، عرضه للنزاعات من أجل السيطرة بين الشمال والجنوب. وقد مثَّلت دمشق، منُذ القرن السابع الميلادي، الجنوب، في حين مثَّلت حلب الشمال وكانت المفارقات بين الشمال والجنوب في بعض الأحيان اجتماعية واقتصادية ولكن غالباً ما كانت سياسية، حيث حاول حكام دمشق من جهتهم، وحكام حلب أيضاً مَّد سيطرتهم كلياً على بلاد الشام، وتبعاً لهذه القاعدة حدث صراع بين تُتُش وآق سُنْقُر( )، فقد وقف في وجه تُتش الطامع في بلاده، وأن يتوسع على حساب جيرانه، وبدا له قبل الإقدام على تنفيذ هذا المشروع أن ينشىء جيشاً منظماً يعتمد عليه في حروبه وشرع في ذلك وكانت نواة هذا الجيش تمثَّلت بالقوة التي تركها ملكشاه معه عندما رحل عن حلب وتعدادها أربعة آلاف مقاتل، ثم تعَّدت الستة آلاف ( ). وقد اعتمد آق سُنْقُر على نوعين من القوات العسكرية.
****************
مقتطفات من الكتاب
*********

المبحث الخامس : فقه نور الدين في التعامل مع الدولة الفاطمية :
أولاً : جذور الشيعة الإسماعيلية والدولة الفاطمية :
بعد موت الإمام جعفر بن محمد الصادق افترقت الشيعة إلى فرقتين ممن نسبو أنفسهم إلى جعفر الصادق : فرقة : ساقت الإمامية إلى ابنه موسى الكاظم، وهؤلاء هم الشيعة الاثنى عشرية. وفرقة : نفت عنه الإمامة وقالت : إن الإمام بعد جعفر، هو ابنه إسماعيل وهذه الفرقة عرفت بالشيعة الإسماعيلية ( ) . قال عبد القاهر البغدادي في شأن الإسماعيلية : وهؤلاء ساقوا الإمامة إلى جعفر وزعموا أن الإمام بعده ابنه إسماعيل ( ) . وقال الشهرستاني : الإسماعيلية امتازت عن الموسوية وعن الاثنى عشرية بإثبات الإمامة لإسماعيل بن جعفر وهو ابنه الأكبر المنصوص عليه في بدء الأمر قالوا : ولم يتزوج الصادق رحمه الله على أمه - أم إسماعيل - بواحدة من النساء ولا تسرى بجارية كسنة رسول الله في حق خديجة رضي الله عنها، وكسنة علي رضي الله عنه في حق فاطمة رضي الله عنها ( ) . فالإسماعيلية إحدى فرق الشيعة وهي تنسب إلى إسماعيل بن جعفر الصادق ولهم ألقاب كثيرة عرفوا بها غير لقب الإسماعيلية منها الباطنية، وإنما أطلق عليهم هذا اللقب لقولهم بأن لكل ظاهر باطناً، ولكل تنزيل تأويل، ومنهم القرامطة والمزدكية، وقد عرفوا بهذين اللقبين في بلاد العراق، ويطلق عليهم في خراسان التعليمية الملحدة وهم لايحبون أن يعرفوا بهذه الأسماء، وإنما يقولون : نحن الإسماعيلية لأنا تميزنا عن فرق الشيعة بهذا الاسم ( ) . وقد قامت الدولة الفاطمية الرافضية عام 296ﻫ/909م في الشمال الأفريقي على يدي أبو عبدالله الشيعي بعد سقوط القيروان أمام قواته وهروب زيادة التغلبي إلى مصر في جماد الآخرة عام 296ﻫ ( ) وكانت بيعة عبيد الله المهدي في القيروان عام 297ﻫ/910م وانتهت ولاية أبي عبد الله الشيعي بعد أن دامت عشر سنوات على قول بعض المؤرخين ( ) .
1- عبيد الله المهدي الخليفة الشيعي الرافضي الأول : هو عبيد الله أبو محمد أول من قام من الخلفاء العُبيدية الباطنية الذين قلبوا الإسلام، وأعلنوا بالرفض، وأبطنو مذهب الإسماعيلية وبثوا الدُّعاة يستغوون الجبليَّة والجهلة ( ) ، وذكر الذهبي ما قيل عنه في نسبه ثم قال : والمحققون على أنه دعيُّ بحيث إنَّ المعزَّ منهم لما سأله السيد ابن طَبَاطَبا عن نسبه، قال غدا أخرجه لك، ثم أصبح وقد ألقى عُرَمة من الذهب، ثم جَذبَ نِصْف سيفه من غمِدِه فقال : هذا نسبي، وأمرهم بنهب الذهب، وقال : هذا حسبي ( ) وأما مفتي الديار الليبية رحمه الله الشيخ طاهر الزاوي فقد قال في ترجمة عبيد الله المهدي : هو مؤسسة الدولة العبيدية وأول حاكم فيها وهو عراقي الأصل، ولد في الكوفة سنة 260ﻫ واختبأ في بلدة سلمَّية بؤرة الإسماعيلية الباطنية في شمال الشام. ومن يوم أن ولد إلى أن استقر في سلميَّة كان يعرف باسم سعيد بن أحمد بن محمد بن عبدالله بن ميمون القداح، وفي منطقة سَلَمَّية مقر الإسماعيلية مات علي بن حسن بن أحمد بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق، وأقام له الإسماعيلية مزارات سرية، وقرروا نقل الإمامة من ذرية إسماعيل بن جعفر الصادق إلى أنبهم بالنكاح الروحي ( ) ، ثم قال : هذا أصل عبيد الله المهدي، وهذا أصل العبيديين المنسوبين إليه ( ) ويذكر أن عبيد الله الشيعي عندما دخل إفريقيا " يعني تونس " : أظهر التشيع القبيح وسب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأزواجه حاشا علي بن أبي طالب والمقداد وعمار بن ياسر وسلمان الفارسي وأبا ذر الغفاري، وزعم أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ارتدود بعده غير هؤلاء الذين ذكروا ( ) . وكان أهل السنة بالقيروان أيام بني عبيد في حالة شديدة من الاهتضام والتستر كأنهم ذمة ( ) تجري عليهم في كثير من الأيام محن شديدة، ولما ظهر بنو عبيد أمرهم ونصبوا حسيناً الأعمى السباب - في الأسواق للسب بأسجاع لُقَّنها يتوصل منها إلى سب الرسول صلى الله عليه وسلم في ألفاظ حفظها ( ) . مثل؛ العنوا الغار وما وعى والكساء وما حوى وغير ذلك والغار المقصود منه غار ثور الذي اختفى فيه الرسول صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه عن أعين المشركين التي كانت تطاردهم في قصة الهجرة، وهذا اللفظ فيه سب للبني صلى الله عليه وسلم وأبي بكر على حد سواء وكذلك فيه سب لآل البيت الذين حواهم الكساء ( ). وعلقت رؤوس الأكباش والحمر على أبواب الحوانيت، عليها قراطيس معلقة مكتوب عليها أسماء الصحابة، واشتد الأمر على أهل السنة، فمن تكلم أو تحرك قتل ومثَّل به ( ).
2- من جرائم العبيديين في الشمال الأفريقي : ارتكب الشيعة الرافضة الإسماعيلية جرائم نكرة منها :
أ- غلو بعض دعاتهم في عبيد الله المهدي : حتى أنه أنزله منزلة الإله وأنه يعلم الغيب، وأنه نبي مرسل، يقول بدر الدين بن قاضي شهبة : وكان له (أي المهدي) دعاة بالمغرب يدعون الناس إليه، وإلى طاعته، ويأخذون عليهم العهود ويلقون إلى الناس من أمره بحسب عقولهم، فمنهم من يلقون إليه أن المهدي ابن رسول الله وحجة الله على خلقه، ومنهم من يلقون إليه أنه الله الخالق الرازق ( ) وأما زعمهم بأنه إله فيظهر من أفعال دعاته وأقوالهم وأشعارهم، فقد كان هناك رجل يدعى أحمد البلوي النحاس : يصلي إلى رقادة أيام كان عبيد الله بها، وهي منه إلى المغرب، فلما انتقل إلى المهدية وهي منه إلى الشرق صلى إليها ( ) باعتبار أنها مكة المكرمة - شرفها الله - وهذا الاعتقاد كان سائداً عند كثير من الناس يومها، فهذا أحد شعراء بني عبيد يقول في المهدية بعد انتقال المهدي إليها:
ليهنك أيها الملك الهمام
 ٭٭ قدوم فيه للدهر ابتسام

لقد عظمت بأرض الغرب دار
 ٭٭ بها الصلوات تقبل والصيام

هي المهدية الحرم الموقى
 ٭٭ كما بتهامة البلد الحرام

كأن مقام إبراهيم فيه
 ٭٭ ترى قدميك إن عدم المقام

وإن لثم الحجيج الركن أضحى
 ٭٭ لنا بعراص قصركم التثام

لك الدنيا وسلك حيث كنتم
  ٭٭ فكلكم لها أبداً إمام ( )


ومن الشعر أيضاً في تأليهه ما مدحه به محمد البديل حيث يقول :

حل برقادة المسيح
 ٭٭ حل بها آدم ونوح
 
حل بها أحمد المصطفى
 ٭٭ حل بها الكبش والذبيح

حل بها الله ذو المعالي
 ٭٭ وكل شيء سواه ريح


وأما زعمهم أنه كان يعلم الغيب، فيظهر من إيمان بعضهم حيث كان إذا أقسم يقول : وحق عالم الغيب والشهادة مولانا الذي برقادة ( ). ومعرفة الغيب من خصوصيات الألوهية ولا يعلم الغيب إلا الله قال تعالى : " قل لا يعلم من السموات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون " (النمل : 65) وقال تعالى : " وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين " (الأنعام، آية : 59). كما أن الحلف لا يكون بمخلوق وإنما يكون بالخالق، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت. وجاءت الأحاديث في النهي عن الحلف بالآباء ( ).
ب- التسلط والجور : وإعدام كل من يخالف مذهبهم، هذا بالإضافة إلى كل ما ذكرناه آنفاً على لسان القاضي عياض في طعنهم في الصحابة وتعليق رؤوس الأكباش - الدالة في زعمهم على أسماء الصحابة وغير ذلك من الأفعال القبيحة والشنيعة التي كانوا يقومون ( ) بها وكان أجبار الناس على الدخول في مذهبهم بوسيلة التخويف بالقتل وقد نفذوا حكم الإعدام في أربعة آلاف رجل مرّة واحدة قال القابسي : إن الذين ماتوا في دار البحر - سجن العبيديين - بالمهدية من حين دخل عبيد الله إلى الآن أربعة آلاف رجل في العذاب ما بين عالم وعابد ورجل صالح ( ) . هذا عدا من كانوا يقتلون دون سجن ويمثل بهم في شوارع القيروان، فأثر ذلك على سير الحياة العلمية ومع ذلك فإن هذه المحنة لم تزد أهالي المغرب الإسلامي إلا عزيمة وصبراً واحتساباً وتمسكاً  بالكتاب والسنة.
ت - تحريم الافتاء على مذهب الإمام مالك : حرّموا على الفقهاء الفتوى بمذهب الإمام مالك، واعتبروا ذلك جريمة يعاقب عليها بالضرب والسجن أو القتل أحياناً، ويعقب ذلك نوع من الإرهاب النفسي، حيث يدار بالمقتول في أسواق القيروان وينادى عليه : هذا جزء من يذهب مذهب مالك، ولم يبُيحوا الفتوى إلا لمن كان على مذهبهم، كما فعلوا بالفقيه المعروف بالهزئي : أبو عبد الله محمد بن العباس بن الوليد المتوفي في عام تسع وعشرين وثلاثمائة ( ) .
ث- إبطال بعض السنن المتواترة والمشهورة : والزيادة في بعضها كما فعلوا في زيادة : حي على خير العمل : في الأذان وإسقاط صلاة التراويح ( ) ، بعد أن تُرك الناس يصلونها عاماً واحداً، ولهذا ترك أكثر الناس الصَلاة في المساجد ويا ويح من يسقط عبارة : حي على خير العمل من الأذان، من ذلك ماروي أن عروسى المؤذن ت 317ﻫ وكان مؤذناً في أحد المساجد، شهد عليه بعض الشيعة أنه لم يقل في أذانه، حي على خير العمل فكان جزاؤه أن قطع لسانه ووضع بين عينيه وطيف به في القيروان ثم قتل ( ) ، إلا أن بعض العلماء فطن لكيد العبيديين وأغراضهم الخبيثة من وراء ذلك وهو إخلاء المساجد من المصلين، ودفعاً لهذه المفسدة أذنوا للمؤذنين أن يزيدوا حي على خير العمل : لأن تركها يؤدي إلى مفاسد أعظم ومن هؤلاء العلماء : أبو الحسن علي بن محمد بن مسرور العبدي الدباغ ت 359ﻫ ( ) ، الذي كان من أهل الورع والعبادة والخشوع فقد فطن لغرض العبيديين، فكانوا أن قال للمؤذنين : أذنوا على السنة في أنفسكم فإذا فرغتم فقولوا : حي على خير العمل، فإنما أراد بنو عبيد إخلاء المساجد لَفِعلُكم هذا - وأنتم معذورون - خير من إخلاء المساجد ( ).
ج- منع التجمعات : حرصت الدولة الفاطمية الرافضية على منع التجمعات خوفاً من الثورة والخروج عليهم ولذلك جعلوا بوقاً يضربونه في أول الليل فمن وجُد بعد ذلك ضرب عنقه، كما أنهم كانوا يفرقون الناس الذين يجتمعون على جنازة من يموت من العلماء ( ) ، وهذا الفعل لا يزال مستمراً في الأنظمة القمعية البوليسية التي لا ترى إلا ما يراه حاكمها وطاغوتها وفرعونها " ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد " (غافر، آية : 29).
ح- إتلاف مصنفات أهل السنة : أتلفوا مصنفات أهل السنة، ومنعوا الناس من تداولها كما فعلوا بكتب أبي محمد ابن أبي هاشم التُّجبي ت 346ﻫ توفي وترك سبعة قناطير كتب، كلها بخط يده، فرفعت إلى سلطان بني عبيد فأخذها : ومنع الناس منها كيداً للإسلام وبغضاً فيه ( ).
خ- منع علماء أهل السنة من التدريس : منعوا علماء أهل السنة من التدريس في المساجد، ونشر العلم، والاجتماع بالطلاب، فكانت كتب السنة لا تقرأ إلا في البيوت خوفاً من بني عبيد فكان أبو محمد بن أبي زيد، وأبو محمد بن التبان وغيرهما، يأتيان إلى أبي بكر بن اللباد شيخ السنة بالقيروان في خفية، ويجعلان الكتب في أوساطهما حتى تبتل بالعرق خوفاً من بنى عبيد ( ) . وهذا المسلك لا زالت الدول القمعية في العالم الإسلامي تمارسه على شعوبها فبعضها تمنع هذا الأمر كليَّا، وبعضها تسمح ببعض أمور الدين التي لا تصطدم مع مصالح الدول الكبرى.
س- عطلوا الشرائع، وأسقطوا الفرائض عمّن تبع دعوتهم حيث يقع إدخالهم إلى داموس ويدخل عليهم عبيد الله لابساً فرواً مقلوباً داباً على يديه ورجليه فيقول لهم : (بَح) ثم يخرجهم ويفسر لهم هذا العمل بقوله : فأما دخولي على يدي ورجلي فإنما أردت بذلك أن أعلمكم أنكم مثل البهائم لا شيء، ولا ضوء ولا صلاة، ولازكاة، ولا أي فرض من الفروض، وسقط جميع ذلك عنكم، وأما لباس الفرو مقلوبا فإنما أردت أن أعلمكم أنكم قلبتم الدين، وأما قولي لكم بَح، فإنما أردت أن أعلمكم أن الأشياء كلها مباحة لكم من الزنى وشرب الخمر ( ).
ش- إجبار الناس على الفطر قبل رؤية الهلال : وكانوا كثيراً ما يجبرون الناس على الفطر قبل رؤية هلال شوال ( ) ، بل قتلوا من أفتى بأن لا فطر إلا مع رؤية الهلال كما فعلوا بالفقيه ابن الحُبلى قاضي مدينة برقة قال الذهبي في ترجمته : الإمام الشهيد قاضي مدينة برقة، محمد بن الحُبُلى أتاه أمير برقة، فقال : غداً العيد، قال : نرى الهلال، ولا أفطر الناس، وأتقلَّد إثمهم، فقال : بهذا جاء كتاب المنصور - وكان هذا من رأي العبيدية يفطَّرون بالحساب، ولا يعتبرون رؤية - فلم يُر هلال، فأصبح الأمير بالطبول والبنود وأهبة العيد فقال القاضي : لا أخرج ولا أصلى، فأمر الأمير رجلاً خطب. وكتب بما جرى إلى المنصور، فطلب القاضي إليه، فأحضر، فقال له : تَنصَّلْ، وأعفو عنك، فامتنع، فأمر، فُعلقَِّ في الشمس إلى أن مات، وكان يستغيث من العطش، فلم يُسقَ، ثم صلبوه على خشبة فلعنة الله على الظالمين . ( ) 
ع- إزالة آثار خلفاء السنة : عمل حكّام الدولة الفاطمية في المغرب الإسلامي على إزالة آثار بعض من تقدمهم من الخلفاء السنيين فقد أصدر عبيد الله أمراً بإزالة أسماء الحكام الذين بنو الحصون والمساجد وجعل اسمه بديلاً منهم واستول هذا الشيعي الرافضي الباطني على أموال الأحباس وسلاح الحصون، وطرد العَّباد والمرابطين بقصر زياد الأغلبي وجعله مخزناً للسلاح ( ) .
ل- دخول خيولهم المساجد : من جرائم عبيد الله الكثيرة أن خيله دخلت المسجد، فقيل
لأصحابها : كيف تدخلون المسجد ؟ فقالوا : إن أوراثها وأبوالها طاهرة؛ لأنها خيل المهدي، فأنكر عليهم قيم المسجد، فذهبوا به إلى المهدي فقتله، يقول ابن عذارى : وامتحن عبيد الله في آخر حياته بعلة قبيحة : دود في آخر مخرجه يأكل أحشاءه فلم يزل به حتى هلك ( ) إن المسلمين المعاصرين يقرءون تاريخ الدولة الفاطمية العبيدية لا يعلمون إلا ما كتب لهم عن التاريخ السياسي لهذه الدولة، ذهب فلان وخلفه فلان، وأنها دولة تحب العلم ونتشره، والمقصود نشر كتب الفلاسفة ولكن القليل من يذكر بطش هؤلاء الباطنية بالعلماء من أهل السنة، بل إن الطلبة الذين يدرسون التاريخ الإسلامي يذكرون المعز لدين الله الفاطمي وكأنه بطل من أبطال التاريخ، وهذا كله نتيجة لغياب التفسير العقدي الإسلامي لتاريخنا، بل إن بعض المؤرخين الذين كتبوا لنا التاريخ تأثروا بمدارس الاستشراق، أو بالفكر الشيعي الرافضي، وبذلك لهم الأموال لطمس الحقائق وتزوير التاريخ، ولا زال الصراع الباطني والإسلامي ممتداً إلى يومنا هذا، فالأفكار لا تموت وإنما تتغير الأشكال والوجوه والمسوح وأن أعداء الإسلام لا يزالون يعلمون سراً وإعلاناً ليلاً ونهاراً للقضاء على العقيدة الصحيحة التي تلقتها الأمة من الحبيب المصطفى وأصحابه الغر الميامين وأهل بيته الطاهرين الطيبين رضي الله عنهم أجمعين.
3- أساليب المغاربة في مواجهة الدولة الفاطمية العبيدية : لقد سلك علماء السنة المغاربة في مقاومة التشيع أساليب عديدة، منها المقاومة السلبية، والمقاومة الجدلية والمقاومة المسلحة، وكانت هناك أنواع أخرى من المقاومة الجدلية والمقاومة المسلحة، وكانت هناك أنواع أخرى من المقاومة، مثل عن طريق التأليف وعن طريق نظم الشعر .. إلخ.
أ- المقاومة السلبية : أولى الوسائل التي استعملها علماء المغرب السنة التي قاطع بها علماء المغرب كل ماله صلة بالتشيع، أو بالحكم القائم وتمثلت تلك المقاطعة في مقاطعة قضاة الدولة وعمالها، ورفض من استطاع منهم دفع الضرائب لها ( ) ومن مظاهر هذه المقاومة مقاطعة حضور صلاة الجمعة التي كانت مناسبة للعن أصحاب رسول الله على المنابر : فتعطلت بذلك الجمعة دهراً بالقيروان ( ) ، ومنهم من اكتفى بالدعاء عليهم كما فعل الواعظ عبد الصمد ( ) ، وكما كان يفعل أبو إسحاق السبائي الزاهد إذا رقى رقية يقول بعد قراءة الفاتحة وسورة الإخلاص والمعوذتين : وببغضي في عبيد الله وذريته، وحبي في نبيك وأصحابه وأهل بيته أشف كل من رقيته ( ) ومن مظاهر المقاومة السلبية أيضاً : مقاطعة كل من يسير في ركب السلطان واعتزاله وكل من كانت له صلة بهذا السلطان أو سعى إلى تبرير وجوده عملاً بقوله تعالى : " لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حادَّ الله ورسوله ولو كانوا ءاباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم " (المجادلة، آية : 22). فهذا خلف بن أبي القاسم البراذعي (ت نحو 400ﻫ) ( ) قام عليه فقهاء القيروان بصلته بملوك بني عبيد وقبوله هداياهم وتأليفه كتابا في تصحيح نسبهم، وزادت النقمة عليه عندما وجدوا بخطه الثناء على بني عبيد متمثلاً ببيت ( ) الخطيئة :
أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنا
 ٭٭ وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا

لذلك كله أفتى فقهاء القيروان بطرح كتبه وعدم قراءتها وإزاء ذلك اضطر هو إلى الهجرة إلى الصقلية حيث حصلت له خطوة كبيرة عند أميرها ( ).
ب- المقاومة الجدلية : كانت المقاومة الجدلية هي أقوى وأوسع أنواع المقاومة التي قام بها علماء السنة المغاربة ضد الشيعة الرافضة المنحرفين، وقد سطع في سماء هذه المساجلات العلمية والمناظرات العقدية عدد كبير من العلماء، وكانوا لسان أهل السنة الناطق والذاب عن بيضة هذا الدين، وممن لمع نجمه في ميدان المناظرة لبني عبيد حتى ضربت إليه أكباد الإبل من الأمصار المختلفة لعلمه بالذب عن مذهب أهل السنة وكان هذا الإمام - فضلاً عن براعته في الجدل والمناورة شجاعاً مقداماً لإيهاب الموت، من ذلك ما ذكره المالكي والدباغ من أن عبد الله المعروف بالمحتال ( ) ، صاحب القيروان قد شدد في طلب العلماء، فاجتمعوا بدار ابن أبي زيد القيرواني فقال لهم ابن تبان : أنا أمضي إليه، أبيع روحي لله دونكم، لأنه إن أتى عليكم وقع على الإسلام وهن عظيم ( ) . وفعلاً ذهب إليه وأقام عليه الحجة هو وجماعته الذين جاء بهم ليناظروه وبعد أن هزمهم في مجلس المناظرة لم يخجلوا أن يعرضوا عليه أن يدخل في نحلتهم ولكنه أبى وقال : شيخ له ستون سنة يعرف حلال الله وحرامه ويرد على اثنتين وسبعين فرقة يقال له هذا ؟ لو نشرتموني في اثنتين ما رفقت مذهبي ( ) ، ولما خرج من عندهم بعد يأسهم منه تبعه أعوان الدولة الفاطمية العبيدية وسيوفهم مصلتة عليه ليخاف من يراه من الناس على تلك الحال، فإذا به وهو تحت الضغط يهدي الناس ويقدم لهم النصيحة، ويقول لهم دون خوف ولا وحل : تشبشوا، ليس بينكم وبين الله إلا الإسلام، فإن فارقتموه هلكتم ( ) . وكان يخشى على العامّة من فتنة بني عبيد ويقول : والله ما أخشى عليهم الذنوب، لأن مولاهم كريم، وإنما أخشى عليهم أن يشكوا في كفر بني عبيد فيدخلوا النار ( ) .
وممن اشتهروا بالذب عن الإسلام وأشهروا حجج الحقق وبراهين العدل وإقامة الحجة على دعاة الدولة الفاطمية أبو عثمان سعيد بن الحداد 302ت) لسان أهل السنة وابن حنبل المغرب قال عنه السلمي : كان فقيها صالحاً فصيحاً متعبداً أوحد زمانه في المناظرة والرد على الفرقة ( ) . وقال عنه الخشني : كان يرد على أهل البدع المخالفين للسنة وله في ذلك مقامات مشهودة وآثار محمودة ناب عن المسلمين فيها أحسن مناب، حتى مثله أهل القيروان بأحمد بن حنبل ( ) . وقال عنه المالكي : وكانت له مقامات في الدين مع الكفرة المارقين أبي عبدالله الشيعي وأبي العباس أخيه وعبيد الله أبان فيها كفرهم وزندقتهم وتعطيلهم ( ) ، حاولت الدولة الفاطمية بالمغرب أخبار الناس على مذهبهم بطريقة المناظةر وإقامة الحجة مرة والتهديد بالقتل مرة أخرى، فارتاع الناس من ذلك ولجؤوا إلى أبي سعيد وسألوه التقية فأبى وقال : قد أربيت على التسعين، ومالي في العيش حاجة، ولا بدلي من المناظرة عن الدين أو أن أبلغ في ذلك غدراً ففعل وصدق، وكان هو المعتمد عليه بعد الله في مناظرة الشيعة ( ) ، ومن أشهر هذه المناظرات.
- التفاضل بين أبي بكر وعلي رضي الله عنهما : وأول هذه المناظرات كما يذكر صاحب المعالم حول التفاضل بين أبي بكر وعلي رضي الله عنهما فبعد الاجتماع بين ابن الحداد وأبي عبيد الله الشيعي؛ سأل أبو عبد الله الشيعي ابن الحداد : أنتم تفضلون على الخمسة أصحاب الكساء غيَرهم - ؟ يعني بأصحاب الكساء : محمداً صلى الله عليه وسلم وعلياً وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم، ويعني يغيرهم : أبا بكر رضي الله عنه - فقال أبو عثمان : أيما أفضل ؟ خمسة سادسهم جبريل عليه السلام ؟ أو اثنان الله ثالثهما ( ) ؟ فبهت الشيعي.
- موالاة علي رضي الله عنه : في هذه المناظرة أراد عبيد الله الشيعي أن يثبت أن الموالاة في قوله عليه الصلاة والسلام : من كنت مولاه فعلى مولاه ( ) . بمعنى العبودية : قال له : فما بال الناس لا يكونون عبيداً لنا فقال ابن الحداد : لم يرد ولاية رق وإنما أراد ولاية الدين، ونزع بقوله تعالى : " ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذا أنتم مسلمون " (آل عمران ، آية : 79 - 80) فما لم يجعله الله لنبي لم يجعله لغير نبي، وعلى رضي الله عنه لم يكن نبياً وإنما كان وزيراً للنبي صلى الله عليه وسلم ( ) هذه إشارات عابرة وهي جزء صغير من مجموع المناظرات التي دارت بين الفريقين.
ج- المقاومة المسلحة : لم يكتف علماء المغرب بالمقاومة السلبية والمقاومة الجدلية، بل منهم من حمل السلاح وخرج ليقاتلهم، فهذا جبلة بن حمود الصدفي ترك سكن الرباط ونزل القيروان، فلما كلم في ذلك قال : كنا نحرس عدواً بيننا وبينه البحر، والآن حل هذا العدو بساحتنا، وهو أشد علينا من ذلك وقال : جهاد هؤلاء أفضل من جهاد أهل الشرك ( ) . واستدل بقوله تعالى : " يا أيهّا الذين ءامنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار " (التوبة : 123) ومنهم الإمام : أبو القاسم الحسن بن مفرج ت 309ﻫ الذي كان من أوائل من خرج على الشيعة ومات شهيداً، قتله عبيد الله المهدي وصلب هو ورجل يدعى أبا عبد الله السدري الذي كان من الصالحين وكان قد بايع على جهاد عبيد الله وجعل يحث الناس على جهاده فبلغ خبره عبيده الله، فأمر بقتله ( ) ، ثم إن العلماء خطوا خطوة أكبر بإصدار فتوى بوجوب قتال الدولة الفاطمية العبيدية وكان ذلك بعد اجتماع وتشاور بين علماء السنة وتحالفوا مع أهل القبلة ضد الفاطميين الذين حكموا عليهم بالكفر لمعتقداتهم الفاسدة قال الشيخ الفقيه أبو بكر بن عبد الرحمن الخولاني : خرج الشيخ أبو إسحاق السبائي رحمه الله - مع شيوخ إفريقية إلى حرب بني عبيد مع أبي يزيد، فكان أبو إسحاق يقول - ويشير بيده إلى عسكر أبي يزيد هؤلاء من أهل القبلة وهؤلاء ليسوا من أهل القبلة - يريد عسكر بن عبيد - فعلينا أن نخرج مع هذا الذي من أهل القبلة لقتال من "هو" على غير القبلة -، فإن ظفرنا بهم لم ندخل تحت طاعة أبي يزيد، لأنه خارجي، والله عز وجل يسلط عليه إماماً عادلاً فيخرجه من بين أظهرنا ويقطع أمره عنا. والذين وخرجوا معه من الفقهاء والعباد : أبو العرب ابن تميم، وأبو عبد الملك مروان نصروات وأبو إسحاق السجائي وأبو الفضل وأبو سلمان ربيع بن القطان ( ) وغيرهم كثير ( ) وفي الموعد المحدد خرج العلماء ومن ورائهم وجوه القوم وعامتهم في أعداد غفيرة لا يحصيهم عد، ولم يتخلف من العلماء والصلحاء أحد إلا العجزة، ومن ليس عليهم خرج، وكان ربيع القطان في طليعة الصفوف راكباً فرسه، وعليه آلة الحرب متقلداً مصحفه وهو يقول : الحمد لله الذي أحياني حتى أدركت عصابة من المؤمنين اجتمعوا لجهاد أعدائك وأعداء نبيك ( ) وقد أبلى العلماء في تلك المواجهة بلاء حسناً، وقدموا صور حقيقيه للجهاد في سبيل الله لأعداء الإسلام، واستشهد منهم مالا يقل على الثمانين عالماً، منهم ربيع القطان والمميس وغيرهما، وأظهروا شجاعة نادرة وتفانياً لا مثيل له قتال عدوهم، وحققوا انتصاراً باهراً وكادوا يستولون على المهدية، لولا أن ساعة الغدر حلت ورجعت الكرة عليهم، حين خدعهم أبو يزيد وأسفر عن وجهه القبيح المناوئ لأهل السنة وأمر جنده أن ينكشفوا عنهم بقوله : أعداؤكم من قتلهم لا نحن فنستريح منهم ( ) وكان غرضه من تلك الفعلة الشنيعة والخدعة المنكرة : الراحة منهم لأنه فيما ظن إذا قتل شيوخ القيروان وأئمة الدين تمكن من أتباعهم فيدعوهم إلى ما شاء الله فيتبعونه ( ) فهزم شر هزيمة حيث انضم عدد غير قليل من جنده إلى صفوف عدوه ولم يبق له من الجند إلا القليل، وقتل شر قتلة، وكانت نهايته يوم 30محرم سنة 336ﻫ ( ) ، وقد أثرت هذه المواجهة بين السنة والشيعة على الساحة المغربية فيما بعد، حيث استمرت المقاومة فيمن جاء بعدهم حتى بعد خروج بني عبيد من المغرب، فكانوا يبحثون عن مراكز وجود الشيعة، فإذا عثروا عليهم قتلوهم أموالهم، فقد ذكر ابن عذارى في البيان المغرب أنه : كان بمدينة القيروان قوم يتسترون بمذهب الشيعة من بشرار الأمة انصرفت العامة إليهم من فورهم، فقتلوا منهم خلقاً كثيراً رجالاً ونساءً وانبسطت أيدي العامة على الشيعة وانتهبت دورهم وأموالهم ( ) ، ويصف القاضي عياض هذه الحادثة : وكان إبتداء ذلك اليوم الجمعة منتصف المحرم، قتلت العامة الرافضة أبرح قتل بالقيروان وحرقوهم وانتهبوا أموالهم، وهدموا دورهم وقتلوا نساءهم وصبيانهم، وجروهم بالأرجل، وكانت صيحة من الله سلطها عليهم، وخرج الأمر من القيروان وإلى سائر بلادهم فقتلوا وأحرقوا بالنار، فلم يترك أحد منهم في إفريقية إلا من اختص ( ) . وهكذا كان هذا النوع من المقاومة هو أشد الأنواع وأنكاها، طهر الله به أرض المغرب من بدعة التشييع الباطني الرافضي.
ح- المقاومة عبر التأليف : وكانت المقاومة عبر التأليف من الوسائل المجدية والنافعة في مقاومة الشيعة والتي كان لها أثر طيب في إقلاقهم وقص مضاجعهم وإعلانهم الحرب على من يفعل ذلك، كما كان لها أثر في تبصير العامة بالحق وإرساء دعائم السنة وكانت هذا المؤلفات تنقسم إلى نوعين :
- المؤلفات التي تتناول مسائل العقيدة جملة وفق منهج أهل السنة والجماعة، ومن بين المسائل تتاولها مسألة الإمامة عند أهل السنة وأفضلية أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهما، وشرعية خلافة الثلاثة خلافاً للشيعة الرافضة والترضي عن أصحاب رسول جمعياً من غير تفريق بينهم، واعتبارهم جميعاً عدولاً خلافاً للشيعة الذين يكفرونهم ويفسقونهم عدا نفر قليل منهم فهذا النوع من التأليف كان له أثر عميق في تبصير الناس بدينهم ونشر المذهب الحق فيهم، حتى أصبحوا يعتبرون كل من خالف هذه العقيدة مخالفاً للإسلام وخارجاً عن جماعة المسلمين يجب فيه كل ما يجب في الكافر من المعاداة والقتال والمقاطعة وغير ذلك من المعاملة، لعله يرتدع ويرجع وتيوب ( ) .
والنوع الثاني : المؤلفات التي ألقت للرد على الشيعة خاصة وعلى عقائدهم الباطلة : وهذا النوع من التأليف - كما سبق الحديث عنه - جاء نتيجة ظروف خاصة أوجبت على أهل السنة الرد عليهم، وتفنيد شبههم ودحض باطلهم من هذا الصنف من المؤلفات نذكر كتابي "الإمامة" اللذين ألفهما الإمام محمد بن سحنون، وقد سبق الحديث عنهما، وهما أعظم ما ألف في هذا الفن، يقول عيسى بن مسكين : وما ألف في هذا الفن مثلهما ( ) ، وكتاب الإمامة للإمام إبراهيم بن عبد الله الزبيدي، وكتاب الرد على الرافضة له أيضاً، واللذات كانا السبب في محنته وسجنه وضربه من قبل الدولة الفاطمية العبيدية، فهذا النوع كان له أثره في المقاومة ( ).
خ- مقاومة شعراء أهل السنة : إلى جانب وسيلة التأليف كانت هناك وسيلة نظم الشعر لهجو بني عبيد وذمهم، وقد برز في هذا الميدان كثير من الشعراء منهم : أبو القاسم الفزاري، فقد وصفهم ووصف سلوكهم فقال :
عبدوا ملوكهم وظنوا أنهم
 ٭٭ نالوا بهم سبب النجاة عموماً

وتمكن الشيطان من خطواتهم
 ٭٭ فأراهم عوج الضلال قويما

رغبوا عن الصديق والفاروق في
 ٭٭ أحكامهم لا سلموا تسليما

واستبدلوا بهما ابن الأسود نابحاً
  ٭٭ وأبا قدارة واللعين تميما

تبعوا كلاب جهنم وتأخروا
 ٭٭ عمن أصارهم الإله نجوما

أمن اليهود ؟ أم النصارى ؟ أم هم

 ٭٭ دهرية جعلوا الحديث قديما

أم هم من الصابئين أم من عصبة
 ٭٭ عبدوا النجوما وأكثروا التنجيما

أم هم زنادقة معطلة رأوا
 ٭٭ أن لا عذاب غداً ولا تنعيما

أم عصبة ثنوية قد عظموا
 ٭٭ النورين عن ظلماتهم تعظيما

سبحان من أبلى العباد بكفرهم
 ٭٭ وبشركهم حقباً وكان رحيما

يارب فالعنهم ولقهم
 ٭٭ بأبي يزيد من العذاب أليما ( )


ومن أشهر ما قاله قصيدته الرائية التي انتشرت في الآفاق والبلدان والتي قال فيها :

عجبت لفتنة أعمت وعمت
 ٭٭ يقوم بها دعي أو كفور

تزلزلت المدائن والبوادي
 ٭٭ لها وتلونت منها الدهور

وضاقت كل أرض ذات عرض
 ٭٭ ولم تعن المعاقل والقصور

فنجى القيروان وساكنيها
 ٭٭ إله دافع عنها قدير

أحاط بأهلها علماً وخبراً
 ٭٭ وميز ما أكتنه الصدور

وجللهم بعافية وأمن
 ٭٭ وأسبل فوقها ستر ستير

وأثبت جلة العلماء فيها
 ٭٭ بحار لا تعد ولا بحور

ومنها سادة العلماء قدما
 ٭٭ إذا عُدَّوا وليس لها نظير

وفيها القوم عباد خيارا
 ٭٭ فقد طاب الأوائل والأخير

هم افتكوا سبايا كل أرض
 ٭٭ وفادوا ما استبد به المغير

كفيناهم عطائمها جميعاً
 ٭٭ فزالت عنهم تلك الشرور

وسكنَّا قلوباً خافقات
 ٭٭ أمات عروقها ضر ضرير

وأوينا وآسينا وكنا
 ٭٭ لهم أهلاً وأكثرهم شطير

فبات طعامناً لهم طعاماً
 ٭٭ هناك ودُورنا للقوم دور

وكان لنا ثواب الله ذُخراً
 ٭٭ وقام بشكرنا منهم شكور

ولولا القيروان وساكنوها
 ٭٭ لغاب طعامهم والمخ ( ) ريرُ

وليس لنا كما لهم حصون
 ٭٭ ولا حيل أعاليه وعور

ولا سور أحاط بنا ولكن
 ٭٭ لنا من حفظ رب العرش سُورُ

ولا نأوي إلى بحر وإنا
 ٭٭ إذا قضى القضا تُتحَى البحُورُ

ولكنا إلى القرآن نأوي
 ٭٭ وفي أيماننا البيض الذكور

عقائق كالبوارق مرهفات
 ٭٭ بها تحمي الحرائم والثغور

وسُمر في أعاليهن شهب
 ٭٭ بها ظمأ مواردها النحور


إلى أن قال :

وإنا بعد منخوف وأمن
 ٭٭ نحب إذا تشعبت الأمور

رسول الله والصديق حبا
 ٭٭ به ترجى السعادة والبحور

وبعدهما نحب القوم طُرَّا
 ٭٭ وما اختلفوا فربهم غفور

ألا بأبي وخالصتي وأمي
 ٭٭ محمد البشير لنا النذير

سأهدى ما حييت له ثناء
 ٭٭ مع الركبان ينجد أو يغور( )


4- المعز لدين الله الفاطمي ودخوله مصر : كان يتابع أحوال حكام وأمراء مصر عن كثب، وأصبحت نفسه تسول له الاستيلاء على مصر، وبموت كافور الإخشيدي في سنة 355ﻫ اضطربت الديار المصرية، فاقتنص المعز الفرصة ولم يجعلها تمر مر السحاب، فعزم ودبر وأقدم على حفر الآبار والقصور فيما بين القيروان إلى حدود مصر، وحشد الجيوش العظيمة، التي كانت تزيد عن مائة ألف، وأمر المعز كل أمرائه وولاته أن يسمعوا ويطيعوا ويترجلوا في ركاب جوهر الصقلي، وتحركت الجيوش العبيدية لنقل المذهب الباطني إلى مصر ليتخلص من الأزمات والثورات والصراعات العنيفة التي قادها علماء أهل السنة في خمس عقود متتالية في الشمال الإفريقي، رافضين المذهب الباطني معلنين عقائد أهل السنة والجماعة، فاستفاد المعز من ضعف الحكم الإخشيدي التابع للدولة العباسية فرمى بسهمامه المسمومة، ودفع إليها جيوشه المحمومة طلبا من أعوانه وسعياً للقضاء على الدولة العباسي وفي جماد الآخرة سنة 358ﻫ استطاعت جيوش المعزل دخول مصر بقيادة جوهر الصقلي الذي لم يجد أي عناء في ضمها لأملاك العبيديين وجوهر الصقلي هذا هو الذي بنى الأزهر الذي تم بناءه سنة 361ﻫ ليكون محصناً لأعداد دعاة المذهب الإسماعيلي الباطني وبعد أن مهدت مصر للمعز الفاطمي العبيدي جهز جيوشه وحاشيته وأهله وأمواله وسار مفارقاً شمال إفريقيا إلى مصر ليتولى أمرها فأسند زعامة الشمال الإفريقي إلى الأمير الضهاجي بلكين بن زيري وضم المعز إلى مصر كلا من طرابلس وسرت وبرقة وكان معه شاعره الذي غالى في مدح المعز محمد بن هانئ الأندلس الذي قال :
فكأنما أنت النبي محمد
 ٭٭ وكأنما أنصارك الأنصار

ما شئت أنت لا ما شاءت الأقدار
 ٭٭ فاحكم فأنت الواحد القهار

هذا الذي تجدي شفاعته غداً
 ٭٭ حقَّا وتُخمد أن تراه النار


ومن شعره في المعز :

النور أنت وكل نور ظلمة
 ٭٭ والفوق أنت وكل فوق دون

فارزق عبادك فضل شفاعة
 ٭٭ وأقرب بهم زُلفى فأنت مكين

ومنه :

تدعوه منتقماً عزيزاً قادراً
 ٭٭ غفاراً موبقة الذنوب صفوحاً

أقسمت لولا أن دُعيت خليفة
 ٭٭ لدُعيت من بعد المسيح مسيحاً

شهدت بمفخرك السموات العلا
 ٭٭ وتنزل القرآن فيك مديحاً


ومنه :

وعلمت من مكنون سر الله ما
 ٭٭ لم يؤت في الملكوت ميكائيلا

لو كان آتى الخلق ما أوتيته
 ٭٭ لم يخلق التشبيه والتأويلا

وكانت بدية رحل المعز نحو مصر ف ي362ﻫ وقتل ابن هانئ في برقة في رجب سنة 362ﻫ وهو في الثانية والأربعين من عمره ووجدوا جثته مرمية رمي الكلاب على ساحل بحر برقة وتأسف المعز على قتله وقال : هذا الرجل كنا نرجو أن نفاخر به شعراء المشرق فلم يقدر لنا ذلك ( )، واستمر المعزفي سيره حتى قارب الحدود المصرية، ووصل الإسكندرية يوم 23 من شعبان سنة 362ﻫ واستقبلته وفود عظيمة من أعيان القادة والزعماء والحكام في مصر وامتد ملك المعز من سبته بالمغرب إلى مكة بالمشرق يأتمر بأوامره سكان سواحل المحيط الأطلنطي وبقي المعز في مصر سنتين ونصف وتوفي بالقاهرة في السابع من ربيع الأول سنة 365ﻫ ودامت ولايته بإفريية ومصر ثلاثاً وعشرين سنة ( ). قال الذهبي : ظهر في هذا الوقت الرفض وأبدى صفحته وشمخ بأنفه في مصر والشام والحجاز والغرب بالدولة العُبيدية، وبالعراق والجزيرة والعجم بني بُويّه، وكان الخليفة المطيع ضعيف الرتبة مع بنى بويه وضعف بدنه ثم أصابه فالج، وخَرَسٌ فعزلوه، وأقاموا ابنه الطائع لله، وله السكة والخطبة، وقليل من الأمور فكانت مملكة المعز أعظم وأمكن ( ) .
5- زوال الدولة الفاطمية من شمال إفريقيا : استطاع بعض فقهاء المالكية أن يصلوا إلى ديوان الحكم في دولة ضهاجة التابعة للدولة الفاطيمة بمصر وأثروا في بعض الوزراء والأمراء - الذين كان لهم الفضل بعد الله في تخفيف ضغط الدولة على علماء أهل السنة واستطاع العلامة أبو الحسن الزجال أن يؤثر في الأمير المعز بن باديس الضهاجي في تربيته على منهج أهل السنة، وأعطت هذه التربية ثمارها بعدما تولى المعز إفريقيية في ذي الحجة سنة 406ﻫ وكان عمل العلامة أبو الحسن في السر بدون أن يعلم به أحد من الشيعة الرافضة وكان هذا العالم فاضلاً ذا خلق ودين وعقيدة سليمة ومبغض للمذهب الشيعي الباطني واستطاع أن يغرس التعاليم الصحيحة في نفسية وعقلية وفكر المعز بن باديس الذي تّم على يديه القضاء على مذهب الشيعة الإسماعيلية في الشمال الإفريقي وقد وصف الذهبي المعز بن باديس فقال : وكان ملكاً مهيباً، وسرَّيا شجاعاً عالي الهمة، محباً للعلم ، كثير البذل، مدحه الشعراء وكان مذهب الإمام أبي حنيفة قد كثر بإفريقية فحمل أهل بلاده على مذهب مالك حسماً لمدة الخلاف، وكان يرجع إلى الإسلام، فخلع طاعة العبيدية وخطب للقائم بأمر الله العباسي، فبعث إليه المستنصر يتهدده فلم يخفه ( ) ، ورد المعز بن باديس على خطاب المستنصر الفاطمي بمصر الذي هدده فيه وقال له : هلا اقتفيت آثار آبائك في الطاعة والولاء في كلام طويل، فأجابه المعز : إن آبائي وأجدادي كانوا ملوك المغرب قبل أن يتملكه أسلافك ولهم عليهم من الخدم أعظم من التقديم ولو أخروهم لتقدموا بأسيافهم ( ) ، وبيت لنا كتب التاريخ أن المعز بن باديس تدرج في عدائه للشيعة الرافضة الباطنية ولحكام مصر وظهر ذلك في عام 435ﻫ عندما وسع قاعدة أهل السنة في جيشه وديوانه ودولته، فبدأ في حملات التطهير للمعتقدات الباطنية ولمن يتلذذ بسبب، أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأوعز للعامة وللجنوده بقتل من يظهر الشتم والسب لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما فسارعت العامة في كل الشمال الإفريقي للتخلص من بقايا العبيديين ليصفى الشمال الإفريقي من المعتقدات الفاسدة الدخيلة عليه وأشاد العلماء والفقهاء بهذا العمل الذي أشرف على تنفيذه المعز بن باديس رحمه الله وذكر الشعراء أشعاراً في مدح المعز، فقد قال القاسم بن مروان في تلك الحوادث :
وسوف يقتلون بكل أرض
 ٭٭ كما قتلوا بأرض القيروان


وقال آخر :

يا معز الدين عش في رفعة
 ٭٭ وسرور واغتباط وجذل

أنت أرضيت النبي المصطفى
  ٭٭ وعتيقاً في الملاعين السفل

وجعلت القتل فيهم سنة
 ٭٭ بأقاصي الأرض في كل الدول ( )


واستمر المعز بن باديس في التقرب إلى العامة وعلمائهم وفقهائهم من أهل السنة وواصل السير في تخطيطه للإنفصال الكلي عن العبيديين في مصر، فجعل المذهب المالكي هو المذهب الرسمي لدولته وأعلن إنضمامه للخلافة العباسية وغيَّر الأعلام إلى العباسيين وشعاراتهم وأحرم أعلام الدولة الفاطمية وشعاراتهم وأمر بسبك الدراهم والدنانير التي كانت عليها أسماء العبيديين والتي استمر الناس يتعاملون بها 145سنة وأمر بضرب سكة أخرى كتب على أحد وجهيها : لا إله إلا الله محمد رسول الله. وكتب على الآخر " ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين " (آل عمران ، آية : 85) وقضى المعز بن باديس على كل المذاهب المخالفة لأهل السنة من الصفرية والنكارية والمعتزلة، والإباضية وفي سنة 443ﻫ انضمت برقة كلها إلى المعز بن باديس بعد أن أعلن أميرها جبارة بن مختار الطاعة له وكان أول من قاد حملة التطهير على الشيعة الإسماعيلية في طرابلس وحارب تقاليدهم الباطلة ودعوتهم المضللة هو العلامة علي بن محمد المنتصر وكنيته أبو الحسن المتوفى عام 432ﻫ ( ) .

6- جهود السلاجقة في حماية العراق من التشيع الرافضي الباطني : كانت الدولة الفاطمية تسعى للسيطرة على العراق والمشرق ولذلك قامت بإرسال الدعاة إليها، فقد واصل الخلفاء الفاطميون جهودهم في نشر دعوتهم مستغلين الاضطراب الذي ساد بلاد العراق، فأرسل الخليفة الفاطمي الظاهر لإعزاز دين الله الدعاة إلى بغداد سنة 425ﻫ، فاستجاب لهم كثير من الناس ( )، وازداد نشاط الدعاة في بلاد المشرق الإسلامي على عهد المستنصر بالله الفاطمي، فعهد إلى دعاته بالرحيل إلى فارس وخراسان وما وراء النهر، ومن أشهر دعاة وفلاسفة المذهب الشيعي الإسماعيلي الفاطمي المؤيد في الدين هبة الله الشيرازي وعرف أحياناً بالمؤيد فقط، وقد نجح هذا الداعية في التأثير على البساسيري أحد القادة العسكريين في الدولة العباسية وقد استطاع البساسيري أن يستولى على بغداد ويزيح الخليفة القائم بأمر الله وإقامة الخطبة فيها للفاطميين وانقطعت دولة بني العباس من بغداد وأخرج الخليفة وحُمل إلى الأنبار وحبس بالحديثة عند صاحبها مهارش بن مجلي العقيلي فتولى خدمة الخليفة بنفسه وكان أحد وجوه بني عقيل، وخطب لبني عبيد - الفاطميين في بغداد أربعين جمعة في ولاية المستنصر ( ) . وحاول البساسيري نقض الاتفاق الذي عقده مع قريش بن بدران وعزم على أخذ الخليفة العباسي وترحيله إلى مصر، إلا أن قريشاً تصدى لهذه المحاولة وعهد إلى ابن عمه الأمير محي الدين بن مهارش العقيلي - صاحب حديثة بالتحفظ على الخليفة وتأمين حياته، وعلى الرغم من ذلك فلم يسمح البساسيري للخليفة القائم بأمر بالرحيل إلى حديثة إلا بعد أن أرغمه على كتابة اعتراف بعدم أحقية بني العباس في الخلافة الإسلامية مع وجود بني فاطمة الزهراء عليها السلام ( )، ولم يكتف البساسيري بذلك بل استولى على ثوب الخليفة وعمامته وشباكه ( ) ، وأنفذها إلى الخليفة المستنصر بالله الفاطمي، وكان البساسيري قد شرع في استخدام طائفة من العوام ودفع إليهم السلاح من دار الخلافة العيّارين وأطمعهم في نهب دار الخلافة ونهب أهل الكرح - الشيعة - دور أهل السنة بباب البصرة، ونهبت دار قاضي القضاة الدّمغاني، وهلك أكثر السَّجلاَّت والكتب الحكيمة وأبيعت للعطارين، ونهبت دور المتعلقين بالخليفة وأعادت الروافض الأذان بحيَّ على خير العمل، وأُذَّن به في سائر جوامع بغداد في الجُمعُات والجماعات، وخطب ببغداد وضربت له السَّكةُ على الذهب والفضة وحُوصرات دار الخلافة واعتقال رئيس الرؤساء أبو القاسم بن المسُلمة ووبخه البساسيري ولامه لوماً شديداً، ثم ضربه ضرباً مبرحاً وأعتقله مهانا عنده ونهبت العامة دار الخلافة، فلا يُحصى ما أخذوا منها من الجواهر والنَّفائس والدَّيباج والأثاث والثياب وغير ذلك مما لا يُحَدُّ ولا يوُصف وفي يوم عيد الأضحى في سنة 450ﻫ ألبس البساسيري الخطباء والمؤذنَّين البياض، وعليه هو وأصحابه كذلك وعلى رأسه الألوية المستنصرية والمطارد المصرية، وخطب للمستنصر صاحب مصر، والشيعة الرّافضة في غاية السرور والأذان في سائر العراق بحيَّ على خير العمل، وانتقم البساسيري من أعيان أهل بغداد انتقاماً عظيماً، وغرَّق خلقاً ممَّن كان يعاديه وبسط على آخرين الأرزاق والعطايا ولما كان يوم الانثين ليلتين بقيتا من ذي الحجة أحضر إلى بين يديه الوزير أبو القاسم بن المسلمة الملقّبُ برئيس الوزراء وعليه جُبَّة صوف وطرطور من لبد أحمر وفي رقبته مخنقة من جلود كالتعاويذ، فأركب جملاً ( ) ، وطيف به في البلد وخلفه من يصفعه بقطعة من جلد، وحين اجتاز بالكرخ نثروا عليه خُلقْان المداسات وبصقوا في وجهه ولعنوه وسبُّوه وهذه هي عادتهم عندما يتمكنون من مخالفيهم في كل زمان ومكان، وأوقف بإزاء دار الخلافة وهو في ذلك يتلو " قل اللهم مالك الملك تُوتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيك الخير إنك على كل شيء قدير " (آل عمران ، آية : 16) فالبس جلد ثور بقرنيه وعُلقّ بكلوّب في شدقيه ورفع إلى الخبشة حيَّاً ، فجعل يضطرب إلى آخر النهار، فمات رحمه الله وكان آخر كلامه : الحمد لله الذي أحياني سعيداً وأماتني شهيداً ( ) من خصائص النفسية الشيعية الرافضة الباطنية الثابتة عبر التاريخ اتباع أسلوب التذلل والتمسكن والتودد عند الضعف ولكن متى استشعروا القوة، فإنها تمارس أشد أنواع الطغيان والنهب والبطش والانتقام وكان طغرل بك السلطان السلجوقي الذي أزاح البويهيين كان خارج العراق بجيوشه يحارب المنشقين عنه ويمكن لدولته ولما قضى على الفتن كّر بجيوشه على بغداد وأعاد الخليفة العباسي إلى الخلافة بعد فكاكه من أسره واستطاع ملاحقة البساسيري وقتله وعادت العراق إلى الخلافة العباسية السنية من جديد وقد فصلت هذه الأحداث التاريخية في كتابي دولة السلاجقة والمشروع الإسلامي لمقاومة التغلغل الباطني والغزو الصليبي. وقد أدرك السلاجقة الخطر الذي يتهددهم من وراء الدعو الفاطمية في بلدان الخلافة العباسية، لذلك اتبعوا سياسة حكيمة بعد أن قبضوا على زمام الأمور في بغداد تتمثل في مناهضة الدعوة الفاطمية ( ) ، ودعاتها بالحزم والشدة فتعقبوا دعاة الفاطمية الذين قاموا بنشر الدعوة الفاطمية في بلاد فارس - كما قاموا بإقصاء المتشيعين للمذهب الإسماعيلي على دواوين الحكومة والوظائف الدينية وعينوا من أهل السنة بدلاً منهم ( )
7- المدارس النظامية ودورها في الإحياء السني والتصدي للفكر الشيعي الرافضي : بدأ التفكير الفعلي في إنشاء هذه المدارس النظامية للوقوف أمام المد الشيعي الإمامي والإسماعيلي الرافضي عقب اعتلاء السلطان ألب أرسلان عرش السلاجقة في عام 455ﻫ فقد أستوزر هذا السلطان رجلاً قديراً وسنياً متحمساً هو الحسن بن علي بن إسحاق الطوسي الملقب بنظام الملك، فرأى هذا الوزير أن الاقتصار على مقاومة الشيعة الإمامية والإسماعيلية الباطنية سياسياً لن يكتب له النجاح إلا إذا وازى هذه المقاومة السياسية مقاومة فكرية، ذلك أن الشيعة إمامية كانوا أو إسماعيلية نشطوا في هذه الفترة وما قبلها إلى الدعوة لمذهبهم بوسائل فكرية متعددة وهذا النشاط الفكري ما كان ينجح في مقاومته إلا نشاط سني مماثل يتصدى له بالحجة والبرهان ( ) فقد كانت الدولة الفاطمية تقوم بإعداد الدعاة من خلال جامع الأزهر الذي جعلوا منه مؤسسة تعليمية تعني بنشر مذهبهم في عام 378ﻫ ( ).
هذا بالإضافة إلي البرامج التعلمية التي كانت تعد بعناية خاصة في عاصمة الدولة الفاطمية لإعداد الدعاة وتثقيفهم ثقافة مذهبية واسعة قبل إرسالهم الي البلاد الإسلامية لنشر المذهب الإسماعيلي وكان لذلك أثر في رواج هذا الذهب في بعض مناطق الدعوة ( ) لذلك كلة فكر نظام الملك في أن يقاوم النفوذ الشعى  بنفس الأسلوب الذى ينتشر به ومعنى ذلك رأى أن يقرن المقاومة السياسية للشيعة بمقاومة فكرية أيضاً ( ) ، وتربية الأمة علي كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ووعقيدة أهل السنة والجماعة المستمدة من الوحى الإلهى ومن هنا كان تفكيرة في انشاء المدارس النظامية التى نسبت إليه، لأنة الذى جد في إنشاءها وخطط لها، وأوقف عليها الأوقات الواسعة واختار لها الأكفاء من الأساتذة فكان من الطبيعي أن تنسب إليه من دون السلاجقة ( ) وقد وفق الله نظام الملك توفيقاً قل نظيره فى التاريخ السياسى والعلمى والديني فقد عاشت مدارسه أمداً طويلاً وعلى الخصوص نظامية بغداد التى طاولت الزمن زهاء أربعة قرون إذا كان أخر من عرفنا ممن درس فيها صاحب القاموس الفيروز أبادي المتوفى سنة 817ﻫ حيث زالت فى نهاية القرن التاسع الهجرى ( ) وأدت رسالتها من تخريج العلماء على المذهب السنى الشافعى وزودت الجهاز الحكومى بالموظفين ردحاً من الزمن وبخاصة دوائر القضاء والحسبة والاستفتاء وهى أهم وظائف الدولة فى ذلك العصر وانتشر هؤلاء فى العالم الاسلامى حتى اخترقوا حدود الباطنية فى مصر وبلغوا الشمال الإفريقى ودعموا الوجود السنى بها لقد تخرج من هذه المدارس جيل تحقق على يديه معظم الأهداف التى رسمها نظام الملك فوجدنا كثيراً من الذين تخرجوا منها يرحلون الى أقاليم أخرى ليقوموا بتدريس الفقة الشافعى والحديث الشريف وينشروا عقيدة أهل السنة في الأمصار التى انتقلوا إليها أو يتولوا مجالس القضاء والفتيا أويتولو بعض الوظائف الإدارية الهامة فى دواوين الدولة وينقل السبكي عن إسحاق الشيرازي - أول مدرس بنظامية بغداد بقوله خرجت الى خراسان فما بلغت بلدة ولاقرية إلاكان قاضيها أو مفتيها أو خطبيها تلميذي أو من أصحابي ( ) ، وقد ساهمت هذه المدارس فى اعادة دور منهج السنة فى حياة الأمة بقوة وكان أبرز أثارها أيضا تقلص نفوز الفكر الشيعى وخاصة بعد أن خرجت المؤلفات المناهضة له من هذه المدراس وكان الإمام الغزالى على قمة المفكرين الذين شنوا حرباً شعواء على الشيعة الرافضة ( ). وقد مهدت المدراس النظامية بتراثها ورجالها وعلمائها السبيل ويسرته أمام نور الدين زنكى والأيوبين يحى يكملوا المسيرة التى من أجلها أنشئت النظاميات وتتمثل فى العمل على سيادة الاسلام الصحيح وخاصة فى المناطق التى كانت موطنأ لنفوذ الشيعة فى تلك المرحلة كالشام ومصر وغيرها - ان الاخطاء العظيمة التى تواجة الأمة اليوم المشروع الباطنى الجديد النشط فى أنحاء المعمورة وقد استهدف عقيدة الأمة وكتاب ربها وسنة نبيها وتاريخها وعظمائها فهد نستلهم الدروس  ونستخرج الصحيح الذى جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فيكون من حكامنا مثل  ألب أرسلان فى شجاعته ومن وزرائنا كنظام الملك فى همته وغيرته ومن علمائنا كالجويني والغزالي والبغوي والجيلاني فى دفاعهم عن الكتاب والسنة والصحابة وقضايا الفكر الاسلامى الصحيح وتوظف الوسائل الحديثة فى بث عقائد الاسلام الصحيحة وتاريخة الموثق وفكرة البديع من خلال الفضائيات والإنترنت والمطابع والجرائد والمجلات والكتب والندوات و المؤتمرات والمناهج والمدارس والجامعات ووسائل الدعوة بأنواعها نريد بذلك وجة اللة والدار الاخرة ورفقة النبيين والصدقين والشهداء والصالحين جهود الامام فى دحر الشيعة الباطنية إذا كانت إحدى ثمرات المدارس النظامية أنها مهدت الطريق لسيادة المذهب السني كان من أبرز أثارها أيضاً نفوذ الفكر الشعيى وخاصة بعد أن خرجت الؤلفات المناهضة له من هذه المدارس وكان الإمام الغزالي - العالم السنى على قمة المفكرين الذين شنوا حربا شعواء على الشيعة الرافضة الباطنية اذ يذكر هو أنة ألف فى ذلك كتباً عدة أشهرها فضائح الباطنية الذى كلف بتأليفة فى 487ﻫ من قبل الخليفة المستظهر ( ) على أن الشيء المثير للإعجاب هو شجاعة الغزالى فى حملته على الإسماعيلية الباطنية جاءت فى وقت انتشر فيه دعاتهم فى فارس وتزايد خطرهم حتى أقاموا الحصون والقلاع وهددوا أمن الناس وسلامتهم وأقاموا بالاغتيالات على نطاق واسع فشملت كثيراً من الساسة المفكرين وعلى رأسهم نظام الملك نفسه والغزالي قام لهذه الحملة بتوجيه من السلطة مع رغبة الغزالي العالم السني فى القيام بواجبة فى الدفاع عن الإسلام الحقيقى -وهذا شيء جميل لما تلتقى جهود السلطة السياسية مع علمائها فى تحقيق أهداف الإسلام من خلال مؤسسات نافعة للمجتمع والدولة، كالذي قامت به المدارس النظامية في مقاومة الفكر والنفوذ الشيعي الباطني فقد كانت الدولة الفاطمية قد تدرعت بالفلسفة والعقيدة الباطنية وظهرت في مظهر ديني سياسي، فكانت كما يقول الأستاذ الندوي - أشد خطراً على الإسلام من الفلسفة، فقد كانت  الفلسفة تعيش في برجها العاجي بعيداً عن الشعب والجمهور ( ) ، وأما الباطنية، فكانت تتسَّرب إلى المجتمع وتنفث سمومها فيه، وكان لها الإغراءات المادية القوية، ولم يكن في العالم الإسلامي في آخر القرن الخامس أحد أجدر بالرد عليها والكشف عن أسرارها ونقض ما تبني عليه دعوتها من الغزالي وكان لكتابات الغزالي أثر قوي مجال الرد على الباطنية، فقد استطاع بفكرة القوي وبما نال من شهرة أن يكون ذا تأثير قوي في مقاومة الباطنية وأن يناصر المذهب السني، فقد استطاع توظيف العلوم الشرعية والعلوم العقلية من الفلسفة والمنطق والكلام في نسف جذور المذهب الباطني وقال فيهم كلمته التي طار بها الركبان وسارت مسير الأمثال : طاهرهم الرفض وباطنهم الكفر المحض، فهم يتسترون بالتشيع وما هم من الشيعة من شيء وإنما هو قناع يخفون وراءه كيدهم لأهل الإسلام ( ) ومما يذكر للغزالي : استمراره على نقد هذه الطائفة وكشف اللثام عن تناقض أفكارها وفضائح أعمالها وسوء نواياها، برغم ما كان معلوماً في ذلك الوقت أن هذا النقد يكلفه حياته، وقد رأى بنفسه مصرع رجل الدولة الكبير الوزير نظام الملك وكان الشيعة الباطنية تهدد كل من يرونه خطراً عليهم من رجال الملك أو رجال العلم بالانتقام في صورة طعنة في خنجر، أو سم يدس في طعام أو غير ذلك من الأساليب التي أتقنوها ونفذوها بكل دقة وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على شجاعة الغزالي في صدعه بالحق، ومواجهة الباطل، مهما تكن النتيجة ولن يصيبه إلا ما كتب الله له ( ) . وهذا درس وتذكير للعلماء المعاصرين أن يصدقوا الله في مقاومة الباطنين الجدد، وقد رأيت بعض المحسوبين على العلماء يخشونهم، ويخافون من القتل والاغتيال أو تهمة الطائفية، وبعضهم وقع تحت تأثير أبر التخدير الباطنية ومجاملات لا وزن لها في ميزان الشريعة أو حسابات دنيوية زائلة ولذلك تركوهم يعيثون بعقائد الأمة ومقدساتها وساعدهم بعض علماء الأمة في تخدير الجمهور العريض من أبناء المسلمين مع علم هؤلاء العلماء بخطر هؤلاء القوم على عقائد الأمة وأخلاقها، أما يخشى هؤلاء الناس من يقوم يتقلب فيه القلوب والأبصار ويسأل الله فيه الصادقين عن صدقهم.
ثانياً : الحملات النورية العسكرية على مصر :
قام الوزير الفاطمي ابن السلار السني المذهب بمحاولة الاتصال بنور الدين من أجل شن عمليات حربية مشتركة على أساس أن يتقدم نور الدين بقواته من الشمال ويقول الأسطول الفاطمي بمهاجمة المدن الساحلية الشامية الصليبية وتوسط أسامة بن منقذ بين الجانبين وعرض عليه ابن السلار أن يأخذ الأموال والهدايا لسلطان حلب عارضاً عليه القيام بمنازلة طبرية، وفي نفس الحين يقوم الأسطول الفاطمي بمهاجمة غزة، وفي حالة موافقة نور الدين على ذلك يقدم له ابن منقذ الأموال لمساعدته، فإن رفض فعلى الأخير أن يجند بالأموال عدداً من الفرسان لقتال الصليبيين عند عسقلان، غير أنه عندما بلغ بصرى وقابل نور الدين أوضح له مدى إنشغاله بأـمر دمشق وأنها تقف سداً منيعاً دون التعاون المشترك مع الفواطم إذ أنها لم تكن حينذاك قد سقطت بعد في قبضته ( )، ويلاحظ أن ابن السلار استمر في صراعه مع الصليبيين فجهز في عام 546ﻫ/1151م أسطولاً أنفق عليه مالاً وفيراً وهاجم به المدن الساحلية الصليبية، وقد تحدث الذهبي عن ابن السلار فاقل : وكان بطلا شجاعاً، مقداماً مهيباً شافعياً سنيّاً، ليس على دين العُبيديه، احتفل بالسَّلفَي، وبنى له المدرسة، لكنه فيه ظلم وعسف ( ) وجبروت وتجددت المحاولات السابقة في عهد وزار طلائع ابن زريك الذي اتصل بنور الدين محمود عن طريق أسامة بن منقذ غير أن نور الدين لم يتعجل وكان يرأى أن الفرصة المناسبة لم تأتي بعد وكانت بين أسامة بن منقذ والملك الصالح أبو الغارات طلائع بن رُزَّيك مسجلات شعرية منها ما قاله طلائع بن رُزيك :

فقولوا لنور الدين لا فُلَّ خدُّه
  ٭٭ ولا حَكَمت فيه الليالي الغواشمُ

تجهز إلى أرض العدوَّ ولا نَهِن
 ٭٭ وتُظهر فتوراً إن مضت منك حارم


ومنها مما كتبه إلى أسامة بن منقذ :

يا سَيَّداً يسموا بهمتَّه
 ٭٭ إلى الرَُتب العَليَّة

فينال منها حين يُحرم
 ٭٭ غيره أو فى مَزِيَّة

أنت الصديق وإن بعدت
 ٭٭ وصاحب الشَّيَم الرَّضية

نُنبيك أن جيوشنا
 ٭٭ فعلت فِعال الجاهلية

سارت إلى الأعداء من
 ٭٭ أبطالها مئتا سَرِيَّة

فتُغيرُ هذي بُكرةً
  ٭٭ وتُعاوِدُ الأخرى عَيِشيهَّ

فالويل منها للفرنج
 ٭٭ فقد لقوا جهد البَليَّه

جاءت رؤوسهُم تلوح
 ٭٭ فقد لقوا جهد البَليَّة

جاءت رؤوسهمُ تلوح
 ٭٭ على رؤوس السَّهمِريّه

وقلائع قد قُسَّمّتْ
 ٭٭ بين الجنود على السَّويَّه

وخلائقٌ كثرت من
 ٭٭ الأسرى تقادُ إلى المنيه

فانهض فقد أنبيت مجد
  ٭٭ الدين بالحال الجَلِيَّة

والمم بنور الدين واعلمه
 ٭٭ بهاتيك القضيّة

فهو الذي ما زال يخلص
 ٭٭ منه أفعالا ونيَّه

ويُبيُد جمع الكفر بالبيض
  ٭٭ الرَّقَاق المشرفيه

فعساه ينهض نهضة
 ٭٭ يفني بها تلك البقيَّه

إمّضا لنُصرة دينيه
 ٭٭ أو ملكه أو للحميَّه


وكتب إلى أسامة بن منقذ أيضاً فقال :

قل لابن منقذ الذي
 ٭٭ قد حاز في الفضل الكمالا

فلذلك قد أضحى الأنام
 ٭٭ على مكارمه عِيالاً

كم قد بعثنا نحوك
 ٭٭ الأشعار مسرعة عجالاً

وصددت عنها حين رامت
 ٭٭ من محاسنك الوِصَالا

هلاَّ بَذَلْتَ لنا مقالا
 ٭٭ حين لم تبذُل فعالا

مع أنّنا نُوليك صبراً
 ٭٭ في المودة واحتمالا

ونبثُّك الأخبار إن
 ٭٭ أصخت قصاراً أو طِوالا

سارت سَرايات لقصد
 ٭٭ الشام تعتسف الرَّمالا

تُزجي إلى الأعداء
 ٭٭ جُرد الخيل أتباعاً تَوالَى ( )


إلى أن قال :

فلو أنَّ نور الدين
 ٭٭ يجعل فعلنا فيهم مثالا

وَيُسَيَّرُ الأجناد جهراً
 ٭٭ كي ينُازِلَهم بِزالا

ووفى لنا ولأهل دولته
 ٭٭ بما قد كان قالا

لرأيت للإفرنج طُرَّا
 ٭٭ في معاقلها اعتقالا

وتجهَّزوا للسَّير نحو
 ٭٭ الغرب أو قصدوا الشمَّالا

وإذا أبى إلاَّ اطَّراحاً
 ٭٭ للنصيحة واعتزالا

عُدنا بتسليم الأمور
 ٭٭ لحكم خالقنا تعالى ( )


فأجابه بن منقذ بقصيدة منها :

يا أشرف الوزراء أخلاقاً
 ٭٭ وأكرمهم فعالا

نَبَّهْت عيداً طالما
 ٭٭ تَبَّهته قدراً وحالا

وَعَتَبْتَه . فأَفَلْتَهُ
 ٭٭ فخراً ومجداً لن يُنالا

لكن ذاك العَتْبَ يُشعِلُ
 ٭٭ في جوانحه اشتعال


إلى أن قال :

واشدُد يديك بودَّ
 ٭٭ نور الدين والقَ به الرَّجالا

فهو المحامي عن بلاد
 ٭٭ الشام جمعاً أن تُذَالا

ومُبيدُ أملاكِ الفرنج
 ٭٭ وجمعهم حالاً فحالا

مَلِكٌ يتيه الدهُر
  ٭٭ والدنيا بدولته اختيالا

جمع الخِلال الصَّالحات
 ٭٭ فلم يَدَع منها جالا

فإذا بدا للنَّاظرين
 ٭٭ رأت عيونهم الكمالا

فبقيتما للمُسلمين
 ٭٭ حِمىً وللدُّنيا جمالاً ( )


ولم يدخل نور الدين في تحالف عسكري مع طلائع بن رُزيك إلا أنه اهتم بالاتصالات الدبلوماسية وقد وصلت في 552ﻫ/1157م سفارة من جانب نور الدين وتكرر ذات الأمر في العام التالي أي 553ﻫ/1158م وردت الدولة الفاطمية على تلك السفارة بأن تم إعادة السفير النوري إلى بلاده، ومعه هدايا وأسلحة تقدر بثلاثين ألفاً من الدنانير، وعينيات تقدر بسبعين ألفاً من أجل دعم صراع نور الدين مع الصليبيين ( ) ونجد سفارة أخرى من نور الدين في عام 554ﻫ/1159م ومن جهة أخرى أظهرت الدولة الفاطمية ودها له، فأرسل العاضد في عام 555ﻫ/ 1160م بالخلع إليه والواقع أن التعليل المنطقي لذلك أن الفاطميين بعد أن فقدوا عسقلان عام 548ﻫ/1153م أدركوا من ذي قبل؛ خطورة الصليبيين عليهم ضرورة الاستفادة من قوة الدولة النورية وثقلها السياسي
والعسكري ( ) .

1- دوافع فتح مصر عند نور الدين : كان فتح مصر من أعظم منجزات نور رحمه الله، فقد تمكن من إسقاط الدولة الفاطمية العبيدية، التي استمرت أكثر من قرنين تنشر الفساد السياسي والخلل العقدي في أنحاء العالم الإسلامي، فهي التي أعانت الصليبيين في احتلال بلاد الشام بتحالفها وتآمرها معهم وهي التي تبنت المذهب الباطني ونشرته في ديار المسلمين، وعندما سادت الفوضى إدارة الحكم فيها، وتحكم الوزراء بالأمر دون الخلفاء طمع الصليبيون بغزو مصر فهاجموها المرة تلو المرة وعندها جرد نور الدين محمود حملاته العسكرية لتخليص مصر من مطامعهم، ولإعادة أرض الكنانة إلى منهج أهل السنة والجماعة، وجمع كلمة المسلمين ( ) ، ويمكن تلخيص أبرز الدوافع التي أدت إلى غزو مصر ما يأتي :

الدافع الأول : حالة الفوضى التي سادت مصر آخر أيامها فقد أصبحت الدولة تعاني كثيراً من مظاهر الانحلال والفساد، حتى صار من الأمور الشائعة، أن يصبح الخليفة أو الوزير مقتولاً، خلال الصراع الدائر بين الوزراء أنفسهم، أو بين الوزراء والخلفاء فقد قتل الظافر على يد وزيره، وتحكم الوزراء فيمن جاء بعده وفي اختيار من يشاءون، وقتل الوزراء بعضهم بعضاً، فقد تولى الوزارة في عام واحد ثلاثة وزراء : العادل بن رزيك، وشاور وضرغام، فضعفت الدولة وسادة الفوضى في البلاد ومن أواخر هذا الصراع خروج شاور من مصر، بعد أن طرده "ضرغام" ومن ثم استنجاده بنور الدين محمود، الذي وجد الفرصة مواتية لتوحيد الوحدة الإسلامية في بلاد الشام ومصر.
الدافع الثاني : إن مطامع الصليبيين شجعت القائد المجاهد نور الدين على التفكير جدياً بضم مصر إلى الجبهة الإسلامية، كما أن تلقيه العهد من الخليفة العباسي باطلاق يده في بلاد الشام ومصر عام 549ﻫ شد من عزيمته لإنجاز هذا الأمر ( ).
الدافع الثالث : من أقوى الأسباب التي أدت إلى القضاء على الخلافة الفاطمية العبيدية، العامل العقدي، فقد كانت دولة باطنية المعتقد، إسماعيلية المذهب فرقت وحدة المسلمين وتآمرت مراراً مع أعدائهم ( ) . فكان لابد من إقامة وحدة قوية في عقيدتها، شرعية في توجهها تضم إلى الخلافة العباسية أرض الكنانة مع بلاد الشام ( )

وفي هذه الظروف التي كان نور الدين الشهيد يتطلع فيها إلى غزو مصر وصل إلى دمشق عام 559ﻫ الوزير الفاطمي شاور بن مجير السعدي، طالباً النجدة منه، ضد من سلب منه منصبه قهراً، كما وعد شاور مقابل مساعدة نور الدين له : بثلث دخل البلاد المصرية سنوياً، بعد دفع رواتب الجند، وأن يكون نائباً عن نور الدين بمصر، إذا ساعده في التغلب على ضرغام عدوه، ويكون أسد الدين شيركوه مقيماً بعسكره بمصر، ويتصرف مع شاور في شؤون البلاد بأمر نور الدين ( ). لكن نور الدين كان متردداً متريثاً : يقدم إلى هذا الغرض رجلاً، ويؤخر أخرى حتى استخار الله في الأمر، على ما هنالك من أخطار جسيمه ممثلة في الصليبيين بالساحل وبيت المقدس، إضافة إلى شكه في إخلاص شاور السعدي ( ) . ثم جهز نور الدين الحملات المتوالية، ووجهها نحو مصر منُذ عام 559ﻫ حتى 564ﻫ بقيادة أسد الدين شيركوه ( ) .

2- الحملة النورية الأولى : 559ﻫ :
قّرر نور الدين محمود إرسال حملة عسكرية إلى مصر بقيادة أسد الدين شيركوه لتحقيق هدفين : مبدئيين :
- الوقوف عن كثب على أوضاع مصر الداخلية تمهيداً لضمَّها، وبخاصة أن شاور وعده إن هو عاد إلى منصبه، سيتحمَّل نفقات الحملة ويؤمن إقامة أسد الدين شيركوه وجنده في مصر.
- إعادة شاور، الوزير الفاطمي المخلوع إلى منصبه.
وعلم ضرغام بالاستعدادات التي تجري في دمشق لتجهيز حملة لمساعدة شاور، فاحتاط للأمر، واستنجد بعموري الأول في محاولة منه للدخول في لعبة توازن القوى، وعقد معه اتفاقاً لمساعدته ضد نور الدين محمود وتعهد له بالمقابل أن يدفع جزية سنوية يقررها الملك كما وافق على أن تدخل مصر في تبعية الصليبيين وأجبر الخليفة الفاطمي العاضد على توقيع هذا الاتفاق ( ) ، وكان طبيعياً أن يقبل عموري الأول هذا العرض الذي سيتيح له فرصة لا تُعوَّض لدخول مصر وهو الأمل الذي سعى إليه الصليبيون منُذ أكثر من نصف قرن، فأعدَّ على الفور حملة عسكرية من أجل الزحف على مصر وخرج أسد الدين شيركوه على رأس حملته الأولى إلى مصر في شهر جمادي الآخرة 559ﻫ/شهر نيسان 1164م بصحبه ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب الذي كان يناهز السابعة والعشرين من عمره وسار على الطريق المحَّدد للحملة، والذي يمر عبر أراضي يسيطر عليها الصليبيون ( ) وحتى يصرف أنظارهم عن التعرض للحملة، وتأميناً على حياة أفرادها تصرف نور الدين محمود على محورين :
الأول : أنه رافق الحملة بجيشه إلى ما يلي دمشق للحيلوه دون التعرض لأفرادها.
الثاني : راح بها جم الأطراف الشمالية لمملكة بيت المقدس المجاورة لدمشق لتحويل أنطار الصليبيين عن مصر ( ) وسار أسد الدين شيركوه على رأس جيشه الكثيف عبر الصحراء، بصحبة شاور، فعبر الكرك ومر بالشوبك ثم أيلة، فالسويس ومنها إلى القاهرة وقد بلغ من السرعة في سيره أنه أجتاز برزخ السويس قبل أن يستعد الصليبيون للتدخل، فأرسل صرغام قوة عسكرية بقيادة أخ له يدعى ناصر الدين، للتصدي لزحفه، أسفر لقاء الطرفين في بلبيس عن انتصار واضح لأسد الدين شيركوه وتراجع ناصر الدين مهزوماً إلى القاهرة، فطارده أسد الدين شيركوه ووصل في أواخر جمادي الآخر إلى العاصمة المصرية، فخرج إليه ضرغام بكل ما يملك من قوة لإدراكه بأن هذه المعركة هي معركته الأخيرة وجرى اللقاء تحت أسوار القاهرة : اتسمت المعركة بالعنف وانتهت بانتصار أسد الدين شيركوه بعد أن تخلىَّ الجيش والناس والخليفة عن ضرغام، وقتل أثناء محاولته الفرار قرب مشهد السيدة نفيسة - المزعوم - في شهر رجب 559ﻫ/ شهر حزيران 1164م كما قتل أخوه ناصر الدين ودخل أسد الدين شيركوه القاهرة منتصراً وأعاد شاور إلى منصبه في الوزارة، ثم أقام معسكره خارجها ( ) .
وبعد أن ضمن شاور عودته إلى منصب الوزارة عاد إلى طبيعته التي اتصف بها - من المكر والخداع - ليدخل في صراع جديد مع أسد الدين شيركوه، فأساء معاملة الناس وتناسى وعوده لنور الدين محمود بل سرعان ما ظهرت عليه إمارات الغدر فنقض اتفاقيته معه، وطلب من شيركوه الخروج من مصر وأن يعود فوراً مع قواته إلى بلاد الشام، لكن هذا الأخير رفض الإستجابة لطلبه، وردَّ على موقفه المتقلب، فسارع إلى الاستيلاء على بلبيس وحكم البلاد الشرقية ( )، ولم يَسَعْ شاور إلا أن يستنجد بالملك عموري الأول الذي كان يتأهب للزحف على مصر، وأخذ يخوَّفه من نور الدين محمود وعرض عليه أن :
- يؤدي له مبلغ ألف دينار عن كل مرحلة من مراحل الرحلة من بيت المقدس إلى نهر النيل، البالغ عددها سبعاً وعشرين مرحلة.
- يمنح هدية لكل من يصحبه من فرسان الأسبتارية الذين كانوا يشكلون عماد جيش مملكة بيت المقدس، في محاولة منه لإغراء فرسانها بالاشتراك بالحملة.
- يتكفَّل بنفقات علف أفراسهم، مقابل مساعدته لإخراج أسد الدين شيركوه من مصر ( ) وهكذا انغمس شاور في اللعبة السياسية بين الأعداء الكبار محاولاً بذلك إثارتهم لمصلحته الخاصة ولا شك بأن عموري الأول كان آنذاك يراقب تطورات الموقف السياسي والعسكري في مصر، فلما علم بزحف أسد الدين شيركوه ازدادت مخاوفه، ولما وصلت إليه دعوة شاور رحَّب بها، وبذلك لم يُضع الفرصة عليه لدخول مصر وإن اختلف الحليف، الأمر الذي لا يهمه في شيء فكل ما يعنيه هو دخول مصر( ).

3- حملة عموري الثانية على مصر : فشلت حملت عموري الأول على مصر واضطر إلى الإنسحاب والعودة إلى بيت المقدس وكانت في عام 558ﻫ/1163م وعند اتيحت الفرصة مّرة أخرى لدخول مصر بادر عموري الأول، فور تلقيه دعوة شاور، إلى عقد مجلس في بيت المقدس حضره بارونات المملكة، وتقرَّر فيه تلبية دعوة شاور بعد أن أوضح للمجلس أنّ في قدرته تجهيز حملة لغزو مصر دون أن يضعف من دفاعات المملكة، وبخاصة أنه وصل وقتئذ من أوروبا عدد من الحجاج لزيارة بيت المقدس يمكن الاستفادة منهم في المجهود الحربي وأمل في أن يتمكَّن من احتلال مصر لحساب الصليبيين، وقرَّر بأن يتولى بوهميوند الثالث، أمير أنطاكية، إدارة شؤون المملكة خلال غيابه ( ) ، وأسرع ملك بيت المقدس بالزحف إلى مصر على رأس قواته للمرة الثانية في شهر رمضان عام 559ﻫ / شهر آب عام 1164م واتصل، فور وصوله إلى فاقوس ( ) بشاور واتفقا على حصار أسد الدين شيركوه في بلبيس وصمد هذا الحصن للحصار مدة ثلاثة أشهر دافع أسد الدين شيركوه خلالها عن مواقعه ( ) ، وفجأة قرَّر عمورى الأول الدخول في مفاوضات معه للجلاء المزدوج عن مصر، فما الذي حدث في الأفق السياسي حتى أقدم على هذه الخطوة ؟ - وهنا تبرز عبقرية نور الدين العسكرية وقيادته الفذة فقد - تلقَّى عموري الأول أنباء مزعجة من بلاد الشام بتعرض ممتلكاته لضغط من نور الدين محمود، ففضَّل العودة للدفاع عنها، وأدرك في الوقت نفسه أن حملته مقضي عليها بالفشل في ظل امتناع أسد الدين شيركوه في بلبيس. وكان موقف أسد الدين شيركوه صعباً أيضاً، فالمؤن بدأت بالنفاذ فضلاً عن تفوق القوات الصليبية الفاطمية المشتركة في العدد وأن الوضع العسكري ليس في صالحه لذلك قبل الدخول في مفاوضات من أجل الجلاء عن مصر ( ) .

وفعلاً تّم الاتفاق بين الرجلين على الخروج من مصر في شهر ذي الحجة، شهر تشرين الأول وسار الجيشان الإسلامي والصليبي في طريقين متوازيين عبر شبه جزيرة سيناء بعد أن تركا شاور يسيطر على مقاليد الحكم وكان شيركوه آخر من غادر البلاد للحاق بجيشه ( ) وكان شاور الفائز الحقيقي في هذا الصراع الذي انتهى لمصلحته، فتخلصَّ من الجيوش الإسلامية الشامية والصليبية على السواء كما تخلصَّ من ضرغام وأضحى طوال العامين التاليين صاحب الأمر والنهي والمتحكَّم في مقاليد البلاد ( )، ووضع أسد الدين شيركوه نفسه بعد عودته من مصر، تحت تصرف نور الدين محمود وأصبحت مصر محور تفكير أسد الدين شيركوه وحديثه في مجالسه ومحور أفكاره، ولم ينقطع عن تبادل الآراء مع أصدقائه فيها الذين كانوا يزودونه بأخبارها وأرسله نور الدين محمود في تلك الأثناء بمهمة إلى بغداد، فاستغل وجوده في عاصمة الخلافة ليثير حماس الخليفة المستنجد بالله حيث راح يقص عليه أخبار مصر وأحوالها، وما شاهده وخبره بنفسه، فتأثر الخليفة بما سمعه وشجَّعه على العودة إليها ( ) .

وعلى الرغم من أن حملة أسد الدين شيركوه لم تحقق أهدافها في مصر، إلا أن النتيجة النهائية هي أن أملاك نور الدين محمود قد تدعَّمت في بلاد الشام وارتفع شأنه في العالم الإسلامي، بينما تراجعت أملاك الصليبيين إلى الساحل واستبد اليأس بهم ( ) ، ومهما يكن من أمر، فقد غادر كل من شيركوه وعموري الأول أرض مصر وقد وقف كل منهما على أوضاعها السياسية المتردية وسوء أحوالها الاقتصادية، بالإضافة إلى ما تمتع به من ثروة وفيرة وموارد بشرية هائلة ترجَّح كفة من يضع يده عليها. وانتهز شاور فرصة خروجهما فعاد إلى سيرته الأولى، يظلم ويقتل، ويصادر أموال الناس، بحيث لم يبق للخليفة الفاطمي العاضد معه أمر ولا نهي، ولما ثقلت وطأته عليه كتب إلى نور الدين محمود يستنجد به ليخلصَّه منه ( ) .

4- الحملة النورية الثانية : أعّد نور الدين محمود القوات اللازمة وأرسلها إلى مصر في شهر ربيع الأول عام 562ﻫ/شهر كانون الثاني عام 1167م بقيادة أسد الدين شيركوه وصحبة ابن أخيه صلاح الدين وسيَّر معه جماعة من الأمراء ( ) ، وبلغ تعداد هذه القوات ألفي فارس ( ) ، ورافقه نور الدين حتى أطراف البلاد خوفاً من تعُّرض الصليبيين له ( )، وسار أفراد الحملة في طريق محفوفة بالأخطار، فالصليبيون الذين كانوا على طريقهم رابضين في الكرك والشوبك قد ينقضُّون عليهم وينكَّلون بهم، وهم بعيدون عن مناطقهم، والبدو يلاحقونهم وينقلون أخبارهم إلى الصليبيين، وكان عليهم أن يغيَّروا طريق سيرهم أحياناً للتّخفي، كما عرقلت الطبيعة زحفهم، إذ أن عاصفة رملية عنيفة هبَّت عليهم وقضت على عدد من الرجال وبعض الزاد وعلى الرغم من ذلك واصلوا رحلتهم إلى مصر وتوافر لشاور من الوقت ما جعله يستنجد مجدَّداً بعموري الأول، إذ أيقن من استقراء الأحداث، أن أسد الدين شيركوه إذا قدم إلى مصر هذه المرة، فإنه سوف يبقى فيها ولا يغادرها، لذلك، فإنه لم يتوان عن الاتصال بملك بيت المقدس والتفاوض معه، موضحاً له الخطر، الذي يمثله نور الدين محمود على مملكة بيت المقدس لو نجح في امتلاك مصر. رحَّب عموري الأول بدعوة شاور طمعاً في امتلاك مصر وإبعاد نور الدين محمود وجيوشه عنها، حتى لا يتمكنَّ من تطويق مملكته التي ستصبح في وسط ممتلكات نور الدين محمود ( ) وقبل أن تستكمل الاستعدادات وردت الأنباء بأن أسد الدين شيركوه يجتاز صحراء سيناء، فلم يسع عموري الأول إلا أن يرسل ما تيسر الحصول عليه من الجند لعرقلة تقدمه، غير أن هذا التدبير جاء ( ) متأخراً. وعلى الرغم من أن جيش أسد الدين شيركوه تعرَّض لعاصفة رملية عرقلت تقدمه، وكادت تقضي على أفراده، فإنه وصل سالماً إلى برزخ السويس في شهر ربيع الآخر/أوائل شهر شباط) وعلم أسد الدين شيركوه بأن جيشاً صليبياً شرع في الزحف باتجاه مصر، عندئذ أجتاز الصحراء باتجاه الجنوب الغربي ليتفادى مواجه مبكرة مع الصليبيين حتى بلغ نهر النيل عند إطفيح على مسافة أربعين ميلاً جنوبي القاهرة ( ) ثم عبر غلى الضفة الغربية والتزمها في سيره حتى وصل إلى، الجيزة وعسكر بمواجهة الفسطاط، وتصَّرف في البلاد الغربية وحكمها نيفاً وخمسين
يوماً ( ).

أ- حملة عموري الثالثة على مصر والمفاوضات الصليبية الفاطمية :
خرج عموري الأول من بيت المقدس في شهر ربيع الأول عام 562ﻫ شهر كانون الثاني عام 1167م متوجهاً إلى مصر في حملته الثالثة على هذا البلد، واجتاز الطريق المألوف من غزة إلى العريش، ثم اخترق الصحراء إلى بلبيس وارتاع شاور من ظهوره المفاجيء وساوره القلق لعدمَ التنسيق معه، ويبدو أنه لم يكن على علم بوصول شيركوه إلى إطفيح، ولم يطمئن إلا عندما أرسل كشافته إلى الصحراء للوقوف على حقيقة الوضع، عندئذ خرج لاستقبال الملك الصليبي والتقى به، وأنزله عموري الأول في معسكره على الضفة الشرقية لنهر النيل على مسافة ميل واحد من أسوار القاهرة ( ) ، وأجرى مع شاور مباحثات تعهد شاور خلالها بأن يدفع أربعمائة ألف دينار مقابل طرد أسد الدين شيركوه من مصر، على أن يجري دفع نصف هذا المبلغ على الفور، ثم يبذل النصف الآخر فيما بعد، واشترط أن يقُسم عموري الأول على هذا ( ) ، ولدعم هذه الاتفاقية، وإعطائها صيغة رسمية، أرسل عموري الأول كلاً من هيو، سيد قسارية، وجفري، مقدم فرسان الداوية، إلى الخليفة الفاطمي للحصول منه على الموافقة الرسمية عليها، فاستُقبل الرسولان استقبالاً حافلاً في القصر الفاطمي وتمَّ التصديق على المعاهدة ( ) . وكان من الطبيعي أن يرحَّب الصليبيون بهذه الاتفاقية التي تجعل منهم حماة لمصر والخلافة الفاطمية، وتُبعد أسد الدين شيركوه بوصفه المنافس الوحيد لهم في السيطرة على هذا البلد ( )

ب- معركة البابين : كان أسد الدين والعسكر النُّوري قد ساروا إلى الصَّعيد فبلغوا مكاناً يُعرف بالبابَيْن، وسارت العساكر المصرية والفرنج وراءهم فأدركوهم به في الخامس والعشرين من جمُادي الأولى وكان قد أرسل إليهم جواسيس، فعادوا وأخبروه بكثرة عَدَدهم وعُددهم، وجدَّهم في طلبه، فعزم على لقائه وقتالهم، وأن تحكم السيوف بينه وبينهم، إلا أنه خاف من أصحابه أن تضعف نفوسهم عن الثبات في هذا المقام الخطر الذي عطبهم فيه أقرب من السَّلامة، لقلة عددهم وبُعْدهم عن بلادهم فاستشارهم، فكلُّهم أشار عليه بعبور النيَّل إلى الجانب الشَّرقي والعوْد إلى الشَّام وقالوا له : إن نحن انهزمنا - وهو الذي لا شك فيه - فإلي أين نلتجيء وبمن نحتمي، وكل في هذه الديار من جندي وعامي وفلاح عدوُّ لنا، وبَوَدُّون لو شربوا دماءنا ؟ وحُقَّ لعسكر عدتهم ألفا فارس قد بَعُدُوا عن ديارهم ونأى ناصرهم أن يرتاع من لقاء عشرات ألوف، مع أن كل أهل البلاد عدوُّ لهم. فلما قالوا ذلك قام إنسان من المماليك النُّورية يقال له شرف الدين بُزغُش - وكان من الشجاعة بالمكان المشهور - وقال : من يخاف القتل والجراح والأسر فلا يخدم الملوك، بل يكون فلاحاً أو مع النِساء في بيته والله لئن عُدْتُم إلى الملك العادل من غير غَلبة وبلاء تُعذرون فيه ليأخذنَّ إقطاعاتكم وليعودَنَّ عليكم بجميع ما أخذتموه إلى يومنا هذا، ويقول لكم : أتأخذون أموال المسلمين وتفُّرون عن عدوهم، وتسلمَّون مثل هذه الديار المصرية يتصَّرف فيها الكُفَّار ؟ قال قال أسد الدين هذا رأي وبه أعمل. ووافقهما صلاح الدين يوسف بن أيوب، ثم كثر الموافقون لهم على القتال، فاجتمعت الكلمة على اللقاء، فأقام بمكانه حتى أدركه المصريون والفرنج وهو على تعبئة - وهنا برزت عقلية أسد الدين شيركوه وخبرته العسكرية فقد جعل الأثقال في القلب يستكثَّر بها، ولأنه لم يمكنه أن يتركها بمكان آخر فينهبها أهل البلاد ثم إنه جعل صلاح الدين ابن أخيه في القلب وقال له ولمن معه : إن الفرنج والمصريين أنني في القلب فهم يجعلون جَمْرتهم بإزائه وحملتهم عليه، فإذا حملوا عليكم فلا تصدقوهم القتال ولا تهلكوا نفوسكم واندفعوا بين أيديهم، فإذا عادوا عنكم فأرجعوا في أعقابهم واختار من شجعان أصحابه جمعاً يثق إليهم ويعرف صبرهم وشجاعتهم، ووقف بهم في الميمنة، فلما تقابل الطائفتان فعل الفرنج ما ذكره أسد الدين وحملوا على القلب ظناً منهم أنه فيه، فقاتلهم مَنْ به قتالاً يسيراً، ثم انهزموا بين أيديهم، فتبعوهم، فحمل حينئذ أسد الدين فيمن معه على من تخلفَّ من الفرنج الذين حملوا على القلب - من المسلمين والفرنج - فهزمهم ووضع السيف فيهم فأثخن، وأكثر القتل والأسر، وانهزم الباقون، فلما عاد الفرنج من أثر المنهزمين الذين كانوا في القلب رأوا مكان المعركة من أصحابهم بَلقْعاً ليس بها منهم ديَّار، فانهزموا أيضاً وكان هذا من أعجب ما يؤرَّخ : أن ألفي فارس تهزم عساكر مصر وفرنج السَّاحل ( ) .

ج- حصار الإسكندرية : ثم سار أسد الدين إلى ثغر الإسكندرية وجبى ما في طريقها من القرى والسوَّاد من الأموال، ووصل إلى الإسكندرية فتسلمَّها من غير قتال؛ سلمَّها أهلها إليه فاستناب بها صلاح الدَّين ابن أخيه، وعاد إلى الصَّعيد وتملكَّه وجبى أمواله وأقام به حتى صام رمضان وأما المصريون والفرنج فإنهم عادوا إلى القاهرة وجمعوا أصحابهم وأقاموا عوض من قُتل منهم، واستكثروا، وحشدوا، وساروا إلى الإسكندرية - وبها صلاح الدين في عسكر يمنعونها منهم، وقد أعانهم أهلها خوفاً من الفرنج، فاشتد الحصار وقَلَّ الطعام بالبلد، فصبر أهله على ذلك، ثم إن أسد الدين سار من الصعيد نحوهم، وكان شاور قد أفسد بعض من معه من التركمان، ووصله رسل المصريين والفرنج يطلبون الصُّلح ( ) .

س - المفاوضات النورية - الصليبية بشأن الجلاء عن مصر : وبعد مفاوضات بين الطرفين تّم عقد صلح على الأسس التالثة :
رفع الحصار عن الإسكندرية.
تبادل الأسرى.
إطلاق سراح الجند النوري داخل الإسكندرية.
يخرج شيركوه مع عسكره من مصر.
عدم التعرض لهم في الطريق من قِبل القوات الصليبية.

إن قراءة متأنية لسير الوقائع، كما جرت على الأرض، والعروض المتبادلة بشأن عقد الصلح وما حدث بعد إبرام الاتفاقية يمكن رصد الملاحظات التالية : ، فقد وافق الجانبان النوري والصليبي الفاطمي على :
خروج القوات النورية والصليبية من مصر.
تبادل الأسرى.
يتعهد شاور بألاّ يُعاقب رعاياه في الإسكندرية وفي غيرها من الجهات الذين ساندوا أسد الدين شيركوه ( ).

ومهما يكن من أمر، فقد دخل عموري الأول مدينة الإسكندرية في شهر شوال/ شهر آب) في حين غادرها صلاح الدين في موكب عسكري حافل على الرغم مما أصاب السكان من ضيق لرحيله، والتقى الرجلان وأعجب كل منهما بالآخر، حتى لقد قام ملك بيت المقدس بإمداد صلاح الدين ببعض المراكب لنقل الجرحى المسلمين إلى بلاد الشام ( ) . على أن متاعب السكان لم تنته، فلم يكد أتباع شاور يدخلون المدينة حتى ألقوا القبض على كل من جرى الاشتباه في أنه تعاون مع صلاح الدين وقد احتج هذا الأخير لدى عموري الأول الذي نصح شاور بأن يطلق سراح الأسرى ( ) . وكانت هذه هي المّرة الثانية التي يغدر شاور وقد علمَّت صلاح الدين درساً قاسياً، حتى إنه لم يتركها تتكرر، واقتصَّ بنفسه من شاور عندما عادت القوات الشامية إلى مصر عام 564ﻫ/1168م ( ) .

ك- الحماية الصليبية على مصر : غادر كل من أسد الدين شيركوه وصلاح الدين مصر في شهر ذي القعدة / شهر أيلول في حين تأخر عموري الأول لبضعة أسابيع، لأنه مَّر بالقاهرة ليثبَّت الحماية الصليبية على الدولة الفاطمية وشاور، وكانت أهم مظاهرها :
دفع جزية سنوية قدرها مائة ألف دينار للصليبيين.
بقاء قوة من فرسانهم تحمي أبواب القاهرة، لتدفع نور الدين محمود إن كرَّر محاولة الهجوم.
إقامة مندوب عن الملك الصليبي في القاهرة يشارك في شؤون الحكم ( ) ت.

والراجح أن فكرة تملُّك مصر كانت ناشطة في تفكير عموري الأول السياسي، ولم يعد بوسعه أن يتخلى عنها، وهو ينوي العودة بعد إقرار الأمور في بلاد الشام، وذلك طمعاً في ثروتها وحماية لكيانه في بلاد الشام، ثم عاد الملك إلى فلسطين ( ) . وبهذه الإجراءات تأكدت الحماية على مصر، وترتَّب على هذا استمرار التنافس بين نور الدين محمود وعموري ( ) .


5- الحملة النورية الثالثة على مصر : عام 564ﻫ :
سبب هذه الحملة أن الفرنجة كانوا قد جعلوا لهم شحنة في القاهرة، وتسلموا أبوابها، وحكموا المسلمين حكماً جائراً، فلما رأوا أنه ليس في البلاد من يردهم، أرسلوا إلى ملكهم - عموري - في القدس، يستدعونه ليملك مصر، وهونوا عليه أمرها، فتردد خوفاً من سوء العاقبة، ثم سار مع فرسانهم على كره منه حتى وصلوا بلبيس مستهل صفر ونهبوها، وقتلوا وأسروا من فيها، ثم ساروا إلى "الفسطاط" فأمر شاور بإحراقها وأمر أهلها بالانتقال منها إلى القاهرة، وأن ينهب البلد خوفاً من أن يملكها الإفرنج، فنهبت المدينة وبقيت النار تحرقها أربعة وخمسين يوماً ثم حاصر الفرنجة القاهرة وضيقوا على أهلها، وكان شاور هو المتولي للعساكر والقتال فضاق به الأمر وضعف عن ردهم، فأخلد إلى الحيلة وراسل ملكهم عموري ووعده بمال عظيم ألف ألف دينار مصرية يعجل بعضها الآن، ودفع لهم منها " مائة ألف دينار" وسألهم الرحيل عنه ليجمع لهم المال، فرحلوا قريباً، وجعل يجمع لهم المال فلم يستطيع أن يجمع إلا خمسة آلاف دينار حيث أن المصريين كانوا قد احترقت دورهم، ونهبت أموالهم ( ).

أ- العاضد يستنجد بنور الدين محمود :
كان حاكم مصر العاضد عقيب حريق مصر أرسل إلى نور الدين يستغيث به ويعَّرفه ضعف المسلمين عن الفرنج وأرسل في الكتب شعور النساء وقال له : هذه شعور نسائي من قصري يستغثن بك لِتُنقِذهُنَّ من الفرنج ( ) وعرض على نور الدين مقابل إنقاذ البلاد من الصليبيين :
- منحه ثلث بلاد مصر.
- منح قادته الإقطاعات.
- يسمح ليشيركوه بأن يقيم في مصر ( ).

ب- أسد الدين شيركوه يزحف إلى مصر ويدخل القاهرة :
شرع نور الدين في تجهيز الجيوش وأعدادها أعداداً قوياً وأعطى قائد الحملة (شيركوه) مائتي ألف دينار، سوى الثياب والدواب والأسلحة، وحكمه في العسكر والخزائن، يأخذ حاجته فاختار من العسكر ألفي فارس، وجمع من فرسان التركمان ستة آلاف وسار نور الدين وشيركوه إلى باب دمشق، ورحلوا إلى رأس الماء ( ) ، وأعطى نور الدين كل فارس منهم عشرين ديناراً، معونه غير محسوبة وأضاف إلى شيركوه جماعة أخرى من الأمراء، منهم صلاح الدين الأيوبي ( ) ، وسار أسد الدين مجداً فلما قارب مصر، رحل الفرنجة إلى بلادهم بخفي حنين، خائبين مما أملوا، وسمع نور الدين بعودتهم فسره ذلك، وأمر بضرب البشائر في بلاد ولما وصل أسد الدين القاهرة، دخلها واجتمع بالعاضد، الذي خلع عليه وفرح به أهل مصر، وأجريت على عساكره الجرايات الكثيرة ( ).

ج- مقتل شاور : وأما شاور فلم يفصح عما في نفسه، وشرع يماطل أسد الدين فيما وعد به من المال، ورواتب الجند، وعزم على الغدر أيضاً، فقرر أن يقيم وليمة لأسد الدين وأمرائه ثم يغدر بهم ويقتلهم، فنهاه ابنه الكامل عن ذلك وقال له : ولله لئن عزمت على هذا الأمر لأُعرَّفَنَّ أسد الدين. فقال له أبوه : والله لئن لم أفعل لنقتلن جميعاً. فقال : صدقت، ولئن نُقتل ونحن مسلمون والبلاد بين المسلمين خير من أن نقتل وقد ملكها الفرنج، فليس بينك وبين عود الفرنج إلا أن يسمعوا بالقبض على شِركوه، وحينئذ لومشى العاضد إلى نور الدين لم يرسل فارساً واحداً ويملكون البلاد،فترك ما كان عزم عليه ( ) ، وأخيراً اتفق صلاح الدين وبعض الأمراء على التخلص من هذا الخائن المراوغ شاور فأسروه، وسمع العاضد بذلك فأرسل إلى شيركوه يطلب رأسه، وأذن أسد الدين بقتله فقتل، وأرسل رأسه إلى العاضد في السابع عشر من ربيع الآخرة، عام 643ﻫ ( ) .

ر- تولي أسد الدين الوزارة للعاضد : ودخل أسد الدين القاهرة، وقصد قصر العاضد فخلع عليه الوزارة، ولقبه الملك المنصور، وأمير الجيوش، واستعمل على الأعمال من يثق به من أصحابه وأقطع البلاد لعساكره، وقد مدح الشعراء أسد الدين شيركوه لما حقق من الانتصارات فقال العماد

بلغت بالجد مالا يبلغ البشر
 ٭٭ ونلت ما عجزت عن نيله القُدَر

أصبحت بالعدل والإقدام منفرداً
 ٭٭ فقل لنا : أعليّ أنت أم عمر

أفخر فإن ملوك الأرض أذهلهم
 ٭٭ ما قد فعلت، فكلُّ فيك مفتكِرُ

سهرت إذ رقدوا بل هُجْتَ إذ سكنوا
 ٭٭ وصُلت إذ جبنوا، بل طُلت إذ ( ) قصروا


س- وفاة أسد الدين : ولم تطل وزارة شيركوه، حيث توفي في الثاني والعشرين من جمادى الآخرة سنة 564ﻫ فكانت ولايته شهرين وخمسة أيام رحمه الله رحمة واسعة وخلفه في الوزارة ابن أخيه صلاح الدين ( ) وكان أسد الدين من أكبر قادة نورالدين، وقد ادخره الملك العادل للخطوة الكبرى التي كان يمهد لها، وهي ضم مصر إلى بلاد الشام وكان رحمه الله كريماً على جنده، صارماً يعرف كيف يقر النظام في عسكره فهابه جنده وأحبوه، وركبوا معه المخاطر في حملات عظيمة ( ) نفع الله بها الإسلام والمسلمين وساهمت في تقوية المشروع المقاوم للغزو الصليبي الذي كان يقوده نور الدين ثم من بعده صلاح الدين وسيتأتي التفصيل بإذن الله عن أسد الدين شيركوه وبني أيوب في حديثنا عن عصر الدولة الأيوبية وسيرة صلاح الدين الأيوبي بإذن الله تعالى.

ثالثاً : وزارة صلاح الدين في مصر والمهام التي أنجزها :
كان صلاح الدين قد أظهر كفاءة خلال صحبته لعمه، أسد الدين شيركوه، أثناء حملاته على مصر، فتولى الوزارة بعد وفاة عمه، وهو في الحادية والثلاثين من عمره اختاره العاضد، لأنه كان أصغر الأمراء سناً ولعله يكون أكثر طواعيةً له، إلا أن الملك الناصر كما لقبه العاضد - خيب ظن الفاطميين، فشرع يستميل قلوب الناس إليه كما بذل لهم من الأموال التي قد جمعها عمه، فمال الناس إليه وأحبوه وسيطر على الجند سيطرة تامة ( ) ، وكانت المهام التي أنجزها صلاح الدين في عهد نور الدين عظيمة وضخمة واستطاع القضاء على مراكز القوة :

1- مؤامرة مؤتمن الخلافة : جرى من الأحداث في مصر بعد تولية صلاح الدين منصب الوزارة، أن البلاد كانت تجتاز مرحلة خطيرة في تاريخها، فالدولة الفاطمية، لازالت موجودة يساندها الجيش الفاطمي وكبار الدولة، والخطر الصليبي لا يزال جاثماً على مقربة من أبواب مصر الشرقية، فكان عليه أن يثبت أقدامه في الحكم ليتفرغ لمجابهة ما قد ينشأ من تطورات سياسية ولم يلبث أن ظهر مقدرة كبيرة في إدارة شؤون الدولة وهو عازم على الاستئثار بكافة الاختصاصات حتى التي تخص منصب الخلافة ونفَّذ عدة تدابير كفلت له الهيمنة التامة منها :
- استمال قلوب سكان مصر بما بذل لهم من الأموال فأحبوه.
- أخضع مماليك أسد الدين شيركوه، وسيطر بشكل تام على الجند بعد أن أحسن إليهم.
- قوّى مركزه بما كان يمده به نور الدين محمود من المساعدات العسكرية وقد وصل أخوه شمس الدولة توران شاه بن أيوب مع إحدى هذه المساعدات العسكرية ( ) . وقد أدَّت التدابير التي نفَّذها صلاح الدين إلى تقوية قبضته على مقدرات الدولة، وزادت من تراجع نفوذ العاضد وبالتالي مركز الإمامة وأثارت استياء كبير الطواشية، مؤتمن الخلافة، وهو نوبي، وقائد الجند السودان، وقد أدرك أن نهج صلاح الدين في الحكم سوف يقضى في حال استمراره على الدولة الفاطمية إن عاجلاً أو آجلاً ويبدو أنه كان من بين الطامعين في خلافة شاور، ولما لم يفلح راح يحيك الدسائس للإطاحة بصلاح الدين وحاول الاتصال بعموري الأول ملك بيت المقدس، لتحريضه على مهاجمة مصر، آملاً في حالة الاستجابة أن يخرج صلاح الدين إلى لقائه، فيقبض هو على من يبقى من أصحابه في القاهرة ويثبت على منصب الوزارة ويتقاسم البلاد مع الصليبيين غير أن صلاح الدين علم بخيوط المؤامرة حين أرتاب أحد أتباعه في شكل الخفين اللذين اتّخذهما رسول مؤتمن الخلافة إلى عموري الأول، فأخذهما ونزع خياطتها، فاكتشف الرسالة بداخلها، فقبض على مؤتمن الخلافة وانتهز الفرصة للتخلص منه، غير أن أنباء اهتزاز مركزه في مصر شجعت النصارى على القيام بمحاولة أخرى لمهاجمة مصر ( ) . وقد قام صلاح الدين بأبعاد جميع الخدم من السودان عن قصر الخلافة واستعمل على الجميع في القصر، بهاء الدين قراقوش، فكان لا يجري في القصر صغير ولا كبير إلا بحكمه وأمره ( ).

2- وقعة السُّودان : وذلك أنه لما قتل الطَّواشي ( ) ، مؤتمن الخلافة الخادم الحبشُّي، وعزل بقية الُخدَّام غضبوا لذلك واجتمعوا قريباً مِن خمسين ألفاً، فاقتتلوا هم وجيش الملك صلاح الدين بين القَصْرَين فقتل خلق كثير من الفريقين، وكان العاضد ينظر من القصر إلى المعركة، وقد قُذِْفَ الجيشُ الشامُّي من القصر بحجارة، وجاءهم منه سهامٌ، فقيل: كان ذلك بأمر العاضد وقيل : لم يكن بأمره، ثم إن أخا الناصر - صلاح الدين - شمس الدولة تورانشاه وكان حاضراً للحرب قد بعثه نور الدين إلى أخيه ليُشدَّ أزره - أمر بإحراق منظره العاضد، ففتح الباب ونُودِى : إن أمير المؤمنين بأمركم أن تخرجوا هؤلاء السُّودان من بين أظهركم، ومن بلادِكم فقوى الشاميون وضعف جأش السودان جدَّاً،، وأرسل الملك الناصر إلى محلتهم المعروفة بالمنصورة التي فيها دورُهم وأهلوُهم بباب زويلة فأحرقها فولَّوا عند ذلك مُدبرين، وركبهم السيف فقتل خلقاً كثيراً، ثم طلبُوا الأمان من الملك صلاح الدين، فأجابهم إلى ذلك، وأخرجهم إلى الجيزة، ثم خرج إليهم شمسُ الدول تورانشاه أخو الملك صلاح الدين فقتل أكثرهم ولم يبق منهم إلا القليل " فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا " (النمل ، آية : 52) ( ) ويبدو أن حاكم مصر الفاطمي كان في ذلك الوقت على علم بمؤامرة مؤتمن الخلافة، لأنه ليس من المتصور أن يجري ذلك في قصره وبدون علمه، ويؤكد ذلك أن قوات صلاح الدين يوسف بن أيوب تعرضت وهي تصفي أطراف المؤامرة، لهجمات بالحجارة والسهام صادرة من قصر الحاكم، بل إن العاضد كان يراقب المعركة من القصر ( ) .

كان اكتشاف المؤامرة من مسؤوليات ديوان الإنشاء وبالذات القاضي الفاضل الذي كان العقل المفكر للقضاء على النفوذ الفاطمي في مصر وتثبيت المذهب السني وسيأتي الحديث عنه مفصلاً بإذن الله في حديثنا عن الدولة الأيوبية.

كان القاضي الفاضل يراقب كتّاب ديوان الإنشاء والمسّرحين منهم بصورة خاصة، وكانت العيون مبثوثة في كل ناحية ومنطقة وزاوية، في القصور وبين العساكر، وعلى الحدود، وعلى كل محطة من محَطات البريد أو محَّطات الاتصال بين مصر والفرنج وقد كانت هذه العيون على اتصّال مباشر بالقاضي الفاضل تزوده بتقريرها بواسطة الرسل وعلى أجنة حمام الزاجل ( ).

3- القضاء على الأرمن : ولم يتوقف نصر صلاح الدين بالقضاء عل شوكة السودان بل أتبعه بفلّ شوكة الأرمن، وهم الفرقة التالية للسودان قوة وعدداً، فأحرق داراً للأرمن بين القصرين وفيها عدد كبير من الجنود الأرمن، معظمهم من الرماة ولهم رواتب من الحكومة، وكان هؤلاء قد حاولوا أن يعرقلوا حركة قوات صلاح الدين في أثناء المعركة مع السودان برميهم بالنشّاب فلقوا جزاءهم، وأما من تبقّى منهم فنفاهم صلاح الدين إلى الصعيد ( )، أضعف صلاح الدين بقضائه على شوكة السودان والأرمن الدولة الفاطمية إلى حد بعيد، بحيث أصبح من الواضح أن القضاء على الدولة الفاطمية نفسها لم يعد بعيداً ( ) .

4- اهتمام صلاح الدين بتقوية جيوشه : أخذ صلاح الدين يعمل حال توليّة الوزارة على إعداد جيش أيوبي ليكون نواة لجيش مصري جديد يدافع به عن حكمهم، وعن مصر من الغزو الإفرنجي ولم يْخفَ عليه تدهور وضع الجيش الفاطمي لأنه خبره في أثناء رحلاته الثلاث إلى مصر بين سنة 559ﻫ وسنة 564ﻫ/1163م - 1168م وعرفه معرفة جيدة من حيث مصادره البشرية والمالية والحربية ومن حيث تنظيمه وفِرقه المبنية على أساس عرقي، مثل السودان، والأرمن، والمصريين والديلم والأتراك والعربان وكان يعرف بالتفصيل وضع كل فرقة من هذه الفرق ( ) ، وكان القاضي الفاضل قد عمل في إدارة هذه القوات في عهد رزيك بن الصالح وساهم معها في بعض وقائعها الحربية خلال الحملة الفرنجية الشامية الثانية على مصر كما أشرنا سابقاً، وشاهد قادة الفرق المختلفة من هذه القوات وهم يتنافسون في شأن السلطة الأمر الذي أنهك القوات وأضعف مصر إلى حد أصبحت تعجز معه عن الدفاع عن استقلالها، أو حتى عن بقائها وعرف القاضي الفاضل الكثير عن القوات المصرية عن طريق عمله معها في ديوان الجيش وفي ديوان الإنشاء الذي كان يتعامل مع ديوان الجيش ويشرف على العيون والرسل، فألّم بهذه القوات وعرف دخائلها وأطلّع على كل فرقة منها وعلى نيات كل قائد من قوّادها، ولم يضنَّ بمعلوماته عنها على صلاح الدين، بل وجهه في تنظيم جيشه الأيوبي وإدارته، وظل طول عمله مع صلاح الدين يشرف على عساكره، ويراقب إعدادها وتنظيمها ومواردها المالية ويصحبها من مصر إل الشام لتحارب مع صلاح الدين ومن الشام إلى مصر لتستعد وتتجهز لحملات مقبلة ضد الفرنج وقد أنشا صلاح الدين في بداية عهده في الوزارة جيشاً كبيراً ازداد عدداً وعّدة بمرور القت واتساع عملياته الحربية ضد الفرنج وكان قوام هذا الجيش في مصر الحرس الخاص، والجيش النظامي في مصر، ثم الجيوش الشعبية التي تكوّنت من أمراء الإقطاع وجنودهم، ولاسيما في الشام والجزيرة بعد سنة 570ﻫ/1174م والبدو ( ) ويأتي بيان ذلك بإذن الله تعالى مفصلاً في الحديث عن الدولة الأيوبية وصلاح الدين.

رابعاً : التصدي للحملة الصليبية البيزنطية المشتركة وحصار دمياط 565ﻫ :
أدرك الإفرنج خطورة موقفهم بعد فتح مصر، وتولى صلاح الدين وزارتها، فاتفق ملك القدس "عموري" مع إمبراطور بيزنطة على غزو مصر بأساطيلهم وحاصروا دمياط تنفيذاً لذلك التحالف ( ) ، وأرسل صلاح الدين قواته بقيادة خاله شهاب الدين محمود وابن أخيه تقي الدين عمر، وأرسل إلى نورالدين يشكو ما هم فيه من المخافة ويقول : إن تأخرت عن دمياط ملكها الإفرنج، وإن سرت إليها خلفني المصريون في أهلها بالشر، وخرجوا من طاعتي، وساروا في أثري، والفرنج أمامي؛ فلا يبقى لنا باقية ( ) . إلى صلاح الدين فسير وقد قام نورالدين بالدور المتوقع منه واتخذ القرار السليم العساكر ثم سار هو بنفسه إلى بلاد الفرنج الشامية وقام بشن الغارات على حصون الفرنجة وقلاعهم ووصلت سراياه إلى المدى الذي لم تصله من قبل في بلادهم ليخفف الضغط عن مصر وفي ذلك تعزيز ودعم لصلاح الدين حتى يتمكن من إحكام السيطرة على مصر، ليتفرغ بعد ذلك للمساعدة في تحقيق الهدف الإستراتيجي الكبير المتمثل في تحرير سواحل بلاد الشام من الاحتلال ( ) الفرنجي وقامت حامية دمياط بدور بطولي في الدفاع عن المدينة وألقت سلسلة ضخمة عبر النهر، منعت وصول السفن اليونانية إليها وأنزل المسلمون المدافعون الخسائر بالأسطول البيزنطي اليوناني، وهطلت أمطار غزيرة حولت المعسكر الصليبي إلى مستنقع فتهيأوا للعودة وغادروا دمياط بعد حصار دام خمسين يوماً، وعندما أبحر الأسطول البيزنطي، هبت عاصفة عنيفة، لم يستطيع البحارة الذين كادوا أن يهلكوا جوعاً من السيطرة على سفنهم فغرق معظمها، ونصر الله المسلمين، نصراً مؤزراً ( ) .

1- أسباب فشل الحملة على دمياط :
يعود فشل الحملة الصليبية البيزنطية على دمياط إلى عوامل تتعلق بالمسلمين والصليبيين والبيزنطيين وبالجانبين الصليبي والبيزنطي معاً.
أ- فيما يتعلق بالجانب الإسلامي يمكن رصد العوامل التالية :
صمود سكان دمياط في وجه المعتدين.
سرعة إمداد صلاح الدين المدينة بالمؤن والسلاح، مما رفع معنويات سكانها المحاصرين.
التعاون الصادق بين القوات الإسلامية في كل من بلاد الشام ومصر بهدف التصدي للمعتدين.
القدرة القتالية للقوات الإسلامية، وحسن تخطيطها وتنظيمها الدقيق ( ).
موقف نور الدين محمود الداعم، فقد أرسل بعوث كثيرة يتبع بعضها بعضها، ثم إن نور الدين اغتنم غيبة الفرنج عن بلادهم فصمد إليهم في جيوش كثيرة فجاس خلال ديارهم، وغنم من أموالهم، وقَتل من رجالهم، وسبى من نسائهم وأطفالهم شيئاً كثيراً، وعندما بلغ الفرنج بدمياط ما فعله نور الدين اضطروا لترك دمياط ( ) .
استغلال المسلمين الجيد للفرص التي أتيحت لهم فقد استغلوا فرصة معاناة البيزنطيين من الجوع، فشنوا هجوماً عليهم جاء فعّالاً، كما استغلوا هبوب الرياح الجنوبية لإشعال النار في الأسطول البيزنطي بواسطة حّراقة ( ) والأهم من هذا كله توفيق الله وحفظه ومعيته وأنزال نصره على عباده المجاهدين.
ب - فيما يتعلق بالجانب الصليبي :

لقد أخَّر الملك عموري الأول الهجوم على المدينة مدة ثلاثة أيام حتى يصل الأسطول البيزنطي، مما أعطى فرصة طيبة للمسلمين لتحصين المدينة وإمدادها بالرجال والعتاد ( ) .
إحجام القوات الصليبية عن إمداد القوات البيزنطية بالمؤن عندما تعرَّضت لهجوم المسلمين، حيث وقفت موقف المتفرج ( ) .

ج- فيما يتعلق بالجانب البيزنطي فيمكن تدوين العوامل التالية :
عدم استخدام القائد كونتوستيفانوس الأسطول البيزنطي استخداماً عسكرياً وبدا كأنه قائد بري وليس قائداً بحرياً.
اقتصر دور الأسطول البيزنطي على نقل القوات حتى ساحل دمياط.
افتقر القائد البيزنطي إلى النظرة العسكرية السليمة عندما ترك السفن البيزنطية متلاصقة في النيل مما سهَّل مهمة القوات الإسلامية في إشعال النار في عدد منها.
تراخي القيادة البيزنطية في تطبيق القواعد العسكرية التي تكفل أمن سفنها حين تركت البحارة يبيتون خارج سفنهم أيام العميات العسكرية.
انتشار المجاعة بين القوات البيزنطية.

س- هناك أسباب مشتركة تتعلق بالجانبين الصليبي والبيزنطي، منها :
سوء اختيار توقيت خروج الحملة، وتنفيذ الحصار الذي جرى في فصل الشتاء، حيث تعّرضت القوات المتحالفة للسيول التي أغرقت معسكراتها وللعواصف التي كانت تبعد قطع الأسطول عن الشاطئ.
سوء اختيار المكان الذي عسكرت فيه القوات المتحالفة، وهي المنطقة التي تمتد بطول الساحل، والبالغة حوالي الميل الواحد فلم تستوعب أفراد الحملة البالغ عددهم حمسين ألفاً حيث حشروا في هذا المكان الضيق، ففقدوا حرية الحركة والانتشار الضروريين للدخول في معركة ناجحة.
أدّى سوء اختيار المكان أن أصبحت القوات المتحالفة هدفاً سهلاً لمرمى المسلمين وهجماتهم.
عدم وجود قيادة موحدة، وافتقرت القيادتان الصليبية والبيزنطية إلى التنسيق فيما بنيهما، مما تسَّبب في فشل عمليات الهجوم على المدينة، وتفشى الشائعات داخل معسكراتها، واتهام كل جانب الجانب الآخر بأنه السبب في فشل الحملة . ( ).

2- نتائج الحملة على دمياط:
يعد فشل الحملة الصليبية - البيزنطية المشتركة على دمياط أصبحت هذه الحادثة نقطة تحول هامة في تاريخ الشرق الأدنى، لأنه لو نجح التحالف النصراني في تحقيق غايته لكان من الممكن أن يمنع اتحاد بلاد الشام ومصر، الذي يشكل خطراً مباشراً على أوضاع الصليبيين في بلاد الشام، ويعرقل جهود المسلمين في التصدي للصليبيين، وإخراجهم من المنطقة.
يُعدُّ فشل الحملة النصرانية نقطة تحول هامة، أيضاً - في مستقبل صلاح الدي، الذي ظهر بمظهر المتمكَّن في حماية مصر، وأقنع الدولة الفاطمية، المتداعية بأنه يستطيع حماية البلد من غارات المعتدين بالإضافة إلى حماية مركزه من دسائس المتآمرين، وبذلك حاز على إعجاب الكثير.
بات المسلمون يهَّددون، بشكل مباشر، الإمارات الصليبية بحيث شعر الصليبيون يوماً بعد يوم بازدياد تضييق المسلمين عليهم، وبعد أن كانوا يحصرون نشاطهم ضد خطر نور الدين محمود من ناحية الشمال، أضحوا يوزعون قواتهم بين الشمال والجنوب لمواجهة نور الدين محمود وصلاح الدين ( ).
إذا كانت تولية صلاح الدين منصب الوزارة بداية النهاية للدولة الفاطمية فإن هزيمة النصارى أمام دمياط، شكّلت خطوة أخرى نحو القضاء على هذه الدولة حيث تطلع الخليفة العاضد إلى التحرر من نفوذ صلاح الدين، ولكن المصير الفاشل الذي آلت إليه، خيَّبت أمله، وأتاحت لصلاح الدين فرصة الانفراد بالسلطة في مصر، وتوجيه اهتمامه نحو إضعاف المذهب الشيعي الإسماعيلي وفقدت الدولة الفاطمية الأمل الأخير في التخلص من قبضته القوية وأضحى سيد مصر دون منازع ( ).

3- وصول نجم الدين أيوب مصر : طلب صلاح الدين من نور الدين إرسال والده إليه فوافق نور الدين على ذلك وطلب من نجم الدين أيوب أن يستعد للسفر إلى مصر وحمّله رسالة إلى صلاح الدين يأمره فيها بالتعجيل في إلغاء الخلافة الفاطمية وإعلان الخطبة للخليفة العباسي ( ) .

وخرج مع القافلة التي سافر فيها نجم الدين أيوب عدد كبير من التجار وأصحاب المصالح في مصر، فخشي نور الدين على القافلة من الفرنجة وسار بجيشه إلى الكرك، وحاصرها حتى أطمأت إلى اجتياز القافلة لمنطقة الخطر فتركها وعاد إلى دمشق ( ) ووصل والد صلاح الدين نجم الدين أيوب إلى القاهرة في الرابع والعشرين من رجب سنة خمس وستين وخمسمائة وخرج العاضد - صاحب القصر لإستقباله وبالغ في احترامه والإقبال عليه واتفق لأيوب مع ولده صلاح الدين يوسف شبيه ما اتفق ليعقوب مع ابنه يوسف - عليهما السلام - حين قدم على ولده ووجده متملكاً للديار المصرية وقال : " أدخلو مصر إن شاء الله آمنين " (يوسف ، آية : 99). وذكر أنه لما خرج ولده الملك الناصر صلاح الدين والخليفة العاضد إلى لقائه واجتمعا به قرأ بعض المقرئين : " ورفع أبويه على العرش وخّروا له له سُجَّداً وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل " (يوسف، آية ك 100). ولما اجتمع صلاح الدين بأبيه سلك معه من الأدب ماجرت به عادته وفوَّض إليه الأمر كله، فأبى ذلك عليه أبوه وقال : يا ولدي ما أختارك الله لهذا الأمر إلا وأنت كفؤ له، فلا ينبغي أن تغير مواقع السعادة ( ) ، فحكمَّه في الخزائن بأسرها وأنزاله اللؤلؤة المطلة على خليج القاهرة ( ) وفي ما حدث لصلاح الدين من اجتماعه بوالده وأهله قال عمارة اليماني :

من شاكر والله أعظم شاكر
 ٭٭ ما كان من نعمى بني أيوب

طلب الهدى نصراً فقال وقد أتوا

 ٭٭ حسبي فأنتم غاية المطلوب

جلبوا إلى دمياط عند حصارها
 ٭٭ عزّ القوي وذلة المغلوب

وحِلوا عن الإسلام فيها كربة
 ٭٭ لو لم يجلّوها أتت بكروب

فالناس في أعمال مصر كلها
 ٭٭ عُتقاؤهم من نازح وغريب

إن لم تظن الناس قشراً فارغاً
 ٭٭ وهم اللباب فأننق غيرُ لبيب

صحت به مصر وكانت قبله
 ٭٭ تشكو سقاماً لم يعُن بطبيب

عجباً لمعجزة أتت في عصره
 ٭٭ والدهر ولاّد لكلَّ عجيب

رد الإله به قضية يوسف
 ٭٭ نسقاً على ضرب من التقريب

جاءته إخوته ووالده إلى
 ٭٭ مصر على التدريج والترتيب ( )


وُحكي أنه لما اجتمع صلاح الدين بوالده في دار الوزارة، وقعدا على طراحة واحدة، ذكر نجم الدين أن صلاح الدين ولد ليلة إخراجه من قلعة تكريت قال : فتشاءمت له وتطيرت لما جرى على وكان معي كاتب نصراني فقال : يا مولاي من يدريك أن هذا الطفل يكون ملكاً عظيماً عظيم الصيت جليل المقدار. قال فعطفني كلامه عليه. فتعجبت الجماعة من هذا الاتفاق رحمة الله عليهم أجمعين ( ) وقد توفي نجم الدين أيوب في 568ﻫ فقد ركب نجم الدين أيوب، فشبب به فرسه بالقاهرة عند باب النصَّر وسط المحجّة يوم الاثنين الثامن عشر من ذي الحجة، وحمل إلى منزله، وعاش ثمانية أيام، ثم توفي في يوم الثلاثاء السابع والعشرين من ذي الحجة وكان كريماً رحيماً عطوفاً حليماً وبابه مزدحم بالوفود، وهو متلف الموجود ببذل الجود ( ) وكان نجم الدين عظيماً في أنفس الناس بالدين والخير وحسن السَّياسة، وكان لا يمرُّ أحدٌ من أهل العلم والدين به إلا حمل إليه المال والضيافة الجليلة، وكان لا يسمع بأحد من أهل الدين في مدينة إلا أنفذ إليه ( ) ، وكان صلاح الدين غائباً في بلاد الكَرَك والشوبك على الغزاة، فدفن إلى جانب قبر أخيه أسد الدين في بيت في الدَّار السلطانية ثم نقلاً بعد سنين إلى المدينة الشريفة النبوية على سكانها أفضل الصَّلاَّة والسلام وقبرهما في تربة الوزير جمال الدين الأصفهاني وزير الموصل ( ) وقد رثاه عمارة اليماني فقال :

صفوُ الحياةِ وإن طال المدى كَدَرُ
 ٭٭ وحادث الموتِ لا يُبقي ولا يَذَرُ

وما يزال لسانُ الدهر يُنذِرُنا
 ٭٭ لو أَثَّرَت عندنا الآيات والنُّدُرُ

فلا تَقُل غرَّت الدُّنيا مطامعنا
 ٭٭ فما مع الموت لا غشى وكدر

كأس إذا ما الرّدى حيّا الحياة بها
 ٭٭ لم ينج من سُكرها أنثى ولاَ ذَكرُ

كما شامخِ العز لاقى الذُّل من يَدِها
 ٭٭ ما أضعف القَدْرَ إن أَلْوى به القَدَرُ

في كلَّ جيل وعصر من وقائعها
 ٭٭ شعوا يقطر منها النَّاب والظُّفُرُ

أودى علي وعثمان بمخلبها
  ٭٭ ولم يَفُتها أبو بكر ولا عمر

ومن أراد التأسَّي في مصيبته
 ٭٭ فللورى برسول الله معتبرُ ( )


خامساً : إلغاء الخلافة الفاطمية العبيدية :
وتعتبر هذه الخطوة من أعظم المهام التي أنجزها صلاح الدين فقد كان نور ادلين حريصاً كل الحرص على إنهائها - فكتب إلى نائبه صلاح الدين يأمر بإقامة الخطبة للخليفة العباسي المستضيء - فاعتذر صلاح الدين، بالخوف من قيام أهل مصر ضده لميلهم إلى الفاطميين وبأنه لم يتهيأ لذلك بعد، إلا أن نورالدين أرسل إلى نائبه : يلزمه بذلك إلزاماً لا فسحة فيه. وكان الخليفة العباسي قد أرسل إلى نور الدين يعاتبه في تأخير إقامة الدعوة له بمصر، فأحضر الملك العادل نجم الدين أيوب، وحمّله رسالة فيها : وهذا أمر تجب المبادرة إليه، لنحظى بهذه الفضيلة الجليلة والمنقبة النبيلة قبل هجوم الموت وحضور الفوت لاسيما وإمام الوقت - المستنجد - متطلع إلى ذلك بكليته وهو عنده من أهم أمنيته ( ) وكان صلاح الدين متهيباً متردداً في إسقاط تلك الخلافة، حيث أن ميراث العبيديين في مصر، كان عمره أكثر من مائتي سنة وكان نور الدين يعتبر أن فتح مصر نعمة من نعم الله عليه وعلى المسلمين، من أجل توحيد البلاد على منهج أهل السنة وإزالة البدع والرفض ( )، وكان نور الدين متفهماً لظروف صلاح الدين وكان يخاطبه بالأمير (أسفهلار) ولو أراد لأرسل خطاباً بعزله عن مصر وتوليته قطراً آخر، وهذا ما صرح به نجم الدين لولده صلاح الدين في مصر : إن أراد عزلك.. يأمر بكتاب مع نّجاب حتى تقصد خدمته ويولي بلاده من يريد ( ) . ومن دلائل احترام نور الدين لصلاح الدين ما جاء في خطابه لابن أبي عصرون يوليه قضاء مصر ويظول فيه : تصل أنت وولدك حتى أسيركم إلى مصر، وذلك بموافقة صاحبي، واتفاق منه، صلاح الدين، وفقه الله فأنا شاكر له كثير كثير كثير، جزاه الله خيراً وأبقاه ففي بقاء الصالحين والأخبار صلاح عظيم ( ) . فحقيقة العلاقة بين القائدين احترام متبادل وتقدير عظيم وسيأتي الحديث عن العلاقة بينهما بإذن الله والرد على الكتّاب الذين تلقوا زوايات ابن أبي طيء الشيعي الذي حرص على تشويه وتلطيخ العلاقة بين الرجلين والطعن في سيرتهما كلما أمكنه ذلك.

1- التدرج في إلغاء الخطبة للخليفة الفاطمي : استفاد صلاح الدين من الرجل الكبير القاضي الفاضل، فقد ساعده على إحكام خطة مدروسة للقضاء على الدولة الفاطمية والمذهب الشيعي الرافضي الإسماعيلي وشرع صلاح الدين في تنفيذها بدقة متناهية وبعد أن هّيأ صلاح الدين المصريين للإنقلاب وقلَّم أطفار المؤسسة الفاطمية، فعزل قضاة الشيعة وألغى مجالس الدعوة وأزال أصول المذهب الشيعي، ففي سنة 565ﻫ/1169م أبطل الأذان بحي على خير العمل محمد وعلي خير البشر. ويعلق المقريزي بأن هذه أول وصمة دخلت على الدولة ( ) . ثم أمر بعد ذلك، في يوم الجمعة العاشر من ذي الحجة 565ﻫ/1169م - 1170م بأن يذكر في خطبة الجمعة الخلفاء الراشدون أبو بكر وعمر وعثمان ثم علي وأمر بعد ذلك بأن يُذكر العاضد في الخطبة بكلام يحتمل التلبيس على الشيعة فكان الخطيب يقول : اللهم أصلح العاضد لدينك ( ) . وولىّ القضاء في القاهرة للفقيه عيسى الهكاري السني فاستناب القضاة الشافعيين في جميع البلاد وأنشأ المدارس لتدريس المذاهب السُّنية وهو في الوقت نفسه يضيق الخناق على العاضد، فيلغي مخصصاته ويحرمه من المال والخيل والرقيق ويمنع رسوم الخلافة وهي حفلاتها الرسمية في الأعياد وغيرها، ويحتجز الخليفة في قصره فلا يسمح له بمغادرته إلا في مناسبات قليلة منها خروجه لاستقبال نجم الدين أيوب والد صلاح الدين يوم جاء إلى القاهرة وعمد إلى الخطة نفسها مع أمراء الجيش فأخذ يحّد من نفوذهم شيئاً فشيئاً ثم قبض عليهم في ليلة واحدة وأنزل أصحابه في دورهم وفّرق إقطاعاتهم عليهم ( ) . وكان العاضد يتابع ذلك كله بقلب حزين ونفس كئيبة وقد خابت الآمال التي عقدها على صلاح الدين وانزوى في مخدعه فريسة للهّم والمرض ( )، وأدرك صلاح الدين أن الفرصة باتت مؤتيه للقضاء على الدولة الفاطمية المحتضرة فعقد مجلساً كبيراً حضره أمراء جيشه وقواده وفقهاء السُّنة ومتصوفوها وسألهم الرأي والنصيحة وقد اتفق رأي الحاضرين على اتخاذ تلك الخطوة الفاصلة في حياة البلاد ( ) . وفي بداية سنة 567ﻫ/1171-1172م قطع صلاح الدين الخطبة للفاطميين وكان قطعها بالتدريج أيضاً، ففي الجمعة الأولى من محرم 567ﻫ/1171-1172م حذف اسم العاضد من الخطبة، وفي الجمعة الثانية خطب باسم الخليفة المستضيء بأمر الله أبي محمد الحسن بن المستنجد بالله : وقطعت الخطبة للعاضد لدين الله فانقطعت ولم تعد بعدها إلى اليوم الخطبة الفاطمية ( ) والملاحظ أن الخطبة للعباسيين قد تمت بالإسكندرية قبل القاهرة ومصر بنحو أسبوعين وذلك لأنها ظلت على المذهب السني طوال العصر الفاطمي ( ) وقد توفي العاضد في العاشر من محرم 567ﻫ/1171- 1172م ( ) ويقال أن صلاح الدين حين علم بوفاة العاضد الفاطمي بعد أيام ندم على أنه تعجل في قطع خطبته وقال : لو عرفنا أنه، أي الخليفة العاضد، يموت في هذا اليوم ما غصصناه برفع اسمه من الخطبة، فضحك القاضي الفاضل ورد عليه : قائلاً : يا مولاي لو علم أنكم ما ترفعون اسمه من الخطبة لم يمت ( ) ، فابتسم الحاضرون لهذه المداعبة الكلامية بين الوزير صلاح الدين وكاتبه أو مستشاره التي أنطوت فيها آخر صفحة من صفحات تاريخ الدولة الفاطمية العبيدية ( ).

2- وفاة العاضد عام 567ﻫ : قال ابن كثير : والعاضد في اللغة القاطع : لا يعضد شجرها : فيه قطعت دولتهم واسمه عبدالله، ويكن بأبي محمد بن يوسف الحافظ بن محمد بن المستنصر ابن الظاهر بن الحاكم بن العزيز بن المعز بن المنصور بن القائم بن المهدي أوَّل ملوكهم وكان مولد العاضد في سنة سِتَّ وأربعين، فعاش إحدى وعشرين سنة، وكانت سيرته مذمومة وكان شيعياً خبيثاً لو أمكنه قتل كلَّ من قدر عليه من أهل السنة ( ).

3- فرح المسلمون بزوال الدولة الفاطمية : ولما انتهى الخبر إلى الملك نور الدين بالشام أرسل إلى الخليفة العباسي يعلمه بذلك مع ابن أبي عصرونن فزينت بغداد، وغلقت الأبواب وعُملت القباب وفرح المسلمون فرحاً شديداً وكانت الخطبة قد قَطعت من ديار مصر سنة تسع وخمسين وثلاثمائة في خلافة المطيع العباسَّي حين تغلب الفاطميُّون عليها أيام المعزَّ الفاطمي، بأني القاهرة إلى هذه الأوانِ، وذلك مائتا سنة وثماني سنين ( ) وقد تفاعل الشعراء مع هذا الحدث المدوّي في أرجاء الدنيا فقد قال العماد الأصفهاني :

توفي العاضد الدعي مما
 ٭٭ يفتح ذو بدعة بمصر فما

وعصر فرعونها انقضى وغدا
 ٭٭ يوسفها في الأمور محتكما

قد طفئت جمرة الغواة وقد
 ٭٭ داخ من الشرك كل ما اضطرما

وصار شملُ الصلاح ملتئماً
 ٭٭ بها وعقد السداد منتظماً

لما غدا مشعراً شعار بني
 ٭٭ العباس حقَّا والباطل اكتتما
 
وبات داعي التوحيد منتظراً
 ٭٭ ومن دعاة الإشراك منتقماً

وظل أهل الضَّلال في ظلل
  ٭٭ داجية من غيابه وعمى

وارتبك الجاهلون في ظلل
  ٭٭ لما أضاءت منابر العُلماء
 
وعاد بالمستضيء ممتهداً
 ٭٭ بناء حقَّ قد كان منُهَدِما

واعتلَّت الّدولة التي اضطهدت
 ٭٭ وانتصر الدين بعدما اهتُضما

واهتزَّ عطف الإسلام من جَذَلٍ
 ٭٭ وافترَّ ثغر الإيمان وابتسما
 
واستبشرت أوجه الهُدى فرحاً
 ٭٭ فليقرعِ الكُفُر سِنَّهُ نَدما

عاد حريمُ الأعداءِ منتهك
 ٭٭ الحِمى وفيءُ الطغاة مقتسماً

قصور أهل القصور أخربها

 ٭٭ عامر بيت من الكمال سَمَا

أزعج بعد السُّكون ساكنها
 ٭٭ ومات ذُلاَّ وأنفه رَغمَِا ( )


إن نور الدين محمود كان يرى إزالة الدولة الفاطمية هدفاً استراتيجياً للقضاء على الوجود النصراني، والنفوذ الباطني في بلاد الشام، ولذلك حرص على إعادة مصر للحكم الإسلامي الصحيح فوضع الخطط اللازمة وأعد الجيوش المطلوبة وعين الأمراء ذوي الكفاءة المنشودة فتم الله له ما أراد على يدي جنديه المخلص وقائده الأمين صلاح الدين الذي نفذ سياسة نور الدين الحكيمة الرشيدة، وحق للأمة الإسلامية وزعمائها أن تفرح بهذه البشرى الكبيرة من إزالة دولة الشيعة الرافضة.

4- اعتبار واتعاظ من زوال الفاطميين من مصر : كانت مدة ملك الفاطميين مائتين وثمانين سنة وكسراً، فصاروا، كأمس الذاهب وكأن لم يَغْنَوا فيها، وكان أوّل من ملك منهم المهدئَّ وكان من أهل سَلَمْيَة حدَّاداً اسمه سعيد، وكان يهودياً فدخل بلاد المغرب وتسمَّى بعبيد الله، وأدَّعى أنَّه شريف علّوِىُّ فاطميُّ، وقال : إنه المهديُّ وقد ذكر هذا غير واحد من سادات العلماء الكبُراء كالقاضي أبي بكر الباقلاَّني والشيخ أبي حامد الإسفريينيَّ وغير واحد من سادات الأئمة .... والمقصود أنَّ هذا الدّعِىَّ المُدَّعِىَ الكَّذاب راج له ما افتراه في تلك البلاد ووازَرهَ جماعة من جهلة العُبّاد، وصارت له دولة وصولة، فتمكَّن إلى أن بنى مدينة سّماها المهدية نسبة إليه، وصار مَلِكاً مطاعاً يظهر الرفض وينطوى على الكفر المحض، ثم كان من بعده ابنه القائم ثم المنصور، ثم المعز - وهو أوّل من دخل مصر منهم وبنيت له القاهرة - ثم العزيز ثم الحاكم، ثم الظاهر، ثم المستنصر ثم المستعلي، ثم الآمر، ثم الحافظ، ثم الظافر، ثم الفائز، ثم العاضد وهو آخرهم، فجملتهم أربعة عشر ملِكاً، ومدتهم مائتان ونيَّف وتسعين سنة ... وقد كان الفاطميون أغنى الخلفاء وأكثرهم مالاً، وكانوا من أغنى الخلفاء وأجبرهم وأظلمهم، وأنجس الملوك سيرة وأخبثهم سريرة ظهرت في دولتهم البدع والمنكرات وكثر أهل الفساد وقل عندهم الصالحون من العلماء والعبّاد وكثر بأرض الشام النُّصيريُّة والدرزية والحشيشية وتغلب الفرنج على سواحل الشام بكماله، حتى أخذوا القدس الشريف ونابلس وعجلون والغَوْرَ وبلاد غَزَّة وعسقلان وكرَكَ الشَّوبك وطبريه وبانياس وصور وعشليث وصيدا وبيروت وعكا وصَفَدَ وطرابلس وأنطاكية وجميع ما وَالىَ ذلك في بلاد آياسى ( ) وسيس ( )، واستحوذوا على بلاد آمد والرُّها ورأس العين وبلاد شَتَّى، وقتلوا خلقاً لا يعلمهم إلا الله وسَبَوا من ذراري المسلمين من النساء والولدان مالاً يُحَدُّ ولا يوصَفُ وكادوا أن يتغلبوا على دمشق ولكن صانها الله بعنايته وسلمَّها برعايته، وحين زالت أيامهم وانتفض إبرامهم أعاد الله هذه البلاد كُلَّها على أهلها من السادة المسلمين، ورد الله الكفرة خائبين، وأركسهم بما كسبوا في هذه الدنيا ويوم الدين ( ) .

سادساً : القضاء على محاولة انقلابية لإعادة الدولة الفاطمية :
كانت الدولة والمجتمع في مصر في ذلك الوقت في فترة التحول الكبرى في تاريخها من خلافة ونظم ومؤسسات ورجال حكموا البلاد قرنين من الزمان وأثَّرُوا في كل جوانب حياة مجتمعها، إلى حكم جديد ودولة جديدة لها نظمها ومؤسساتها ورجالها والتي بدأت بإجراء التغيير بالتدريج، وحاول صلاح الدين اكتساب عامة الناس إلى جانبه ونجح إلى درجة كبيرة، لكنّ، بعض مفكري الدولة الفاطمّية، ورجالها وبعض الجماعات التي فقدت نفوذها وامتيازاتها ظلت على ولائها لما كانت تمثله الدّولة السابقة من أفكار وامتيازات ( ) ، فعملت تلك القوى الموالية للفاطميين من جنود وأمراء وكتاب وموظفي دواوين، ومن عائلات الوزراء السابقين مثل بني رزيك وبني شاور، راحوا يخططون للقضاء على حكم صلاح الدين وإعادة الدولة الفاطمية ( ) وقد وصفهم عماد الدين الأصفهاني بقوله : واجتمع جماعة من دعاة الدولة المتعصّبة المتشددة المتصلبة، وتوازروا وتزاوروا فيما بينهم خفية وخفية واعتقدوا أمنية عادت بالعقبى عليهم منيّة، وعينّوا الخليفة والوزير، وأحكموا الرأي والتدبير، وبيّتوا أمرهم بليل، وستروا عليه بذيل ( ) ويبدو أن مؤامرتهم كانت في غاية التنظيم إذ عينوا خليفة ووزيراً ثم كاتبوا الفرنج أكثر من مّرة يدعونهم في إحداها إلى الهجوم على مصر، في وقت كان صلاح الدين غائباً في الكرك، والتفّ هؤلاء حول عمارة اليمني، الفقيه والأديب السنيّ المذهب الفاطمي الولاء الذي تولى مهمة المراسلة مع الفرنج، وظنّ المتآمرون أن سيريتهم التامة ستقودهم إلى النجاح، ولكنهم لم يعلموا أن القاضي الفاضل عن طريق ديوان الإنشاء كان يراقبهم مراقبة تامة حتى تحين الفرصة المواتية لكشف سرهم، وتذكر المصادر في كشف مؤامراتهم قصتين تختلفان بعض الاختلاف في التفصيلات أولاهما أن أحد الكتاب في الديوان وهو عبد الصمد الكاتب، كان يلقى الفاصل بخضوع زائد، يخدمه ويتقرب إليه ويبالغ في التواضع إليه، فلقيه يوماً، فلم يلتفت إليه فقال القاضي الفاضل : ما هذا إلا لسبب وخاف أن يكون قد صار له باطن مع صلاح الدين، فأحضر ابن نجا الواعظ وأخبره الحال، وطلب منه كشف الأمر، فلم يجد من جانب صلاح الدين شيئاً، فقصد الجانب الآخر، فكشف الحال إليه، فأرسله القاضي الفاضل إلى صلاح الدين وقال له تحضر الساعة عند صلاح الدين وتنهي الحال إليه، فحضر عند صلاح الدين وهو في الجامع وذكر الحال، عندئذ استدعاهم صلاح الدين وقرّرهم فأقروا بمؤامرتهم، فاعتقلهم ثم أمر بصلبهم ( ) وتشير الرواية الثانية إلى أن المتآمرين أدخلوا الواعظ زين الدين بن نجا بينهم، فتظاهر بمساندته لهم في البداية ثم أعلم صلاح الدين بأمرهم، وطلب منه أن يعطيه ما لابن كامل من أملاك، فوافق وأمر بمخالطتهم وتعريف شأنهم، فصار يعلمه بما يجّد من أمرهم، ثم وصل رسول من الفرنج إلى صلاح الدين بهدية ورسالة ظاهرية وبرسالة باطنية للمتآمرين، فوصل خبره إلى صلاح الدين ( ) . وقد أشار القاضي الفاضل بنفسه إلى تفصيلات هذه المؤامرة في رسالة كتبها عن صلاح الدين إلى نور الدين بدمشق، وتنّم عن اطّلاعه الدقيق على المؤامرة، بل اشتراكه في إحباطها، فلعلّه هو الذي دسّ من أعلمه بتفصيلات المؤامرة، كما يشير في رسالته إلى عيون لديوان الإنشاء المصري من الفرنج، وآخرين بينهم على اتصال بالديوان ( ) وجاء في الكتاب الذي كتب بقلم القاضي الفاضل من صلاح الدين إلى نور الدين بعدما تّم التحقيقات التي أجراها صلاح الدين، ولخص الكاتب بتركيز وشمول : بدايات المؤامرة وتطوراتها، وكيفيّة كشفها، وصلب رؤوس المتآمرين أمام بيوتهم ( ).

أن صلاح الدين كان لا يزال، بعد قضائه على الخلافة الفاطمية يعتبر " جند مصر .. وأهل القصر" الفاطمي أعداء لدولته وضد وجوده ويتوقع منهم القيام بعمل ضّده ولذلك فقد كان متحرزاً منهم، ووضع عليهم من عيونه ورجاله الموثوقين من يراقبهم باستمرار ومع ذلك فقد استمر عملهم سرياً بمختلف الوسائل التي كانت متاحة لهم.
وأنهم كانوا، من إعلان الخطبة العبّاسية وحتى القبض عليهم لا يمر عليهم شهر ولا سنة إلا وهم يُدبَّرون المكائد ويعقدون الاجتماعات ويبعثون الرُّسل إلى الصليبيين لموافقتهم على ما يريدون " وكان أكثر ما يتعللون به، ويستريحون إليه، المكاتبات المتواترة والمراسلات المتقاطرة إلى الفرنج يوسعون لهم فيها سُبُل المطامع .. ويزينون لهم الإقدام والقدوم ( ) . لكن الفرنج لم يستجيبوا بداية لخوفهم من صلاح الدين، وفي ذات الوقت يؤمَّلونهم بالمساعدة في الوقت المناسب.
ووصل الأمر إلى أنّهم كاتبوا ملك الصليبيين عندما قام صلاح الدين بحملته الثانية على بلاد الكرك والشوبك في قسم كبير من قّواته يطلبون منه القيام بالدور المتفق عليه وقالوا في كتبهم : إنه بعيد، والفرصة قد أمكنت، فإذا تقدم عموري بقواته إلى صَدْر أو أيلة، فإنه سيقطع الطريق على صلاح الدين ويمنعه من العودة وعند ذلك تثور في القاهرة " حاشية القصر، وكافة الجند (الفاطمي السابق في مصر) وطائفة السودان، وجموع الأرمن، وعامة الإسماعيلية، وتفتك بأهل صلاح الدين ومعاونيه ورجال دولته في العاصمة ( ) . لكنّ يقظة صلاح الدين والتكتيكات والمناورات التي قام بها أدركت عموري الذي كان يحاول جاهداً معرفة حركات صلاح الدين في النقب جنوبي الأردن، وجمدته عند مياه الكرمل في جبال الخليل لخوفه من أن يستغل صلاح الدين فرصة حركة الملك الخاطئة، فيتوجه إلى المناطق غربي نهر الأردن والبحر الميت.
ولم يبأس المتآمرون : فعندما وصل المدعو جِرْج (جورج أو جورجيوس)، كاتب الملك عموري، إلى القاهرة في مراسةل إلى صلاح الدين (ويبدو أن الرسائل كانت متصلة في أوقات السلم، اتصلوا به، وأرسلوا معه كتاباً إلى الملك عموري : أنّ العساكر متباعدة في نواحي إقطاعاتهم، وعلى قرب من موسم علاّتهم، وأنه لم يبق في القاهرة إلا بعضهم، وإذا بعثت أسطولاً إلى بعض الثغور، ففعلنا ما تقدم ذكره في الثورة ( ). وهذا دليل آخر على محاولة استغلالهم لكل الظروف المناسبة، ذلك أن وقت جمع الغلات من الحقول هو الوقت الذي يذهب فيه الأمراء المقطعين وأجنادهم إلى إقطاعاتهم لأخذ حصتهم من الناتج وتوزيعه، وهذه كانت حالة عادية معروفة في تاريخ المنطقة في العصور الوسطى ( ).
أن الملك عموري كان كلما أراد التعرف على الأوضاع في مصر والاتصال بالمتآمرين والتفاوض معهم، كان يبعث بـ "جِرْج" رسولاً إلى صلاح الدين : ظاهراً إلينا، وباطنا إليهم، عارضاً علينا الجميل الذي ما قبلته قط أنفسنا، وعاقداً معهم القبيح الذي يشتمل عليه علمنا، ولأهل القصر والمصريين "الجند" في أثناء هذه المُدَدد رُسل تتردد، وكتب إلى الفرنج تتجدد ( ) .
كانت سياسة صلاح الدين أثناء هذه الفترة إذا شك أعوانه بأحد من الجماعات المذكورة وقام باعتقاله ولم يتمكنوا من إثبات التهمة ضده، أطلق سراحهم، وخّلّى سبيلهم فلا يزيدهم العفو إلا ضراوة، ولا الرقة عليهم إلا قساوة ( ) .
واتصل المتآمرون في ذات الوقت " بشيخ الحيل" سنان ( )، زعيم الإسماعيلية النزارية في بلاد الشام، طالبين مساعدته محتجين : بأن الدعوة واحدة، والكلمة جامعة، وأنّ ما بين أهلها خلاف إلا فيما يفترق به كلمة ولا يجب به فعود عن نُصرة ( ) . وطلبوا منه بصورة خاصة اغتيال " الملوك " كما كانت عادتهم أو نصب المكائد لهم وكان الرسول إليهم خال ابن قرجلة ( ) ، أحد الدولة الفاطمية السابقين، ويبدو أن الاثنين كانوا عند صاحب الجبل عند اكتشاف المؤامرة فالتجأوا إلى الصليبيين ( ).
ولا نعرف إذا كان المتآمرون اتصلوا بملك صقليّة لإرسال الأسطول مباشرة أم عن طريق ملك الصليبيين لكنّ الأسطول قدم بعد فشل المؤامرة، إلى الإسكندرية، وكان مكوناً من 200 سفينة ويحمل أعداداً كبيرة من الخيالة والرجالة، فمُّني بخسائر كبيرة خاصة وأن الملك عموري لم يتقدم في البرّ كما كان الاتفاق بسبب القضاء على المتآمرين بحزم ( ).
وفي المّرة الأخيرة التي قدم فيها "جِرْج" برسالة إلى ديوان صلاح الدين وصل كتاب إلى الديوان "ممن لا نرتاب به من قومه "الصليبيون"  يذكرون أنه رسول مخاتلة (خداع) لا رسول مجاملة فاتخذ رجال صلاح الدين الاحتياطات المناسبة لمراقبته دون أن يشعر، ولم يظهروا له أي شكٍ فيه وقام "جرج" بالاتصال بجماعة القصر الفاطمي، ومدبري المؤامرة، وأمراء الجند الفاطمي السابقين، وجماعة من النصارى واليهود عند ذلك توصل رجال دولة صلاح الدين إلى إدخال أحد العيون إليهم من جماعته "فَدَسْنه إليهم من طائفتهم من داخلهم ( ) ، فصا ينقل إلينا أخبارهم ويرفع إلينا أحوالهم ( ) .
وبدأت تنتشر الإشاعات والأقاويل بين الناس حول المؤامرة، وخاف رجال دولة صلاح الدين من انكشاف الأمر وهرب رؤساء الفتنة، فقرروا اعتقالهم، ثم أحضروا واحداً واحداً أمام صلاح الدين : وقَرَّرَهم على هذه الحالة فأقروا واعترفوا واعتذروا بكونهم قُطِعت أرزاقهم وأخذت أموالهم ( ).
تبين من التحقيقات والإقرارات أنهم عَيّنوا خليفة ووزيراً، وأنه وقع خلاف بينهم حول الخليفة وحول الوزير (آل رُزّيك أو آل شاور).
استفتى صلاح الدين العلماء في أمرهم، فأفتوا بقتلهم، وعندما تردد صلاح الدين في التنفيذ، طالب، أهل الفتوى وأهل المشورة بالإسراع في التنفيذ، فصَدَر الأمر بقتلهم وصلبهم : وشنقوا على أبواب قصورهم، وصلبوا على الجذوع المواجهة لدورهم ( ) . وكان المشهورن الذين شنقوا : الشاعر عمارة بن علي اليمني، وعبد الصمد الكاتب، والقاضي العويرس، ودِاعي الدعاة ابن عبد القوي. وقد خاول القاضي الفاضل صادقاً الشفاعة لدى صلاح الدين في عمارة، على الرغم من العداوة القديمة بينهما، إلا أن عمارة أعتقد أنها خدعة فرفض قبولها، فتم صلبه مثل غيره ( ).
وأما أهل القصر فقد اعتقلوا بداية، ثُم نُقلوا إلى أماكن مختلفة وأعطى القصر إلى أخيه العادل، ذلك أن صلاح الدين رأى : فإنهم مهما بقوا فيه بقيت مادة لا تنحسم الأطماع عنها، فإنه "القصر" حبالة للضلال منصوب، وبيعة "مقامٌ" للبدع محجوبة ( ).
وشُرَّدت طائفة الإسماعيلية من بلاد مصر ونُفُوا أما البقية فقد أعلن في القاهرة : بأن يرحل كافة الأجناد وحاشية القصر وراجل السُّودان إلى أقصى بلاد الصعيد ( ).
وكشفت التحريات والبحث في هذه القضيّة عن وجود داعية يُسَمّى "قُديد القَفّاص" في الإسكندرية، التي كان غالبية أهلها من أهل السنة، وأن دعوته انتشرت في بلاد الشام ومصر، وأن أرباب المعايش (الحرب والصناعات) في ثغر الإسكندرية يحملون إليه جزءاً من كسبهم، والنسوان يبعثن إليه شطراً وافياً من أموالهن ( ) . كما وجُد لديه كتب ورقاع تدل على الكفر الصريح ( ) . وهكذا فقد تمكن صلاح الدين بفضل الله ثم بصبره وقيادته الحازمة من القضاء على هذه المؤامرة الفتنة التي دفعته أخيراً إلى اتخاذ القرار الحاسم بالنسبة لكل بقايا الدولة الفاطمية من بيت الخلافة، وكبار رجالها، والحاشية، والجند والسودان ( ) .

1- عمارة بن علي اليمني الشاعر :
قال عنه الذهبي : أبو محمد، عمارة بن علي بن زيدان الحكميُّ المذحجي اليمني الشافعي الفرضي، الشاعر، صاحب الديوان المشهور ولد سنة خمس عشرة وخمس مئة وتفقَّه بزبيد مدةً، وحج سنة تسع وأربعين ونفّذه أمير مكة قاسم بن فليته رسولاً إلى الفائز بمصر فامتدحه بالشعر. وكان واضح الاعتقاد في أبي بكر وعمر، فقد حكى عمارة أن الصالح بن رُزَّيك فاوضه وقال ما تعتقد في أبي بكر وعمر؟ قلت : أعتقد أنه لولاهما لم يبقَ الإسلام علينا ولا عليكم، وأنّ محبتهما واجبة. فضحك، وكان مُرتاضاً حصيفا، قد سمع كلام فقهاء السنة قال الذهبي : هذا حلم من الصالح على رفضه ( ) وقال ابن واصل في سبب موالاة عمارة اليمني للفاطميين : وكان عمارة بن علي اليمني شديد التعصب لهم، لأنه قدم عليهم من اليمن فأحسنوا إليه وخّولوه، فرعى ذلك ووفى لهم، والإنسان - كما قيل - ضيعة الإحسان، ولم يكن على مذهبهم وإنما كان شافعياً وسنياً، فلما زال أمرهم رثاهم بأحسن الشعر وذبَّ عنهم باللسان إذ لم يمكنه الذبّ عنهم باليد؛ لم لما تحرك جماعة في عَوْد الأمر إليهم، كان من جملة المساعدين على ذلك، شكراً لهم على إحسانهم إليه، فأدى به ذلك إلى أن شُنق ( ) ، كما مّر ذكره - وقد ذكر عمارة مبيالته لمذهب القوم في قصيدة يقول فيها :

أفاعيلهم في الجود أفعال سُنَّةٍ
 ٭٭ وإن خالفوني في اعتقاد التشيع ( )


وقد علق الذهبي على هذا البيت فقال : يا ليته تشيع فقط، بل ياليته ترفض، وإنما يقال : هو انحلال وزندقة ( ) وقد قال عمارة في رثاء الفاطميين والعاضد :

أسفي على زمن الإمام العاضد
 ٭٭ أسَفُ العقيمِ على فِراقِ الواحد

جالست من وزرائه وصحبت من
 ٭٭ أمرائه أهل الثناء الخالد

لهفي على حُجُراتِ قصرِك إذ خَلتَ
 ٭٭ يا ابن النبي من ازدحام الوافد

وعلى انفرادك من عساكرك الذي
 ٭٭ كانوا كأمواج الخِضم الرّاكد

قَلَّدْتَ مُؤتَمِنَ الخلافة أمرهم
 ٭٭ فكبا وقصَّر عن صلاح الفاسد

فعسى اللَّيالي أن تَرُدَّ إليكم
 ٭٭ ما عوّدتكم من جميل عَوَائِدِ ( )

وله من جملة قصيدة :

يا عازلي في هوى أبناء فاطمة
 ٭٭ لك الملامة إن قصّرت في عزلي

بالله زُرْ ساحة القصرين وابك معي
 ٭٭ عليهما لا عَلى صفين والجمل

وقل لأهلهما والله ما التحمت
 ٭٭ فيكم قُروحي ولا جُرْحي بمُندمل

ماذا ترى كانتِ الإفرنج فاعلة
 ٭٭ في نسل آلِ أمير المؤمنين علي ( )


وأنا استغرب من عمارة اليمني في نعيه لأيام الفاطميين وحنينه إلى بدعهم وأعيادهم وقصورهم وتحديه للدولة السنية الجديدة في مصر ودفاعه عن الفاطميين وآكاذيبهم في زعمهم بأنهم من النسل النبوي الكريم، فهل متاع الدنيا الزائل يفعل بالعقائد الصحيحة ما فعله بعمارة اليماني، وهل العطايا والجاه والمناصب تجعل الإنسان يترك عقيدته الصحيحة ويبكي على إطلال الدولة الفاطمية الشيعية الرافضة ؟ وينخرط في بلاد الإسلام ؟ إن هذا لشيء عجاب.

2- حصار الإسكندرية : إن أهل الإسكندرية ساهموا في نجاح المشروع السني بمصر، ودافعوا عن صلاح الدين عندما حوصر بها وهم يدافعون عن المدينة بشجاعة فائقة ورجولة منقطعة النظير، ومسلمي مصر عموماً وأهل الإسكندرية منهم خصوصاً دائماً وأبداً في الخندق المدافع عن قضايا الأمة قديماً وحديثاً، ولهم من الطاقات الفكرية والأمكانات المادية، والأقلام السيالة وصفاء الفطرة ما يجعلهم في مصاف من يتصدى للمشروع الشيعي الرافضي الباطني والمشروع الأمريكي الغربي وقد قاوم المصريون قديماً النفوذ الشيعي الباطني وتعاونوا مع إخوانهم من أهل السنة، فكرياً وعقائدياً وسياسياً وعسكرياً واقتصادياً وإعلامياً حتى تّم القضاء على المشروع الشيعي الباطني ولذلك نجد كتّاب الشيعة الرافضة يقولون عن مصر وأهلها : أبناء مصر؛ لعنوا على لسان داود عليه السلام، فجعل الله منهم القردة والخنازير( ) ، وما غضب الله على بني إسرائيل إلا أدخلهم مصر، ولا رضي عنهم إلا أخرجهم منها إلى غيرها ( )، وقالوا بئس البلاد مصر، أما أنها سجن من سخط الله عليه من بني إسرائيل ( )، وقالوا : انتحوا مصر ولا تطلبوا المكث فيها لأنه يورث الدياثة ( )، وجاءت عندهم عدة روايات في ذم مصر، وهجاء أهلها، والتحذير من سكناها، ونسبوا هذه الروايات إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلى محمد الباقر، وإلى علي الباقر، وهذا رأي الشيعة الروافض في مصر في تلك العصور الإسلامية الزاهرة، وقد عقب المجلسي الشيعي الرافضي على هذه النصوص بقوله بأن مصر صارت من شر البلاد في تلك الأزمنة، لأن أهلها صاروا من أشقى الناس وأكفرهم ( ) ويبدوا أن هذه النصوص هي تعبير عن حقد الرافضة وغيظهم على مصر وأهلها بسبب سقوط إخوانهم الإسماعيليين العبيديين على يد صلاح الدين، الذي طهر أرض الكنانة من دنسهم ورجسهم، وأين هذه الكلمات المظلمة في مصر وأهلها الأحبة من وصية حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم بأهل مصر ( ).

وإليك أيها القاريء الكريم ما قام به أهالي الإسكندرية للدفاع عن الإسلام وعن دولته السنية الجديدة في مصر، فقد تعرضت الإسكندرية لا نزال صقلي في الأيام الأخيرة من عام 569ﻫ/ نهاية تموز 1174م، وكان الأسطول النورماندي يتكون من مئتي ( ) سفينة وقيل من مائة وثمانين سفينة تحمل خمسين ألف رجل بينهم ثلاثين ألف مقاتل تنفيذاً للمخطط واسع النطاق الذي اتفقت عليه العناصر الموالية للفاطميين مع ملكي بيت المقدس وصقلية بهدف إحياء الخلافة الفاطمية في ( ) مصر ورد الدعوة الشيعية الرافضية إلى ما كانت عليه وقد وصلت الحملة النورماندية أمام الإسكندرية في 16 ذي الحجة بعدما انكشفت المؤامرة وقضى على المتآمرين في الداخل من جهة وبعد وفاة عموري الأول ملك بيت المقدس من جهة ثانية. وشرع النورمان في مهاجمة الإسكندرية ونجحوا في أغراق بعض المراكب المصرية التي كانت راسية على الساحل ( ) وقد أبدى الجيش الأيوبي وأهالي الإسكندرية شجاعة فائقة، فأحرقوا دبابات العدو التي نصبت قرب السور " وأحسنوا القتال والصبر". وكان صلاح الدين غائباً عن الإسكندرية، وحين وصلها زال ما بالمحاربين من تعب وألم الجراح وكل منهم يظن أن صلاح الدين معه، فهو يقاتل قتال من يريد أن يشاهد قتاله ( ) . فما كان على الصليبيين سوى التسليم وصاروا بين قتيل وأسير ( ) . وهكذا وجه جيش صلاح الدين وأهالي الإسكندرية ضربة ماحقة بأصحاب فكرة غزو مصر، بحيث لم يعودوا يفكرون في إعادة التجربة مّرة ثانية في عهد صلاح الدين، على الرغم من أنهم لم يتخلوا عن الفكرة كلياً، إذ أعادوا الكرة بعد وفاة صلاح الدين بربع قرن ( ).


سابعاً : الوسائل التي اتخذها صلاح الدين للقضاء على المذهب والتراث الفاطمي :
ليس من السهل اليسير أن يقتلع مذهب من المذاهب، بمجرد تغيير النظام السياسي في بلد ما من البلاد، إنما يحتاج التغيير إلى سنوات عديدة، وتدابير ليست من تدابير القوة والبطش فحسب ( ) ، لذلك فالملاحظ أن صلاح الدين قد استخدم وسائل وأساليب عديدة في سبيل القضاء على الدعوة الفاطمية بمصر، جاءت بعض هذه الأساليب تتسم بالشدة والعنف والحسم الفوري المباشر، والبعض الآخر اتخذ وسيلة الحيلة والتدرج، واستخدم بعضها القوّى العسكرية، في حين نهج البعض الآخر سبيل الدعوة والتعليم والإقناع، والاستمالة عن طريق المنشآت الاجتماعية الدينينة الخيرية وما يوقف عليها من أوقاف للصرف عليها ( ) وإليك بعض هذه الوسائل :

1- إذلال الخليفة الفاطمي العاضد : بدأ صلاح الدين بإذلال شخص الخليفة الفاطمي العاضد، للقضاء على فكرة " الولاية " التي تبنى عليها جميع النظريات والعقائد الإسماعيلية ويستمد منها الحكام الفاطميون قداستهم، فأرغم الخليفة العاضد على الخروج بنفسه لاستقبال والده نجم الدين أيوب، عند وصوله إلى مصر، رغم ما جرى عليه العرف، وحرصت عليه الرسوم الفاطمية، من استعلاء الخليفة الفاطمي واحتجابه عن الناس لعدم، ابتذاله بكثرة ظهوره أمام الناس ولإكسابه مسحة من القداسة والتعظيم، بل يذكر أبو شامة، أن العاضد قد خرج لتلقيه إلى ظاهر باب الفتوح، ولم يجر بذلك عادة لهم، وكان من أعجب يوم شهده الناس ( )، بل اضطر العاضد إلى مخالفة التقاليد والعرف وقواعد ورسوم الدولة، فمنح صلاح الدين ألقاب وزراء السيوف، إذ خلع عليه، ولقبه الملك الأفضل، وحمل إليه من القصر الألطاف والتحف والهدايا ( )، ثم مافتيء صلاح الدين يعمل على الاستهانة بالخليفة وابتذال مكانته الروحية بين أتباعه وأنصار دولته، فأخذ يستولي على موجوداته وممتلكاته الشخصية وخيوله، بحجة شدة الحاجة إليها في أمور الجهاد، حتى أن الخليفة في آخر الأمر، عرض على صلاح الدين أن يتنازل له عن فرسه الخاص الذي لا يملك غيره، فأجاب صلاح الدين بالاعتذار عن الحاجة ( ) ، ولا يخفى أن هذا الابتذال المتكرر المتعمد الموجه للخليفة للاستهانة به أمام رعيته كان يهدف أيضاً إلى إجبار الخليفة على الاعتزال، وتجنب الظهور في المناسبات العامة، حتى ينساه المصريون ( ).
2- وضعه من مكانة قصر الخلافة الفاطمي : عمل صلاح الدين على وضع مكانة قصرالخلافة الفاطمية، بأن أسكن فيه أمراء دولته الأكراد وكان هذا العمل تأكيداً لسقوط الدولة الفاطميةن إذا ظلت الدولة الفاطمية تعرف طوال عصور ازدهارها " بالدولة القصرية " ( ) نسبة لسكن خلفاء الفواطم لقصور عاصمتهم القاهرة ففي سنة 566ﻫ/1170م قبض صلاح الدين على القصور الفاطمية وسلمها لمملوكه قراقوش الخادم، ثم أسكنها لجنوده وأهله وأسكن أباه بقصر اللؤلؤة على الخليج وقد سكن القصور الفاطمية الملك العادل إبان نيابته للسلطان بمصر عن أخيه صلاح الدين ( ).

3- قطع الخطبة الجامعة من الجامع الأزهر، وإبطال تدريس الفكر الفاطمي به : ما لبت صلاح الدين في سنة 567/1171م أن وجه للدعوة الفاطمية بمصر، طعنة قاتلة، كانت كفيلة ولا ريب بالإجهاز عليها، وذلك بقطعه للخطبة الجامعة من الجامع الأزهر الذي اتخذه الفاطميون جامعة لنشر علوم الدعوة الشيعية الإسماعيلية ( ) وذلك بعد أن قلد وظيفة القضاء صدر الدين عبد الملك بن درباس، فعمل بمقتضى مذهبه، وهو امتناع إقامة الخطبتين للجمعة في بلد واحد، كما هو مذهب الإمام الشافعي، فأبطل الخطبة من الجامع الأزهر، وأقر الخطبة بالجامع الحاكمي من أجل أنه أوسع، فلم يزل الجامع الأزهر معطلاً من إقامة الجمعة فيه مائة عام من ذلك التاريخ، إلى أن أعيدت الخطبة في أيام الملك الظاهر بيبرس ( )  ، وأيد صلاح الدين هذه الخطوة الجريئة، بإزالة الشعائر الشيعية، التي أدخلها الفاطميون إلى مصر، واستمرت بها طول عصر دولتهم، من الآذان، وإبان إقامة الصلاوات، فأبطل من الأذان قول " حي على خير العمل " واستمر الآذان في مصر على المذهب السني ( ) ومنع صلاح الدين ما كان قد تعود عليه المؤذنون في العصر الفاطمي، من السلام على الخليفة الفاطمي في الآذان ( )، وأقيمت الخطبة الجامعة بجامع الحاكم على نحو ياخذ الخطيب فيها مأخذاً سنياً يجمع فيه الدعاء للصحابة رضي الله عنهم، وللتابعين ومن سواهم، ولأمهات المؤمنين زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، ولعميه حمزة والعباس رضي الله عنهما، ويأتي للخطبة لاسباً السـواد على رسـم العباسية ( ). ومما لاشك فيه أن قطع الخطبة الجامعة من الجامع الأزهر وما صاحب هذا من تعطيل دراسة مذاهب الشيعة بالأزهر، الذي ظل طوال العصر الفاطمي أضخم مراكز الدعوة الإسماعيلية بمصر ( ) ، ثم تحويل الأزهر إلى جامعة سنية لتدريس علوم السنة وهو ما استمر عليه الحال حتى اليوم - هجرة علماء أهل السنة للتدريس فيه قد أدى إلى نشر علوم السنة بمصر وفي أغلب أرجاء العالم الإسلامي ( ) .

4- إتلاف وحرق الكتب الشيعية الإسماعيلية : عمد صلاح الدين إلى الآلآت الملوكية الفاطمية، وكنوز القصر الفاطمي، فعمل على إفسادها وأهدى بعضها إلى نور الدين زنكي، والبعض الآخر إلى الخليفة العباسي، ثم طرح باقيها للبيع، بحيث دام البيع فيها مدة عشرة سنين ( ) وتنقلت إلى البلاد بأيدي المسافرين الواردين والصادرين ( ) ، وتحول إلى كتب الدعوة الإسماعيلية، التي احتوت عليها مكتبة القصر الفاطمي، فأحرها وألقاها على جبل المقطم، ثم فرق الكتب غير المذهبية التي صودرت من مكتبة القصر، على كبار علماء وأنصار دولته، مثل العماد الأصفهاني والقاضي الفاضل، وأبي شامة الأصفهاني، مما يؤكد أن هدف صلاح الدين كان إحراق كتب الدعوة الشيعية الرافضية فقط ( ) وفي الحقيقة كانت كتب الدعوة الشيعية الإسماعيلية من أهم وسائل التأثير التي يتخذها دعاة الفاطميين للترويج لدعوتهم وقامت السلطات الأيوبية بإحراق كتب الإسماعيلية، بحيث لم يتبق من كتب الدعوة الإسماعيلية إلا الكتب التي احتفظ بها أنصار الفاطميين باليمن والهند بعد سقوط دولتهم بمصر ( ) ، هذا في الغالب.
5- ألغى جميع الأعياد المذهبية للفاطميين : لم يغب عن فكر صلاحالدين خطورة أثر الأعياد والمآتم والحسينيات المذهبية للشيعة في الترويج لمذهبهم وترسيخ معتقداتهم في نفوس المصريين، فألغىِ جميع الأعياد المذهبية للفاطميين مما أدى إلى انقراضها من مصر منُذ ذلك الوقت، وبدهاء سياسي - ومنطلق عقائدي مبني على محاربة البدع الشيعية الرافضية تّم القضاء على الأعياد المذهبية المخالفة للكتاب والسنة، واستكمالاً لهذه الخطوة، أقدم الأيوبيون على صبغ الأعياد والمواسم الدينية بمصر، بصبغة سنية، بقيت إلى اليوم ( ).

6- محو رسوم الفاطمية وعملاتهم : واقترن بمحو الرسوم الفاطمية بمصر، أبطال التعامل بالعملات الفاطمية، خاصة وأنها كانت تحمل نقش العقيدة الفاطمية المؤيدة لحقهم في الخلافة " لا إله إلا الله، محمد رسول الله علي ولي الله " وكما أنها كانت تحمل أسماء الخلفاء الفاطميين، وضيغ عقائدية فاطمية، كما أن بعضها كانت عملات تذكارية تفرق في المواسم والأعياد المذهبية الشيعية على المقربين، استمالة لهم لعقيدة الدولة ( ) .

7- الحفاظ على أفراد البيت الفاطمي : احتاط السلطان صلاح الدين على أهل العاضد وأولاده في موضع خارج القصر جعله برسمهم على الانفراد وقَرَّر لهم ما يكفيهم وجعل أمرهم إلى قراقوش الخادم، وفَّرق بين الرجال والنساء ليكون ذلك أسرع إلى انقراضهم ( ) ، فكان من دواعي السياسة وطبائع الملك أن يحتفظ الأيوبيون على جميع أفراد البيت الفاطمي، خشية أن يظهر من دعاتهم من يجمع حولهم الأتباع والمريدين والراغبين في إعادة دولتهم ( ).

8- إضعاف العاصمة الفاطمية : بعد أن نقل الأيوبيين مقر الحكم بمصر إلى قلعة الجبل، التي كانت عملاً عسكرياً بعيد المدى يهدف إلى تحصين مصر ضد هجمات الفرنج، انتهزوا هذه الفرصة لابتذال مدينة القاهرة، عاصمة الفواطم، التي ظلت طوال مدة دولتهم، مدينة ملكية، خاصة بسكن الخلفاء، وطوائف العسكر ورجال البلاد، وأرباب الدواوين، كما كانت في نفس الوقت حصناً عسكرياً بحيث كان أغلب أهل مصر، يسكنون مدينة الفسطاط ( ) ، وقد علق المقريزي على ابتذال عاصمة الفاطميين بقوله : فصارت القاهرة مدينة سكنى، بعدما كانت حصناً يعتقل به، ودار خلافة يلتجأ إليها، فهانت بعد العز، وابتذلت بعد الاحترام، وهذا شأن الملوك، مازالوا يطمسون آثار من قبلهم ويميتون ذكر أعدائهم ( ) ولكن ما فعله صلاح الدين في سبيل الله ونصرة لنبيه صلى الله عليه وسلم.

9- أحياء الأيوبيين لقضية انتحال النسب الفاطمي إلى البيت النبوي : ارتبط بإبادة الأيوبيين لجميع التراث الفاطمي، إحياءهم لقضية انتحال النسب الفاطمي إلى البيت النبوي وبيان أن الفاطميين ينحدرون من نسل يهودي أو مجوسي، والاستمرار في هدم السند الشرعي - المزيف للخلافة الفاطمية ولقد قام العلماء المعتمدون بجهود مشكورة في فضحهم، مثل ابن خلكان، وابن أبي شامة وابن واصل وغيرهم وأطلقوا على الفاطميين اسم " بني عبيد" إشارة إلى انتسابهم إلى عبيد الله بن ميمون القَداَّح المجوسي، بل نجد أبو شامة، يخبرنا بأنه ألف كتاباً منفرداً، يدلل فيه على زيف نسب الفاطميين ( ) ، ولقد خصص أبو شامة في كتابه الروضتين، صفحات طوال في بيان أدّعاهم للنسب النبوي الشريف ( ).

10- الاستمرار في ملاحقة بقايا التشيع في الشام واليمن : هكذا قضى أهل السنة بزاعمة نور الدين محمود على الدولة الفاطمية، وأبادوا تراثها، وتتبعوا أتباعها في مصر وانكمش التشيع ودخل في طور التخفي والتَستر وبدأ زوال المذهب الشيعي الإسماعيلي في مصر مع استقرار وبدأ زوال المذهب الشيعي الإسماعيلي في مصر مع استقرار عساكر نور الدين في مصر عام 564ﻫ/1168م واستمر الأيوبيون بقيادة صلاح الدين بمواصلة القضاء على الدعوة الإسماعيلية في مصر واليمن والشام واستكملوا ما بدأه الغزنويون والسلاجقة والزنكيون في محاربة الدعوة الشيعية الإسماعيلية ونشر الدعوة السنية في إيران والشام وظل التشيع يضعف في مصر شيئاً فشيئاً حتى أصبحت تدين بمذهب أهل السنة والجماعة ( ) .

والحقيقة أن التدابير التي اتخذها زعماء أهل السنة، كنور الدين وصلاح الدين في محاربة المد الشيعي الرافضي أتت أكلها فنقرض من مصر ذلك المذهب الشيعي الرافضي بشكل كامل وهو فقه عميق والأمة في أشد الحاجة إليه والدرس أن اجتثت البدع من المجتمعات الإسلامية تحتج لرؤية شاملة ومشروع متكامل بين الأحياء الإسلامي الصحيح والتصدي للفكر الباطني وتربية الأمة على انتزاع حقوقها، ومقاومة الغزاة الصليبّين وفيما مضى تحدثنا عن بعض وسائل صلاح الدين في القضاء على المذهب والتراث الفاطمي العبيدي.

وقد استفاد صلاح الدين والأيوبيون من تجارب نور الدين في الإحياء السني والتصدي للتشيع الرافضي، وإعداد الأمة للمقاومة وانتزاع حقوقها من أعدائها، ولذلك لم يبدأ صلاح الدين من الفراغ وإنما استفاد من الوسائل النورية والتي من أهمها استحداث المدارس السنية، ودور الحديث، وجعل القضاء على المذهب السني وبسط إشرافه على المدارس، واستخدام الحسبة لإعادة مذهب أهل السنة، وتشجيع التصوف السني ورصد الأوقاف لمؤسسات المجتمع المدني، ونشر عقائد أهل السنة وسيأتي تفصيل ذلك بإذن الله عند حديثنا عن الدولة الأيوبية وقد قام الباحث محمد حمدان خالد القيسي بتقديم رسالة لاستكمال المتطلبات لدرجة الماجستير في جامعة اليرموك بالأردن حول أثر جهود صلاح الدين التربوية في تغير واقع المجتمع المصري يمكن الاستفادة منها في هذا الموضوع.

ثامناً : فتوحات صلاح الدين في عهد نور الدين زنكي :

1- جهاد الصليبيين وإخراجهم من بلاد المسلمين : تحقق هدف نورالدين محمود " المرحلي" وهو الوحدة الكاملة بين شمال العراق وبلاد الشام ومصر وبعد سنتين أي في عام 569ﻫ/1174م شملت مملكة نور الدين السودان والحجاز واليمن، فأصبح المشرق الإسلامي كله دولة واحدة تأمر بأمر زعيم واحد ينظر بشوق ولهفة إلى الهدف الاستراتيجي الذي سعى لتحقيقه، منُذ بداية حكمه، وهو تحرير بلاد الشام من الفرنجة المحتلين ( ) ، وقد أصبح هذا الهدف يلوح في الأفق فأمر بصنع منبر فخم للمسجد الأقصى لكي يأخذه معه عندما يتوجه لفتح القدس ( ) ، وكتب إلى صلاح الدين يأمر بالمسير على رأس جيش مصر ليلقاه على قلعة الكرك الفرنجية ( )، سار صلاح الدين كما أمره نور الدين وحاصر قلعة الشوبك "جنوب الكرك " فلم علم نور الدين بذلك خرج من دمشق نحو الجنوب ليلقى صلاح الدين ولكنه تلقى رسالة منه قبل وصوله إليه يبلغه فيها أن الأمور اضطربت بمصر وأنه يخشى استيلاء المعارضين على الأمور فيها، ولابد له من العودة لضبط الأمور وأنه سيعود في العام القادم للجهاد مع نور الدين ( ) ، كان نور الدين مهتماً اهتماماً كبيراً بقلع الكفار من بلاد الشام وعندما وصله شيء من ذخائر قصور الفاطميين، وغرائب المصنوعات من الذهب واللؤلؤ : قال : والله ما كانت بنا حاجة إلى هذا المال ولانسد به خلة الإقلال - فهو صلاح الدين - يعلم أنا ما أنفقنا الذهب في مصر وبنا إلى الذهب فقر .. لكنه يعلم أن ثغور الكفار من بلاد الشام ( ) . أي أنه لا يريد من المال والرجال إلا قلع الكفار من سواحل البلاد ( ) وأما صلاح الدين فقد كان يتفق مع نور الدين في الأهداف الاستراتيجية إلا أنه خاف من اضطراب مصر، فكان يهمه ترتيب شؤون مصر أولاً وصرف همه لهذا، ولذلك اضطر للرجوع ويبدو أن نور الدين فكر بدخول مصر بجيوشه والألتفاف على الصليبيين منها بقيادته وأحس صلاح الدين بنية نور الدين فجمع أهله في مصر وكان من بينهم أبوه نجم الدين وخاله شهاب الدين الحارمي ( ) ، وبعض قادة الجيش وشاورهم فيما سمعه عن نية نور الدين التوجه لمصر وعزله عنها، فأشار عليه أحد أبناء إخوته ويدعى عمر بأن يتم الاستعداد لمقاتلة نور الدين إذا حضر لمصر، ووافقه بعض الحاضرين على رأيه، فبادر نجم الدين والد صلاح إلى زجِرهم واستنكار قولهم وقال لصلاح الدين : أنا أبوك وهذا خالك شهاب الدين ونحن أكثر محبة لك من جميع من ترى، ووالله لو رأيت أنا وخالك هذا نور الدين لم يمكننا إلا أن نقبل الأرض بين يديه، ولو أمرنا أن نضرب عنقك بالسيف لفعلنا، فإذا كنا نحن هكذا، فما ظنك بغيرنا، وكل من تراه عندك من الأمراء لو رأوا نور الدين وحده لم يتجاسروا على الثبات على سروجهم، وهذه البلاد له، ونحن مماليكه ونوابه فيها، فإن أراد عزلك سمعنا وأطعنا والرأي أن تكتب كتاباً مع نجاب تقول فيه : " بلغني أنك تريد الحركة لأجل البلاد فأي حاجة إلى هذا، يرسل المولى نجاباً يضع في رقبتي منديلاً ويأخذني إليك، وماها هنا من يمتنع عليك ( ) وقال للجماعة كلهم : قومُوا عنا، فنحن مماليك نور الدين وعبيده، ويفعل بنا ما يريد، فتفرقوا على هذا، وكتب أكثرهم إلى نور الدين بالخبر ( ) ، ولما خلا نجم الدين أيوب بابنه صلاح الدين قال له : أنت جاهل قليل المعرفة، تجمع هذا الجمع الكثير، وتطلعهم على ما في نفسك، فإذا سمع نور الدين أنك عازم على منعه من البلاد جعلك أهمَّ الأمور إليه وأولاها بالقصد، ولو قصدك لم تَر معك من هذا العسكر أحداً، وكانوا أسلموك إليه وأما الآن بعد هذا المجلس، فسيكتبون إليه ويعَّرفونه قولي وتكتب أنت إليه وترسل في هذا المعنى وتقول : أي حاجة إلى قصدي ؟ يجيء نجاب يأخذني بحبل يضعه في عنقي، فهو إذا سمع هذا عدل عن قصدك، واشتغل بما هو أهمّ عنده ( ) وكان نجم الدين أيوب شديد الحب والولاء والطاعة لنور الدين رحمه الله تعالى - الأمر هكذا عدل عن قصده، وكان الأمر كما قال نجم الدين ( ) . وفي بداية عام 568ﻫ/1173م وبعد عودة نور الدين من أذربيجان وأرمينية، تسلم منشوراً من الخليفة بالموصل والجزيرة وإربل وخلاط والشام وبلاد قلج أرسلان وديار مصر وفي شهر شوال من نفس العام خرج صلاح الدين بجيشه إلى الكرك وحاصرها وأعلم نور الدين بخروجه تنفيذاً لما تّم الاتفاق عليه في العام السابق، فخرج نور الدين دمشق بدوره ليلقاه فلما وصل إلى الرقيم (في وسط الأردن) تلقى رسالة من صلاح الدين يبلغه فيها أن والده بمصر مريض، ويخشى عليه الموت فيستغل المصريون الفرصة ويستولوا على البلاد ويمتنعوا فيها وأنه مضطر للرحيل إلى مصر ( ). وعندما علم نور الدين بذلك قال : إن حفظ مصر أهم عندنا من غيره ( ) ثم لم تلبث أن جاءت الحوادث مصدقة لمخاوف صلاح الدين فقامت عليه ثورة كبيرة بقيادة مؤتمن الخلافة جوهر، كما قامت بعدها مؤامرة ضخمة شارك فيها عمارة اليمني وبقية أنصار المذهب الشيعي الرافضي وقد بينت ذلك فيما مضى وفي عام 568ﻫ شن نور الدين الغارات على الصليبين وكان العماد الأصفهاني راكباً مع الملك العادل وهو يقول له كيف تصف ما جرى ؟ فمدحه بقصيدة : وكان ذلك في دفاع نور الدين عن حوران فقال :

 عُقِدت بنصرك راية الإيمان
 ٭٭ وبَدَت لِعَصْرِكَ آية الإحسان

يا غالب الغُلْبِ الملوك وصائد
 ٭٭ الصيد اللُّيوث وفارس الفُرسان

يا سالبَ التَّيجان من أربابها
 ٭٭ حُزت الفخار على ذوي التَّيجان

محمود المحمود ما بين الورى
 ٭٭ في كلَّ إقليم بكلَّ لسان

يا واحداً في الفضل غير مُشَارَكٍ
 ٭٭ أقسمت مالك في البسيطة ثان

أحلى أمانيك الجهاد وإنّه
 ٭٭ لك مؤذِنٌ أبداً بكلَّ أمان

كم بكر فتح ولَّدته ظُباك من
 ٭٭ حرْبٍ لقمع المشركين عَوَان

كم وقعةٍ لك بالفرنج حديثها
 ٭٭ قد سار في الآفاق والبلدان

قَمَّصت قُومَصهُم رداء من ردّى
 ٭٭ وقرنت رأس برنسهم بسنان

وملكت رِقَّ ملوكهم وتركتهم
 ٭٭ بالذُّل في الأقياد والأسجان

وجعلت في أعناقهم أغلالهم
 ٭٭ وسحبتهم هوناً على الأَذقان

إذ في السوابغ تُحطمُ السُّمُر القنا
 ٭٭ والبيض تُخضبُ بالنَّجيع القاني

وعلى غِنَاءِ المشرفيَّة في الطُّلى
 ٭٭ والهام رَقصُ عواليَ المُرَّان

وكأن بين النَّقع لَمْعَ حديدها
 ٭٭ نارٌ تألَّفُ من خلال دُخان

في مأزق وردُ الوريد مُكَفَّلُ
 ٭٭ فيه برِيَّ الصَّارم الظمان

غطّى العجاج به نجوم سمائه
 ٭٭ لتنوب عنها أنجٌم الخُرصان

أو ماكَفاهم ذاك حتى عاودوا
 ٭٭ طُرُق الضَّلال ومركب الطُّغيان


ومنها :

وجلوت نور الدين ظُلمةَ كُفرهم
 ٭٭ لمَّا أَتيت بواضح البُرهان

وهزمتهم بالرَّأي قبل لقائهم
 ٭٭ والرأي قبل شجاعة الشُّجعان

أصبحت للإسلام ركناً ثابتاً
 ٭٭ والكفُرُ منك مضعضع الأركان

قَوَّصت أساس الضَّلاَل بعزمك
 ٭٭ الماضي وشِدت مباني الإيمان

قل أين مثلُك في الملوك مجاهدٌ
 ٭٭ لله في سَّر وفي إعلان

لم تَلْقَهم ثقة بقوة شوكة
 ٭٭ لكن وَثِقت بنصرة الرّحمان

وبلغت بالتَّأييد أقصى مَبْلَغَ
 ٭٭ ما كان في وُسع ولا إمكان

دانت لك الدُّنيا فقاصيها إذا
 ٭٭ حقَّقته لنفاذ أمرك داني

فمن العراق إلى الشّاَم إلى ذُرا
 ٭٭ مصر إلى قُوص إلى أُسوان

لم تَلْهُ عن باقي البلاد وإنما
 ٭٭ ألهاك فرض الغزو عن هَمَذان

للرُّوم والإفرنج منك مصائب
 ٭٭ بالترك والأكراد والعربان

أذعنت لله المهيمن إذ عنت
 ٭٭ لك أوجه الأملاك بالإذعان

أنت الذي دون الملوكِ وجدته
 ٭٭ ملآن من عُرْفٍ ومن عِرفان

في بأس عمرو في بسالة حيدر
 ٭٭ في نطق قُسَّى في تُقَى سلمان

سِرٌ لو أنَّ الوحي يَنْزل أنُزلت
 ٭٭ في شأنها سُوَرٌ من القرآن

فاسلم طويلَ العُمرْ ممتدَّ المدى
 ٭٭ صافي الحياة مُخَلَّدَ السُّلطان( )


2- ضم المغرب الأدني : عمل صلاح الدين على تحصين إنجازاته التي حققها في مصر وذلك بتأمين حدود بلاده حتى لا يؤخذ على غَّرة وأسفرت جهوده عن ضم المغرب الأدنى فقد كانت شمال إفريقية مرتبطة عضوياً بمصر منُذ الفتوحات الإسلامية الأولى، فكان من الطبيعي أن تتجه أنظار صلاح الدين إلى ضمَّ بلدانها للاستفادة من ثرواتها من جهة، وبفضل موقعها الجيد في حماية حدود مصر الغربية من جهة أخرى ففي عام 568ﻫ/1173م أرسل صلاح الدين قوة عسكرية إلى المغرب الأدني بقيادة شرف الدين قراقوش غلام المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب، فدخل طرابلس وبرقة وبعض بلاد المغرب الأدنى حتى قابس، باستثناء المهدية وسفاقس، وقفصة، وتونس ( ).

3- ضم اليمن : يدخل ضم اليمن ضمن المخطط النوري الهادف إلى توحيد جيهة إسلامية واحدة لمقاومة الغزو الصليبي ( ) وقد حققت سياسة صلاح الدين في ضم اليمن إلى :

أ  - التضييق على أنصار الفاطميين وبخاصة أن والي اليمن عبد النبي بن مهدي كان شيعياً رافضياً.
ب- استطاع صلاح الدين تأمين حدود مصر الجنوبي، لأن ضم اليمن، الذي يُعدُّ مفتاح البحر الأحمر من ناحية الجنوب، يؤمن له السيطرة العسكرية والتجارية على الأقاليم الجنوبية ويُبعد احتمال حدوث تقارب بين الصليبيين الذين يتطلعون للسيطرة على البحر الأحمر وبين الحبشة التي تدين بالديانة النصرانية، حتى لا يقع بين فكي الكماشة الصليبية على سواحل البحر المتوسط في الشمال، والأحباش على سواحل البحر الأحمر في الجنوب.

ت- كانت اليمن آنذاك تمر بمرحلة عدم استقرار تتنازعها الأهواء السياسية والدينية والمذهبية وبخاصة بين زبيد وصنعاء، كما ظهر دعيُّ زعم أنه المهدي المنتظر هو عبد النبي بن مهدي وتغلبَّ على اليمن، وخطب لنفسه بعد أن قطع الخطبة للعباسيين، وتسمَّى بالإمام، وبنى على قبر أبيه قبَّة عظيمة، وأمر أهل اليمن بالحج إليها ومنعهم من الحج إلى مكة.
ث- أراد صلاح الدين وضع حد لهذه التجاوزات والمساوئ التي تهدد وحدة المسلمين وبخاصة بعد أن أرسل إليه أهل اليمن يستنجدون به لإنقاذهم ( ) . ومهما يكن من أمر، فقد : وجه صلاح الدين سرية بقيادة أخيه الأكبر شمس الدولة توران شاه الذي ورد مكة فاعتمر بها وسار منها إلى زبيد، فامتلكها كما سار إلى عدن وامتلكها ومنع الجيش من نهبها وقال : ما جئنا لنخرب البلاد، وإنما جئنا لعمارتها وملكها، ثم سار إلى بقية الحصون والمخالف والمعاقل فملكها، واستوثق له ملك اليمن بحذافيره وخطب للخليفة العباسي  ( ) . وقتل الدعي المسمى بعبد النبي، وصفت اليمن من أكدارها، وعادت إلى ما سبق من مضمارها  ( ) ، وكتب شمس الدولة إلى أخيه الملك الناصر صلاح يخبره بما فتح الله عليه وأحسن إليه، فكتب الملك صلاح الدين بذلك إلى نور الدين، فأرسل نور الدين بذلك إلى الخليفة يبشره بفتح اليمن والخطبة بها له  ( ).

4- فتح بلاد النوبة : وكانت وقتها مملكة نصرانية عاصمتها مدينة دنقلة تقع في أعالي النيل، وتربطها بمصر روابط متينة بشكل عام منُذ الفتح الإسلامي ولما قامت الدولة الأيوبية في مصر أراد صلاح الدين فتح بلاد النوبة لحماية مصر من التعدّي عليها من ناحية الجنوب وأرسل أخاه تورانشاه في شهر جمادي الاخرة عام 568ﻫ/ شهر كانون الثاني عام 1173م إلى بلاد النوبة، ففتح إبريم، وسبى وغنم، ثم عاد إلى قوص، ودخل الإسلام إلى أماكن لم تطرقها سنابك خيل المسلمين من قبل وعين إبراهيم الكردي والياً عليها  ( ) وكان هذا الفتح سبباً في إزالة الحواجز التي كانت تؤول دون انتشار الإسلام  ( ) فيها.