للقراءة والتحميل: مراجعة حول كتاب: السودان في العهد العثماني من خلال وثائق الأرشيف العثماني
ترجمة: د. صالح سعداوي. تقديم: د. خالد أرن، و د. يوسف صاريناي. الناشر: مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية في إستانبول (إرسيكا). مراجعة: د. محمود السيد الدغيم؛*
نُشرت هذه المراجعة في جريدة الحياة - لندن: ملحق التراث؛ ص: 17 يوم السبت 12 جمادى الأولى سنة 1429 هـ: 17أيار/ مايو 2008م

*****

*****

*****

تقديم حول الوثائق العثمانية

تهتمُّ الأممُ الحيّة بتراثها، وتحافظ على وثائقها القديمة والحديثة، وترفعُ قيود الرقابة السرية عن الوثائق بأزمنة متفاوتة، وتتيح الاطلاع عليهما للباحثين بعد مرور مدّة زمنية تُجنِّبُ الأمّة الأضرار التي تترتّب على نشر الوثائق قبل تقادُم الزمن، وقد اهتمّت الجمهورية التركية بالأرشيف العثماني اهتماماً لائقاً منذ عهد الرئيس الراحل طورغوت أوزال، فوضعتْ أُسُسَ بناء جسور ثقافية تَصِلُ الأتراك المعاصرين بالتراث العثماني الذي فَصَلَتْهُم عنه عمليةُ استبدالِ الحروف العربية العثمانية بالحروف اللاتينية التركية، فجمعتْ عدداً من النَّقَلَةِ الْمُلمين بقديم اللغة التركية وجديدها، وقدَّمتْ لهم إغراءات مادية بلغتْ في بعض الأحيان ثلاثة أضعاف رواتبهم الشهرية في المؤسسات التي كانوا يعملون فيها قبل التحاقهم بإدارة الأرشيف العثماني التابعة لمجلس الوزراء التركي.
وبعدما بَنَتْ الحكومةُ التركية الأُطرَ اللازمة للأرشيف العثماني؛ أتاحتْ للباحثين حرية البحث في محتويات الأرشيف العثماني وملحقاته، وفي السنوات الأخيرة حصلتْ نقلةٌ نوعية في مؤسسة الأرشيف العثماني وغيره جراء التطور التكنولوجي الذي أتاح تصوير الوثائق على الأقراص المدمجة (سي دي، أو دي في دي) وبدأت الحكومة التركية تنفيذ خطة شاملة لتصوير كافة محتويات الأرشيف العثماني وغيره، وبذلك أتاحت للباحثين فرصاً جديدة للاطلاع على مصورات دقيقة للوثائق بسهولة ويُسرٍ وجَودةٍ عالية، كما بدأت الحكومة التركية بتنفيذ خطة شاملة مماثلة لتصوير كافة المخطوطات والوثائق العربية والإسلامية المحفوظة في مكتبات التراث التركية.

*المعوقات اللغوية التي تَحُوْلُ بين العرب وتاريخهم في العهد العثماني*
ورغم أن الإدارة العامة للأرشيف العثماني قد أصدرت العديد من الإصدارات المفيدة للباحثين، فإن الاستفادة القصوى من تلك الإصدارات بقيت محدودة بالنسبة للباحثين العرب بسبب الحواجز اللغوية، فعلى سبيل المثال يتمُّ باستمرار تطويرُ دليل الأرشيف العثماني الذي صدرت طبعته الثانية باللغة التركية سنة 2000م، وهي تقع في 558 صفحة، ولكن ترجمة التطورات الأرشيفية إلى اللغة العربية يبقى متأخراً ودون المستوى المطلوب رغم ما تقدّمه للباحثين من شرح مفيد حول الأرشيف وأقسامه ورموزه، وما يكشف عنه من الوثائق أوّلاً بأول مما يُسهِّل طُرُقَ الاستفادة من هذا الأرشيف الذي تموضعت ملايينُ وثائقه على رفوفٍ يبلغ طولها ستة عشر كيلومترا.
وهنالك إصداراتٌ أُخرى باللغة التركية تَهُمُّ الباحثين العرب مثل كِتاب الفرمانات العثمانية الصادر باللغتين التركية والإنكليزية سنة 2003م مع مصورات ملونة للفرمانات العثمانية طبق الأصل؛ وكتاب مصور للدفتر المفصل لتحرير لواء كركوك في عهد السلطان سليمان القانوني، مع تحويل مضمون الدفتر من اللغة التركية العثمانية إلى التركية الحديثة ، وكتاب مدينة قازان (الروسية) وما يخصها من الوثائق العثمانية الذي صدر عن الإدارة العامة للأرشيف سنة 2005م، وهنالك الكثير من المنشورات التركية الأرشيفية التي تهم الباحث والمثقف والمؤرخ العربي، ولكن الحواجز اللغوية تحوْلُ دون تحقيق الفوائد المرجوّة من تللك المنشورات التركية التي تهم الباحثين العرب.

*طُرُق التعاون والاستفادة بين العرب والأتراك*
إن استفادة الباحثين العرب من التراث الإسلامي العثماني تتطلّب تعاونا عربيا تركيا مُشترَكا يتناسب مع التاريخ المشترك الذي بدأه السلاجقة وطوَّرَه الأتابكةُ الزنكيون فالمماليكُ، وكرُّسه السلاطين والخلفاءُ العثمانيون، ولا سيما بعد سنة 1516م، وما تبعها من نقلِ مقرِّ الخلافة الإسلامية إلى مدينة إسلامبول، وما أعقب ذلك من مصير مُشترك استمرَّ حتى سنة 1924م، وما ترتب على ذلك من قضايا معاصرة. وهنا لابدَّ لنا من التنبيه - مع الأسف - إلى أن الاهتمام الأوروبي بالتراث الإسلامي العثماني يفوق الاهتمام العربي، وهنالك استعدادت مذهلة تجري لتكريس إستانبول عاصمة للثقافة الأوروبية سنة 2010م، فهل من مستيقظ؟.
إن استفادة الباحثين والقُرّاء العرب من الوثائق العثمانية تتطلب أموالاً طائلة، وإرادةً هائلة، وجهوداً مُضنية، وعلوما نافعة، ونوايا حسنة، فقراءةُ الوثائق العثمانية تتطلَّبُ معرفةَ أماكن وُجود الوثائق أولاً، والتمكُّن من قراءة خطوط تلك الوثائق وفكّ رموزها ثانياً، ونقلها إلى اللغة التركية المعاصرة ثالثاً، وترجمتها إلى اللغة العربية رابعاً، ونشرها وتوزيعها في البلدان التركية والعربية والعالمية خامساً، وهنالك عوائق أُخرى مثل ترميم الوثائق، وإتمام ما بها من نقص حروف أو كلمات وهذا يتطلب خبرات علمية وعملية كثيرة تضاف إلى ماسبق من متطلبات.
لقد قدّم العاملون في مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية في إستانبول التابع لمنظمة العالم الإسلام بعض المنجزات المفيدة من أجل بناء جسور التواصل بين العرب والأتراك، ولكنها مازالت تحبو وتحتاج المزيد من الرعاية، فمن أمثلة تلك المنجزات جهود العاملين بالمركز في تعريب عدد لا بأس من الكتب التي تهم الباحثين العرب، ففي مجال المكتبات صدر سنة 1404 هـ/ 1984م فهرس مخطوطات الطب الإسلامي باللغات العربية والتركية والفارسية الموجودة في عموم مكتبات تركيا، وتبعه فهرس مخطوطات مكتبة كوبريلي في ثلاثة مجلدات سنة 1406 هـ/ 1986م، وصدر فهرس المخطوطات الإسلامية في قبرص سنة 1415 هـ/ 1995م، وهنالك إصدارات أخرى لا يتسع هذا المقال لذِكرها.
وفي إطار بناء الجسور الثقافية المعاصرة بين العرب والأتراك ،وصِلة وصلِهم بالتراث العثماني المشترك نشر مركز إرسيكا سنة 2003م كتاب الثقافة التركية في مصر (جوانب من التفاعل الحضاري بين المصريين والأتراك، مع معجم للألفاظ التركية في العامية المصرية) وقد أعدّ ذلك الكتاب كل من أكمل الدين إحسان أوغلى وصالح سعداوي صالح، والتفت العاملون في المركز إلى مسألة الوثائق منذ زمن، وفي هذا الإطار جاء نشر كتاب "السودان في العهد العثماني من خلال وثائق الأرشيف العثماني" فشكل هذا الكتاب فاتحة خير تتطلب المزيد من الجهود لتعريب كافة الوثائق المتعلقة بالسودان والقرن الإفريقي، وغير ذلك من المناطق العربية التي تَمَتَّعتْ بحماية ورعاية الخلافة الإسلامية العثمانية، وبقيت ملايين الوثائق التي تشهد على تلك الرعاية محفوظةً في المستودعات، ولكنها تنتظر مَن يقومُ بترجمتها إلى اللغة العربية لكي تتاحَ للعرب فرَصُ الاطلاع على ما فيها معلومات لها أهميتها العظمى في تشكيل الهوية التاريخية للأمة الإسلامية والعربية.

*كتاب السودان في العهد العثماني*
كتاب السودان في العهد العثماني من خلال وثائق الأرشيف العثماني؛ يشكل نموذجاً من نماذج العمل الجماعي المطلوب، والضروري للاستفادة من التراث الإسلامي العثماني؛ وذلك لأن مثل هذا الكتاب يصعب إنجازه على شخص واحد جراء تعدُّدِ العقبات التي يتطلّبُ تجاوزُها العملَ الجماعي لتأمين خبرات وإمكانات تفوق ما يتطلبه العمل الفردي.
يتألفُ الكِتابُ من قسمين أساسيين، يضمُّ أحدُهما صُوَرَ الوثائق الأصلية باللغة العثمانية التركية، وباللغة العربية، وغيرهما من اللغات الأُخرى التي كُتبت به الوثائقُ، وخطوطُ هذه الوثائق متنوعة تشمل الخطَّ الديواني وخط الرقعة والنسخ والثُّلُث والتعليق والنستعليق والخط السلطاني وخط السياقات الوارد في الوثيقة: 33، وهو بمثابة الشيفرة العُثمانية الذي لا تتقنُ قراءَتَهُ إلا قِلّةٌ نادِرة مِن العُلماء، وحتى الوثائق المكتوبة باللغة العربية تصعبُ قراءتها على الكثيرين من العرب بسبب نوعية الخط، واستخدام لهجات محلية، وكلمات غير عربية، ولكنَّ ترجمةَ تلك الوثائق إلى التركية العثمانية سابقاً، ونَقلَها إلى التركية المعاصرة ثانيا، وترجمتَها إلى العربية ثالثاً، والمقارنة بين الترجمة وبين الأصل رابعاً؛ سوف تقدّمُ للقارئ العربي نصّاً واضحاً ومفهوماً، ومثال ذلك الوثيقة ذات الرقم: 72 مع الخريطة الإفريقية التي أرسلت من باريس إلى طرابلس الغرب، ومنها إلى نظارة الداخلية العثمانية، وفيها إيضاحٌ للمواقع الإسلامية، والجيوب الأوروبية التبشيرية على الخارطة الإفريقية، وتوضيحٌ لنوايا الاستلاء على الأماكن الإسلامية المقدسة في مكة المكرمة والمدينة المنورة.
لقد أعدّت الوثائقَ التي في الكتابِ هيئةٌ علمية من الباحثين بإشراف السيد أوغورخان دميرباش، وأعضاء الهيئة هم: علي عثمان جنار، ومجاهد دميرال، وسحر دلبر، ورجب قره جه قيا، ونوران قولتوق، وأم هاني أونملي أوغلى، وكمال غورولقان، ويوسف إحسان كنج، والخبرات التي يتمتع بها أعضاء الهيئة أتاح الكشف عن خبايا الوثائق ومحتوياتها.
وبعدما أعدت الهيئة الوثائق؛ قام بترجمتها إلى اللغة العربية كبير مترجمي المركز صالح سعداوي صالح ذو الخبرة الواسعة باللغتين العربية والتركية، وتقع الترجمة في 230 صفحة؛ يليها كشاف عام يقع في أربعة عشرة صفحة، ويتضمَّن أسماءَ الأشخاص والْمُدن والبُلدان والحكومات والْمِهَن والْحِرَف وغيرَ ذلك مما يُساعد الباحثَ على الوصول إلى المعلومات التي يريدها.
كَتَبَ تصديرَ الكِتاب في ثلاث صفحات خالد أرن مدير عام إرسيكا، وكتب التقديم في ثلاث صفحات يوسف صاريناي مدير عام دُورِ الوثائق والمحفوظات في تركيا، وتلَت التصديرَ والتقديمَ مقدمةٌ في عشر صفحات، ومما جاء فيها: "وقد وُضع هذا الكتابُ لِسَدِّ النّقصِ الملحوظ ولوْ قليلاً في الدراسات التي أُجريتْ حتى الآن في موضوع (السودان في العهد العثماني)... والمصادر التي اعتُمِدَ عليها في هذا الكتاب هي الوثائق التي تَمَّ اختيارُها من بين محفوظات الأرشيف العثماني في الغالب والمتعلقة بالسودان، وهي من دفاتر المهمات، ودفاتر الرؤوس، ودفاتر الرسائل الهمايونية وغيرها من الوثائق الْمُستخرَجة من أقسام الأرشيف المتعدِّدة، كما تَمَّت الاستفادة من الحوليات والمذكّرات، والكُتُب القليلة العدد التي كُتِبَتْ في هذا الموضوع، وخاصةً كتاب جنكيز أورخونلو بالتركية (سياسة الجنوب في السلطنة العثمانية – أيالة الحبش).
وبعد المقدّمة وَرَدَ جدولُ المختصرات المستعملة في الكتاب، وتلَتْهُ قائمةُ الوثائق الواردة في الكتاب، وتوزيعها على أقسام أرشيف رئاسة الوزراء التركية، وضمّت أقسامَ الدفاتر التي شملت دفاتر المهمة في الديوان الهمايوني، وتصنيفَ كامل كبجي: دفاتر الرؤوس، ودفاتر الأحكام، وتصنيفَ يلديز: دفاتر المعروضات.
كما تضمت أقسامَ الوثائق التي شملت تصنيفَ جَوْدَت وفيه: أوراق قسم المالية، وأوراق قلم المكتوبي في نظارة الداخلية، وتصنيفَ الإرادة وفيها: أوراق المابين الهمايوني، ومضابط مجلس الوكلاء، وقلمَ مكتوبي الصدارة وفيه: أوراق المجلس الأعلى، وقلمَ مكتوبي الصدارة وفيه: أوراق النظائر والدوائر، وأوراق عموم الولايات، وتصنيفَ يلديز وفيه: معروضات خصوصية من الصدارة، وأوراق أساسية، ومعروضات متنوعة، وأوراق متفرقة ومعروضات عسكرية، وعرضحالات متفرقة وتقارير جورنال، وأوراق الباشكاتب المتفرقة، وأوراق متفرقة ومعروضات نظارة الداخلية، والأوراق المتفرقة من السفارات والشهبندرات والملحقين العسكريين، وأوراق هيئات التفتيش وتحريرات المفوضيات السامية، ومعروضات دائرة المشيخة الإسلامية، والتحريرات الأجنبية ؛ وهيئة ترجمة المابين، ومعروضات عموم الولايات.
وتضمّن الكتابُ تمهيداً حول الأرشيف العثماني وأهميته في كتابة تاريخ الشرق الأوسط الحديث، وتلاهُ الفصلُ الأول بعنوان: السودان في العهد العثماني، وبحث في ثلاثة محاور:
أولها: سياسة الدولة العثمانية في الجنوب، وشَمَلَ الحربَ الأوروبية على الهند، وعلاقتها بشرق إفريقيا، والعلاقات مع الإمارت المسلمة، وأول حملات أوزدمير بك على جنوب مصر، وتشكيل إيالة الحبش، وتوسيع حدودها، وأوضاع سنجق سواكن، وهجوم الفونج عليه، وبوادر مشروع قناة السويس العثماني وأسباب عدم إنجازه.
وثانيها: تشكيلات إيالة الحبش وإدارتها، وشَمَلَ أوضاعَ إيالة الحبش منذ قيامها حتى القرن الثامن عشر، وتناول التحرير في إيالة الحبش، وسنجق سواكن، وسنجق إبريم، وإيالة جدة وسواكن في القرن الثامن عشر، وما يتعلق بذلك من الأوضاع المالية ومصادر الدخل والمصاريف، والاحتياجات المختلفة لدرء العدوان الخارجي، وإخضاع التآمر الداخلي، وإقرار الامن والأمان.
وثالثها: علاقات العثمانيين بالسودان في القرن التاسع عشر، ويشمل سيطرة محمد علي باشا القوللي "البكتاشي" على السودان، ثم الاحتلال البريطاني للسودان، ونظرة الخلافة الإسلامية العثمانية للحركة المهدية في السودان ومَنْ وراءَها، واستيلاء بريطانيا على السودان للمرة الثانية وأسبابه.
وتضمَّن الفصل الثاني من الكتاب ترجمة عربية للوثائق العثمانية المختارة، مع ترقيمها بأرقام مطابقة للأرقام التي تحمِلُها صُوَرُ الوثائق المثبتة في الكتاب.
إن الوثائق المترجمة في هذا الكتاب تُتِيُح للقارئ العربي فرصةَ الاطلاع المباشر على المواقف العثمانية النبيلة، وما تحمَّلَتْه دولة الخلافة العثمانية ورجالُها المخلصين من مسؤوليات جسيمة لحماية إخوانهم الأفارقة من أطماع الأوروبيين، وتُثْبِتُ الوثائقُ بشكل واضح وصريح أن المواقف العثمانية كانت من باب التضحية لأسباب إنسانية إسلامية على عكس الأطماع الأوروبية والأميريكة الأنانية التي كانت ومازالت تستولي على أرزاق الشعوب الإفريقة والآسيوية لتأمين الرفاه لشعوبها على حساب الآخرين.
*******

*******

اضغط وحمل


thumb qr1 
 
thumb qr2
 

إحصاءات

عدد الزيارات
16430589
مواقع التواصل الاجتماعية
FacebookTwitterLinkedinRSS Feed

صور متنوعة